[ترجمة]
29 كانون الأوّل/ ديسمبر 2015
إلى مؤتمر هيئات المشاوَرين القارّيّة
الأحبّاء الأعزّاء،
شارفت الخطّة الّتي استهلّها العالم البهائيّ قبل زهاء خمسة أعوام على مراحلها الختاميّة؛ وفيما لا تزال حصيلة إنجازاتها في نموّ مطّرد، إلّا أنّها ستُختتم قريبًا. إنّ المساعي الجماعيّة الّتي ألهمتها هذه الخطّة تطلّبت اعتمادًا كليًّا على تلك القوى الّتي وهبها البارئ الكريم إلى أحبّائه. إنّنا إذ نجتمع معكم في لحظات التّأمّل هذه، لندرك مدى عزم الأحبّاء وإصرارهم على الوصول بالخطّة الحاليّة إلى خاتمةٍ مشرّفة، ومدى الشّوق الّذي يدفعهم للمضيّ قُدُمًا على المسار الّذي اختطّته التّجربة.
إنّ المسافة الشّاسعة الّتي تمّ اجتيازها في هذا المسار تتجلّى بوضوح من خلال النّتائج المبهرة للخطّة الحاليّة. فالهدف الطّموح المتمثّل في رفع عدد المجموعات الجغرافيّة الّتي يجري فيها برنامج للنّموّ، وفي أيّ مستوى من التّكثيف، إلى 5,000 مجموعة جغرافيّة يبدو في طريقه إلى التّحقّق خلال الأشهر المتبقّية قبل حلول رضوان 2016. في العشرات تلو العشرات من المجموعات الجغرافيّة يشارك ما يناهز الألف، وأحيانًا عدّة آلاف، من سكنتها في نمط عملٍ محكمٍ يضّم أعدادًا متناميةً من المشاركين أكثر من أيّ وقت مضى، وفي تنشئة مجتمعاتٍ تستقي عادات فكرها وعملها من معين ظهور حضرة بهاء الله. لقد تمكّن حتّى الآن نصف مليون فرد حول العالم من إنهاء الكتاب الأوّل من سلسلة الدّورات على أقلّ تقدير، ما يعتبر إنجازًا باهرًا وضع أساسًا راسخًا لنظام تنمية الموارد البشريّة. وهناك جيلٌ من الشّباب يهبّون للعمل تُحفّزهم رؤيةٌ ثاقبةٌ نحو الكيفيّة الّتي يمكنهم من خلالها المساهمة في بناء عالمٍ جديد. مبهورين بما يشاهدونه، فإنّ قادة المجتمع في بعض المناطق أخذوا يُلحّون على البهائيّين لجعل برامجهم التّعليميّة للأجيال الصّاعدة من شبابٍ وناشئة متاحةً على نطاقٍ واسع. إنّ المؤسّسات البهائيّة ووكالاتها أخذت تواجه التّعقيد المتنامي بالبحث عن سبلٍ لتنظيم أنشطة الأعداد المتزايدة من الأصدقاء من خلال تعزيز التّعاون والدّعم المتبادل. كما أنّ القدرة على التّعلّم والّتي تمثّل ذلك الإرث النّفيس الّذي خلّفته الخطط السّابقة، تمتدّ لتتجاوز دائرة التّوسّع والاستحكام لتشمل مجالاتٍ أخرى من المساعي البهائيّة، لا سيّما العمل الاجتماعيّ والمشاركة في الحوارات السّائدة في المجتمع. إنّنا نرى جامعةً تزداد متانةً واستحكامًا من خلال القوّة والخبرة المكتسبة بعناء خلال عقدين من سعيٍ متواصلٍ ركّز على هدفٍ مشتركٍ ألا وهو إحراز تقدّمٍ كبيرٍ في عمليّة الدّخول في دين الله أفواجًا.
لا شكّ هناك أبدًا بأنّ هذه العمليّة ينبغي لها أن تتقدّم أكثر بكثير؛ ومع ذلك فإنّ التّطوّرات تُظهر لنا أنّ تقدّمًا كبيرًا قد حدث فعلًا. فقد أعدّت هذه العمليّة أحبّاء الله لامتحانٍ أكثر جسامةً لقدراتهم، امتحان يضع أيضًا متطلّبات عظيمةً على عاتق مؤسّستكم وأنتم تحشدون قواهم لتلبية احتياجاتها. في الخطّة القادمة والّتي ستنتهي على عَتَبة القرن الثّاني من عصر التّكوين لأمر الله، سوف ندعو المؤمنين في كلّ مكان لبذل الجهد الجهيد اللّازم حتّى تُثمر البذور الّتي تمّ غرسها وسقياها بمنتهى المحبّة والهمّة خلال الخطط الخمس الماضية فَتُؤتي أُكلها.
نشوء برنامج للنّموّ
إنّ تكشّف عمليّة النّموّ في المجموعة الجغرافيّة، بينما تحظى بسماتٍ فريدةٍ في كلّ حالةٍ حسب استعداد من تصلهم التّعاليم الإلهيّة، فإنّها تتوافق في خصائص مشتركةٍ معيّنةٍ تمّ تناول معظمها في رسالتنا إلى مؤتمركم عام 2010، حيث تمّ التّطرّق إلى سلسلةٍ من المعالم الّتي تُشير إلى التّقدّم على مسار التّطوّر. وخلال هذه المدّة تطوّر فهمٌ جماعيّ لما يتطلّبه اجتياز الأحبّاء في المجموعة الجغرافيّة لأول مَعْلَمٍ من المعالم الّتي شرحناها، ومن ثمّ للمَعْلَم الثّاني.
إنّ المهمّة الّتي واجهت المؤمنين في خطة السّنوات الخمس الآزفة نهايتها، كانت تطبيق جميع ما تمّ تعلّمه من الخطط السّابقة في الجهود الرّامية إلى بسط عمليّة النّموّ إلى الآلاف من المجموعات الجغرافيّة الجديدة. لقد اتّضح بأنّ الكثير يتوقّف على قدرة المؤسّسات على الاستفادة من المساعدات الّتي يمكن أن يقدّمها الأحبّاء في المجموعات الجغرافيّة الأخرى من أجل تعزيز مساعي جامعةٍ بهائيّةٍ قائمة، وذلك من خلال تنظيم الدّعم المقدّم من فرقٍ تبليغيّة زائرة أو مرشدين على سبيل المثال. في العديد من الأماكن تبدأ عمليّة المعهد بمساعدةٍ من مؤمنين في جامعاتٍ أقوى مجاورة ممّن يجدون طرقًا خلّاقةً للوصول إلى السّكّان المحلّيّين والشّباب بصورةٍ خاصة، وتقديم الدّعم لهم عند شروعهم بالقيام على الخدمة. تتعزّز مساعي تحفيز العمل في المجموعة الجغرافيّة،خاصة البِكْر، بقدرٍ كبير إذا استقرّ مهاجرٌ داخليّ أو أكثر في تلك المجموعة، مكرّسين اهتمامهم على جزءٍ من قريةٍ أو حتّى شارعٍ واحد حيث يوجد استعدادٌ عال. لقد قام أكثر من 4,500 مؤمن بالخدمة على هذا النّحو خلال الخطّة الحاليّة ممّا يُعتبر إنجازًا مذهلًا.
أيًّا كانت مجموعة الاستراتيجيّات المتّبعة، فإنّ الهدف الرّئيس هو البدء بعمليّة بناء القدرة ضمن المجموعة الجغرافيّة والّتي تُمكّن سكّانها من القيام بأعمال الخدمة، مدفوعين برغبةٍ للمساهمة في جلب الرّخاء الرّوحيّ والماديّ لمجتمعهم. وبتحقّق هذا المتطلّب الأساسيّ ينبثق برنامج النّموّ. إن مساندة أعضاء هيئة المعاونين ومساعديهم لهذه العمليّة ضروريّة بطبيعة الحال، فمشاركتهم عن كثب ومنذ بدء بوادر النّشاط الأوّليّة تساعد الأحبّاء على الحفاظ على رؤيةٍ واضحةٍ ومتّحدةٍ لمتطلّبات العمل.
تعزيز نمط العمل
قبل مضيّ وقت طويل تتشكّل نواةٌ من الأصدقاء في المجموعة الجغرافيّة يعملون ويتشاورون معًا وينظّمون النّشاطات. ولكي تمضي عمليّة النّموّ قُدمًا، ينبغي أن يزداد عدد الأفراد الّذين يتشاركون في هذا الالتزام، كما يستلزم ذلك ازديادًا مماثلًا في مقدرتهم على العمل بمنهجيّةٍ ضمن إطار عمل الخطّة. فكما هو شأن الكائن الحيّ؛ يمكن للنّموّ أن يحدث بسرعة حالما تتوفّر الظّروف والأحوال المواتية.
أهمّ هذه الظّروف هي عمليّة معهدٍ تزداد قوّة نظرًا لكونها محوريّة لتنمية حركة السّكّان. إنّ الأصدقاء الّذين بدأوا بدراسة مواد المعهد، ويستثمرون طاقاتهم أيضًا في تنظيم صفوف الأطفال أو مجموعات الشّباب النّاشئ أو جلسات الدّعاء الجماعيّة أو في نشاطات أخرى ذات صلة، تتمّ مساعدتهم للسّير قُدُمًا خلال سلسلة الدّورات، فيما تستمرّ أعداد من يبدأون الدّراسة في التّزايد. وباستمرار تدفّق المشاركين عبر دورات المعهد ومنها إلى ميدان العمل، تزداد أعداد العاملين على استدامة عمليّة النّموّ. إنّ التّقدّم يعتمد إلى حدٍ بعيد على نوعيّة الجهود الّتي يبذلها أولئك الّذين يخدمون كمرشدين. في هذه المرحلة المبكّرة قد يستمرّ جلب غالبيّتهم من مجموعاتٍ جغرافيّة أخرى، بيد أنّه في الوقت ذاته يتمّ إعداد بعض الأصدقاء المحلّيّين الّذين تزداد قدرتهم على العمل فيبدأون بمساعدة الآخرين على دراسة مواد المعهد. إنّ مساعي مرافقة أوّل كادر من المرشدين في المجموعة الجغرافيّة ينبغي أن تسلك طريقًا يتفادى الوصول إلى نتيجتين غير مرغوبتين: فمن جانب إذا اجتاز الأفراد دورات المعهد على عجل لن تتطوّر مقدرتهم على الخدمة بقدر كافٍ، وفي المقابل إذا ما امتدّت الدّراسة لفترةٍ مطوّلةٍ فإنّ العمليّة تفقد الدّيناميكيّة الضّروريّة لتقدّمها. في حالات مختلفة استُخدمت أساليب مبتكرة لتحقيق التّوازن اللّازم لضمان تمكين بعضٍ من أهالي المجموعة الجغرافيّة للخدمة كمرشدين خلال فترةٍ معقولة.
من الطّبيعي أنّ توفير التّدريب في حدّ ذاته لا يؤدّي إلى إحراز التّقدّم؛ فالمساعي الرّامية إلى بناء القدرة لا تبلغ مُبتغاها إن لم توضع سريعًا ترتيباتٌ لمرافقة الأفراد في دخولهم ميدان الخدمة. إنّ مستوىً ملائمًا من الدّعم يتجاوز إلى حدٍّ بعيد مجرّد كلمات تشجيعيّة؛ فعند الإعداد للقيام بمهمّةٍ غير مألوفةٍ يزداد وعي الفرد بما يمكن إنجازه إذا ما كان بجانبه شخصٌ يمتلك بعض الخبرة، فالتّأكّد من وجود مساعدةٍ عمليّة بإمكانه أن يمنح المشارك المتردّد الشّجاعة للمبادرة بأحد الأنشطة للمرّة الأوّلى. وهكذا ترتقي النّفوس في فهمها معًا، وبكلّ تواضع يتشاركون في البصائر الّتي يكتسبها كلّ منهم في حينه، ويسعون بشوق للتّعلّم من رفقاء الدّرب على طريق الخدمة. بذلك يتبدّد التّردّد وتتطوّر القدرات إلى درجةٍ يصبح بمقدور الفرد القيام بالنّشاطات بشكلٍ مستقل، وبدوره يرافق الآخرين على الدّرب نفسه.
بالنّسبة للمعهد فإنّ تدفّق المشاركين عبر دوراته يخلق حاجةً متناميةً لدعمهم بصورة منهجيّة عندما يشرعون في الخدمة كمعلمين للأطفال أو كمحرّكين أو كمرشدين. وتتاح الفرص بشكل طبيعيّ للمجموعة الأساسيّة من المؤمنين ممّن اكتسبوا بالفعل قدرًا من الخبرة في العمليّة التّعليميّة من أجل مساعدة من هم أحدث عهدًا. إنّ استعداد الفرد لمساعدة الآخرين على السّير قُدُمًا في مساعيهم على طريق الخدمة، قد يؤدّي إلى منحه مسؤوليّاتٍ محدّدة. وعليه، فإنّ منسّقي كلّ مرحلةٍ من مراحل العمليّة التّعليميّة الثّلاث يبرزون تدريجيًّا وفقًا لما تستدعيه الحاجة. إنّ خدماتهم مدفوعة دائمًا بالرّغبة في مشاهدة تطوّر قدرات الآخرين، وتقوية صداقةٍ مبنيةٍ على التّعاون والعطاء المتبادل.
من الواضح أنّ عمليّة المعهد ترفع المقدرة للقيام بنطاق واسع من المهامّ. فمنذ الدّورات الأوّلى يتمّ تشجيع المشاركين على زيارة أصدقائهم في منازلهم ودراسة أحد الأدعية معًا، أو مشاركة أحد التّعاليم البهائيّة معهم. إنّ ترتيباتِ مساندة الأحبّاء في تلك المساعي والّتي كانت غير رسميّةٍ حتّى هذه المرحلة ستغدو غير كافية، مؤشّرةً بذلك إلى الحاجة لوجود لجنة تبليغ المنطقة. الهدف الأساسيّ من اللّجنة هو تحريك الأفراد وحشد جهودهم، غالبًا من خلال تشكيل فِرَق، بهدف استمرار نشر نمطٍ من النّشاط في المجموعة الجغرافيّة. أعضاءُ اللّجنة يرون في كلّ فردٍ شريكًا محتملًا للعمل في مشروعٍ جماعيّ، ويدركون دورهم في رعاية روح الهدف المشترك في الجامعة. وبوجود لجنةٍ تُباشرُ عملها يصبح بالإمكان، إلى حدٍّ ملحوظ، توسيع المساعي الجارية لتنظيم اجتماعاتٍ للتّعبد، والقيام بزياراتٍ منزليّة، وتبليغ أمر الله. سيكون عليكم تشجيع المحافل الرّوحانيّة المركزيّة والمجالس الإقليميّة البهائيّة وكذلك المعاهد التّدريبيّة ليكونوا متأهّبين للوقت الّذي تستدعي فيه الظّروف تحوُّلَ التّرتيبات التّنظيميّة إلى هياكل رسميّة، فلا تستعجل ظهورها قبل الأوان، ولا تؤجّل دون داع.
كما هو الحال بالنّسبة للأفراد فإنّ الوكالات النّاشئة في مجموعةٍ جغرافيّة بحاجةٍ إلى المساعدة والعون عند تولّي مهامّها. إنّ الدّعم الّذي يقدّمه أعضاء هيئة المعاونين في هذا الصّدد جوهريّ، إلّا أنّ ذلك أيضًا مسؤوليّةٌ هامّةٌ تقع على عاتق المجالس الإقليميّة البهائيّة، أو المحافل الرّوحانيّة المركزيّة نفسها في حال عدم وجود مجلس إقليميّ؛ وهو اهتمامٌ ملحٌ للمعاهد التّدريبيّة كذلك. إنّ المقدرة على الخدمة بكفاءةٍ على مستوى المجموعة الجغرافيّة تزداد عندما يتمّ خلق فضاءاتٍ تتيح للمؤمنين المنخرطين دراسة الهدايات والتّأمّل في مساعيهم على ضوئها واستخلاص البصائر، وأن يكونوا على اتّصالٍ بكمٍّ أوسع من المعرفة المتولّدة في المجموعات الجغرافيّة المجاورة وتلك الأبعد. وبدلًا من وضع خطط بصورةٍ نظريّة فإنّ المشاورات الّتي تُجرَي في مثل هذه الفضاءات تهدف غالبًا إلى تصوّر واقع المجموعة الجغرافيّة في تلك اللّحظة بالذّات، وتحديد الخطوات المباشرة المطلوبة لتيسير التّقدّم. يمكن لأولئك الّذين يخدمون على المستوى الإقليميّ أو المركزيّ القيام بالكثير فيما يتعلّق بإسداء النّصح للأحبّاء وتوسيع رؤيتهم لما يمكن تحقيقه، إلّا أنّهم لا يسعون إلى فرض توقّعاتهم على عمليّة التّخطيط؛ بل يساعدون المؤمنين العاملين في المجموعة الجغرافيّة على تحسين مقدرتهم بصورةٍ تدريجيّة لوضع وتطبيق مسارٍ للعمل بناءً على التّجارب المتراكمة على مستوى القاعدة في الجامعة والإلمام بظروفها الحاليّة. ومن أجل تنمية مقدرة وكالات المجموعة الجغرافيّة على التّعلّم والعمل بشكل منظّم، على المؤسّسات الإقليميّة والمركزيّة أن تكون واعيةً ومنهجيّةً في مساعيها لمساندتهم. إنّ دعم معاونيكم لهذا العمل سوف يضمن حصول كلّ عنصرٍ من عناصر عمليّة النّموّ على الخصائص الضّروريّة ويصون تكامل واتّساق جميع المساعي.
إنّ الحافز للتّعلّم من خلال العمل موجود بالطّبع لدى الأحبّاء منذ البداية، وبتدشين دورات النّشاط الفصليّة يتمّ استثمار تلك القدرة النّاشئة ويُسمح لها بأن تتعزّز بثباتٍ واضطراد. وإن كانت هذه المقدرة مرتبطةً بشكل رئيسيّ بمرحلة المراجعة والتّخطيط لكلّ دورة من دورات النّشاط لا سيّما باجتماع المراجعة والتّقييم المنظِّم لنبضات قلبها، إلّا أنّ هذه المقدرة تُمارَسُ أيضًا على امتداد دورة النّشاط بواسطة أولئك المنخرطين في أيّ محورٍ من محاور العمل. لقد لاحظنا أنّه مع تسارع التّعلّم تزداد مقدرة الأحبّاء على التّغلب على العقبات صغيرةً كانت أم كبيرة، من خلال تشخيص مسبّباتها الرّئيسيّة، التّعرّف على المبادئ الأصليّة، أخذ التّجارب ذات الصّلة بعين الاعتبار، تحديد خطوات العلاج، وتقييم التّقدّم، إلى أن تستعيد عمليّة النّموّ نشاطها بصورة كاملة.
إنّ المحور المركزيّ لنمط العمل الآخذ بالتّطوّر في المجموعة الجغرافيّة هو التّحوّل الفرديّ والجماعيّ النّابع من تأثيرات قوّة الكلمة الإلهيّة. مع بداية سلسلة الدّورات يتعرّف المشارك على رسالة حضرة بهاء الله من خلال مواضيع عميقةٍ من قبيل العبادة، خدمة البشريّة، حياة الرّوح، وتربية وتعليم الأطفال والشّباب. وبينما ينمّي الفرد عادة دراسة الكلمة الخلّاقة والتّأمّل العميق فيها، تتجلّى عمليّة التّحوّل هذه في قدرة الفرد على التّعبير عن إدراكه لمفاهيم عميقة واستكشاف الحقيقة الرّوحانيّة في أحاديث ذات مغزى. إنّ هذه القدرات لا تتجلّى فقط في المحادثات الهادفة الّتي تَسِمُ وتميّز التّفاعلات داخل الجامعة بشكل متزايد؛ بل وفي المحادثات الجارية الّتي تمتدّ إلى أبعد من ذلك، وبوجه خاصّ بين الشّباب البهائيّ وأقرانهم، وصولًا إلى آباء وأمّهات أولئك الّذين يستفيدون من البرامج التّعليميّة للجامعة. وكنتيجة لهذا النّمط من الحوار؛ يزداد الوعي بالقوى الرّوحانيّة، تتحوّل الثّنائيّات الظّاهرة إلى بصائر غير متوقّعة، يتعزّز الإحساس بالوحدة والهدف المشترك، يزداد الإيمان بإمكانيّة خلق عالمٍ أفضل، ويتجلّى الالتزام بالعمل. إنّ محادثاتٍ متميّزةٍ كهذه تجذب تدريجيًّا أعدادًا متزايدةً للمشاركة في طيفٍ من أنشطة الجامعة. كما تبرز بصورةٍ طبيعيّةٍ مواضيع تتعلّق بالإيمان والإيقان نتيجة استعداد وتجارب أولئك المنخرطين في المحادثات. من الواضح بأنّه مع اكتساب عمليّة المعهد زخمًا في المجموعة الجغرافيّة فإنّ التّبليغ سيشغل حيزًا أكبر في حياة الأحبّاء.
مع استمرار التّقدّم، تُسخَّر في خطط المؤسّسات القدرة المتنامية لإجراء حديثٍ هادف. ففي الوقت الّذي تأخذ فيه دورات النّشاط شكلًا رسميًّا، تُحَفَّز هذه القدرة بقدرٍ أكبر خلال فترة التّوسّع الّتي يكون لها بالغ الأثر على نتائج كلّ دورة. بطبيعة الحال تتباين الأهداف المحدّدة لكلّ مرحلة توسّع حسب أحوال المجموعة الجغرافيّة وظروف الجامعة البهائيّة. ففي بعض الحالات يكون هدفها ازدياد المشاركة في النّشاطات الرّئيسيّة، بينما في حالاتٍ أخرى يُكتشف استعدادٌ للانضمام إلى الأمر المبارك. إنّ الأحاديث حول شخص حضرة بهاء الله والهدف من رسالته تجري في فضاءاتٍ مختلفة، منها الجلسات التّبليغيّة والزّيارات المنزليّة. إنّ المهامّ الّتي تُنفَّذ خلال هذه الفترة تسمح بممارسة وصقل قدراتٍ تطوّرت من خلال دراسة مواد المعهد ذات الصّلة. ومع نموّ الخبرة يصبح لدى الأحبّاء مهارةٌ وحنكةٌ في تمييز الآذان الصّاغية، تحديد متى يجب أن يكون الأسلوب أكثر مباشرة في مشاركة الرّسالة، إزالة العوائق في سبيل الفهم والإدراك، ومساعدة المقبلين على اعتناق الأمر المبارك. إنّ العمل ضمن فريق يتيح المجال للأصدقاء للخدمة معًا، وتبادل الدّعم، وتعزيز الثّقة؛ وحتّى عندما يعملون بصورةٍ انفراديّة، فإنّهم ينسّقون فيما بين جهودهم حتّى يكون لها تأثيرٌ أفضل. إنّ تركيزهم واستثمارهم للوقت يمنح الكثافة المطلوبة لهذه المرحلة القصيرة والحاسمة من دورة النّشاط. روح العزيمة العالية هذه تساعد على مضاعفة قوى الجامعة، وفي كلّ دورة نشاط يتعلّم الأصدقاء الاعتماد أكثر من ذي قبل على التّأييدات الملكوتيّة الغالبة الّتي تستجذبها خدماتهم.
قبل خمس سنوات، كانت معظم المجموعات الجغرافيّة الّتي تأسّس بها برنامجٌ مكثّفٌ للنّموّ هي تلك الّتي يسكنها عدد لا بأس به من البهائيّين منتشرين غالبًا في أماكن مختلفة. إنّ مساعي أولئك المؤمنين من أجل تقدّم العمل من خلال توجيه الدّعوة لمشاركة الأصدقاء، زملاء العمل، العائلة الممتدّة والمعارف ساعدت كثيرًا في رفع مستوى النّشاط على امتداد المجموعة الجغرافيّة. لا شكّ بأنّ اتّساع دائرة المشاركة بهذه الطّريقة أصبح جانبًا مألوفًا من الحياة البهائيّة وسيظلّ أساسيًّا. في نفس الوقت بيّنت التّجربة بأنّ تسارع النّموّ، من خلال دفقٍ مستمرٍّ لمشاركين جدد ينضمّون إلى عمليّة المعهد، يتطلّب المزيد. ينبغي تطوير نمط حياة الجامعة في أماكن تزخر بالاستعداد والقابليّة، مراكز سكّانيّة صغيرة يمكن استدامة نشاطٍ مكثفٍ فيها. في هذه الأماكن، حين تتمّ عمليّة بناء الجامعة ضمن إطارٍ جغرافيّ محدود كهذا، تظهر الأبعاد المتشابكة لحياة الجامعة في أعلى مراتب اتّساقها؛ هنا تُلمس عمليّة التّحوّل الجماعيّة بأعلى درجاتها، وهنا تغدو مع الوقت قوّة بناء المجتمع الّتي يكتنزها الأمر المبارك واضحة تمامًا.
لذلك، فإنّ مهمّةً استثنائيّةً ستَمْثُل أمامكم ومعاونيكم في مستهلّ الخطّة القادمة ألا وهي مساعدة الأحبّاء في كلّ مكان على أن يدركوا بأنّه إذا ما أريد لبرامج النّموّ القائمة أن تستمرّ في اكتساب القوّة؛ فإنّ استراتيجيّة البدء في نشاطات بناء الجامعة في الأحياء والقرى الّتي تظهر فيها بوادر مبشّرة ينبغي تبنّيها بشكلٍ واسعٍ ومتابعتها بصورةٍ منهجيّة. ويتعلّم القائمون على الخدمة في تلك المناطق كيف يوضّحون الهدف من هذه الأنشطة، وكيف يُثبتون بأعمالهم نقاء دوافعهم، وكيف يرعون بيئةً تهب الطّمأنينة إلى المتردّد، وكيف يساعدون السّكّان على أن يروا الإمكانيّات الهائلة الّتي تُخلَق من العمل معا، وكيف يُشجعونهم على القيام بما فيه صالح مجتمعهم. بَيدَ أنّ إدراك وتثمين القيمة الحقيقيّة لهذا العمل ينبغي أن يزيد أيضًا من الوعي بطابعه الحسّاس. إنّ نمط عملٍ ناشئ في منطقةٍ صغيرة يمكن أن يتبدّد بسهولة بسبب اهتمامٍ زائدٍ من الخارج؛ وبالتّالي فإنّ عدد الأحبّاء الّذين ينتقلون إلى هذه المناطق أو يزورونها باستمرار ينبغي أن لا يكون كبيرًا، إذ مهما يكن فإن العمليّة الّتي بدأت هي في الأساس نهجٌ يعتمد على السّكّان أنفسهم. ولكنّ المطلوب من المنخرطين التزامٌ طويل المدى واشتياقٌ وافرٌ إلى أن يصبحوا على درجةٍ عاليةٍ من المعرفة بواقع المكان بحيث يندمجون في الحياة المحلّيّة، يتحاشون أدنى أثرٍ للتّعصّب أو السّلوك الأبويّ، ويوثّقون أواصر صداقةٍ حقيقيّةٍ تليق برفاق دربٍ يسيرون معًا في رحلةٍ روحانيّة. إنّ الدّيناميكيّة الّتي تتطوّر في مثل هذه البيئات تخلق إحساسًا قويًّا بالإرادة والحركة الجماعيّتين. ومع مرور الوقت، فإنّ المجموعة الجغرافيّة ككلّ ومراكز النّشاط المكثّف فيها سيحفّزون بعضهم البعض بفهمٍ عميقٍ ناتج عن مساعٍ تُبذل لتطبيق التّعاليم في أوضاع مختلفة.
وفيما يستمرّ الأصدقاء في المجموعة الجغرافيّة في تعزيز وتوسيع نشاطات بناء الجامعة الآخذة بالتّشكّل حولهم، يتّضح أنّ تقدّمًا متميّزًا تمّ إحرازه؛ كافّة العناصر اللّازمة لاستدامة النّموّ تكون قد استُكمِلَت. إنّ الوصول إلى المَعْلَم الثّاني على مسار سلسلة متّصلة من التّطوّر، والّذي وصفناه لكم قبل خمس سنوات يرافقه تقدّم نوعيٌّ بل وكميٌّ أيضًا مثل: ارتفاع عدد المنخرطين في المحادثات الّتي تساعد على اكتشاف الاستعداد ورعايته، عدد المنازل الّتي تمّت زيارتها، النّشاطات الأساسيّة والمشاركين فيها، عدد الأفراد الّذين يبدأون دورات المعهد أو يدعمون آخرين على اكتساب الثّقة للقيام بالخدمة. حضور اجتماعات الاحتفاء بالضّيافة التّسع عشريّة وإحياء ذكرى الأيّام المحرّمة البهائيّة يتمّ رعايتها من قِبَل المحافل الرّوحانيّة المحلّيّة. مثل هذه التّطوّرات هي أبرز العلامات الظّاهرة لتقدّم أكثر عمقًا ألا وهو الانتشار التّدريجيّ، ضمن مجموعة من السّكّان، لنمطٍ من حياة الجامعة ترتكز على تعاليم حضرة بهاء الله. عندئذٍ من الطّبيعي أن يزداد عدد المؤمنين أيضًا.
في السّنوات الخمس الماضية أصبح المسار الّذي يؤدي إلى نشوء برنامج مكثّف للنّموّ قابلًا للتّمييز بمزيدٍ من اليسر والوضوح؛ وينبغي متابعته بكلّ جدٍّ وإخلاص. إنّنا ندعو في الخطّة الّتي ستنّطلق في هذا الرّضوان إلى تسارع النّموّ في كافّة المجموعات الجغرافيّة الّتي بدأ العمل فيها. وعلى الرّغم من طبيعة المدّ والجزر الّتي تميّز العمليّة العضويّة، إلّا أنّه ينبغي أن يظهر قوسٌ واضحٌ من التّقدّم على مدى عشرين دورة نشاط. هذا المجهود المشترك يسعى لزيادة عدد المجموعات الجغرافيّة الّتي تكثّف برنامج النّموّ فيها إلى 5,000 بحلول رضوان 2021.
إنّنا نضع هذا الهدف أمام العالم البهائيّ مدركين بأنّه هدفٌ جسيمٌ حقًّا يتطلّب جهودًا جبّارة ويستلزم العديد من التّضحيات. ولكن في مواجهة عالم محنه تزداد يومًا بعد يوم، محروم من إكسير حضرة بهاء الله، لا يسمح لنا ضميرنا بأن نرضى بأقلّ من هذا لأتباعه المخلصين. بمشيئة الله ستكون مجهوداتهم جديرةً بأن تتوِّج مئة عامٍ من المساعي المضنية وتمهّد الطّريق لإنجازاتٍ لا يمكن تصوّرها الآن، مناقب ينبغي لها أن تزيّن القرن الثّاني من عصر التّكوين.
خلال الأشهر القادمة، ستبدأون مشاوراتٍ مع المحافل الرّوحانيّة المركزيّة، لتقيّموا معهم الآثار المترتبة لهذا الهدف العالميّ على جامعاتهم، عمليّة مشورة ينبغي لها أن تتوسّع سريعًا لتصل إلى مستوى القاعدة؛ ليبدأ العمل بعد ذلك تباعًا. نتوقّع أن يتحقّق التّقدّم بشكل أسرع في المناطق الّتي يوجد بها برنامج أو أكثر لنموّ مكثّف تمّت استدامته لفترة من الزّمن، حيث أنّ هذه البرامج تقدّم مصدرًا قيّمًا للمعرفة والتّجربة وتمثّل مستودعًا من الموارد البشريّة من أجل الجهود الّتي تُبذل لتقوية المناطق المجاورة. وسوف يؤدّي تحقيق هذا الهدف أيضًا إلى نشوء برامج نموّ جديدة، غالبًا في مجموعات جغرافيّة بِكْر تجاور تلك الّتي يحدث فيها تقدّم ملحوظ. مثل هذا الدّفق من الدّعم ينبع في الأصل من المقتضيات الّتي رُقّمَت في ألواح الخطّة الإلهيّة.
احتضان أعداد كبيرة وإدارة التّعقيد
في الوقت الّذي قد لا تتجاوز أعداد القائمين على دعم برنامجٍ نموّ وليد بضعة أشخاص يعملون مع مشاركين من أسرٍ معدودة؛ إلّا أنّه عنّدما يصبح برنامجًا مكثّفًا ترتفع هذه الأعداد كما هو متوقّع: ربّما يعمل العشرات في عمليّة التّوسّع والاستحكام، بينما قد تتجاوز أعداد المشاركين المئة. إلّا أنّ الوصول إلى أعدادٍ كبيرةٍ، أي حشد مئة شخصٍ أو أكثر ممّن ترتبط خدماتهم بعدّة مئات وربما بآلاف، يتطلّب المقدرة على التّكيّف مع زيادةٍ كبيرةٍ في مستويات التّعقيد.
ومع ازدياد كثافة عمليّة النّموّ، فإنّ جهود الأحبّاء للدّخول في أحاديث هادفة تأخذ بهم إلى العديد من الفضاءات الاجتماعيّة الأخرى، ما يمنح مجموعةً أوسع من النّاس فرصة التّعرّف على التّعاليم الإلهيّة والتّفكّر بجدّيّة حول المساهمة الّتي يمكنهم أن يقدّموها لإصلاح المجتمع. إضافة إلى ذلك فإنّ المزيد والمزيد من المنازل ترحّب باستضافة نشاطات بناء الجامعة، ما يجعل كلًا منها مركزًا لبثّ نور الهداية الإلهيّة. إنّ عمليّة المعهد يتمّ دعمها بأعدادٍ متزايدةٍ من أحبّاء يخدمون باقتدار كمرشدين ويشتركون معًا في تقديم كامل سلسلة دورات المعهد خلال دورة نشاط بعد أخرى، تُعْقَد أحيانًا بشكلٍ مكثّف. وهكذا فإنّ تنمية الموارد البشريّة تتقدّم بأقل قدرٍ من التّوقّف وتولّد باستمرار أعدادًا متزايدةً من العاملين. وبينما تستمرّ دورات المعهد في جذب طيفٍ متنوّعٍ من سكّان المجموعة الجغرافيّة إلّا أنّ الشّباب غالبًا ما يشكّلون العدد الأكبر من المشاركين. إنّ تأثير دراسة الكلمة الإلهيّة المقلِّبة للقلوب تستشعره الأعداد الكبيرة من الّذين تتأثّر حياتهم بصورة أو بأخرى بأنشطة الجامعة. وبينما يتزايد تدفّق الأفراد الّذين يبدأون مسيرة الخدمة، يتحقّق تقدّمٌ ملحوظٌ في كافّة جوانب مجهودات الأحبّاء في بناء الجامعة. فأعداد محرّكي مجموعات الشّباب النّاشئ ومعلمي صفوف الأطفال تتضاعف لتغذّي التّوسّع في هذين البرنامجين الحيويّين؛ ويتمكّن الأطفال من الانتقال من صفّ إلى آخر بينما تتقدّم مجموعاتٌ من الشّباب النّاشئ سنةً تلو أخرى ويطبّقون ما يتعلّمونه في خدمة المجتمع. ومن ثمّ تقوم وكالات المجموعة الجغرافيّة، المدعومة من قبل المحفل الرّوحانيّ المحلّيّ، بتشجيع ورعاية حركة الانتقال الطّبيعيّة للمشاركين في العمليّة التّعليميّة من مرحلةٍ إلى الّتي تليها: إنّ نظامًا تعليميًّا مكتمل العناصر قادرًا على التّوسّع ليرحّب بأعدادٍ كبيرةٍ قد تجذّر بثباتٍ الآن في المجموعة الجغرافيّة.
إنّ مثل هذا التّقدّم يتطلّب جهودًا حثيثةً من الأحبّاء في كافّة أرجاء المجموعة الجغرافيّة. إلّا أنّ تجربة الخطّة الحاليّة أظهرت بأنّ نمط العمل القادر على استيعاب أعدادٍ كبيرةٍ يتأتَّى بصورةٍ رئيسيّةٍ من المساعي المبذولة للوصول إلى المزيد من الأحياء والقرى، حيث تتضافر القوى الرّوحانيّة لإحداث تحوّلٍ سريعٍ في مجموعةٍ من السّكّان، للوصول إلى مرحلة يمكن فيها استدامة العمل المكثّف. إنّ مجموعةً أساسيّةً من العاملين في كلّ منها يأخذون على عاتقهم مسؤوليّة عمليّة بناء القدرة لدى سكّانها. شرائح أوسع من السّكّان ينخرطون في الأحاديث، والنّشاطات تُشرع أبوابها لتستقبل مجموعاتٍ كاملةً في آنٍ واحدٍ، جماعاتٍ من الأصدقاء والجيران، وأفواجًا من الشّباب، وعائلاتٍ بأكملها، فتُمَكّنُهم من إدراك كيفيّة إعادة تشكيل المجتمع من حولهم. إنّ عادة الاجتماع من أجل العبادة الجماعيّة، وأحيانًا للدّعاء والمناجاة في الأسحار، تربّي في النّفوس ارتباطًا أعمق برسالة حضرة بهاء الله. العادات والتّقاليد وأنماط التّعبير السّائدة جميعها تصبح قابلة للتّغيير، تعبيرٍ ظاهريٍّ لتحوّلٍ داخليّ أكثر عمقًا يؤثّر على العديد من النّفوس، أواصر المحبّة الّتي تربطهم تزداد متانةً، وخصائل الدّعم المتبادل والعطاء بالمثل وخدمة الآخرين تبدأ بالظّهور كسماتٍ لثقافةٍ حيويّةٍ ناشئةٍ بين أولئك المنخرطين في النّشاطات. إنّ الأحبّاء في مثل هذه الأماكن يساعدون الوكالات في نشر وإيصال عمليّة النّموّ إلى مناطق أخرى في المجموعة الجغرافيّة، حيث إنّهم يتوقون لتعريف الآخرين برؤى التّحوّل الّتي حازوا على مشاهدة لمحات منها.
في سياق مساعيهم يواجه المؤمنون تقبُّلًا واستعدادًا في مجموعات سكّانيّة متميّزة تمثّل فئات إثنيّة أو قبليّة أو فئات أخرى قد تتمركز في أماكن صغيرة أو تتواجد على امتداد المجموعة الجغرافيّة أو حتّى أبعد من ذلك. هناك الكثير ممّا يجب تعلّمه عن الدّيناميكيّات المؤثّرة عندما تعتنق مجموعة سكانيّة من هذا النّوع الأمر المبارك، وتُستنهض هممهم بفعل تأثيره المهذِّب للنّفوس والمقلّب للقلوب. إنّنا نؤكّد على أهمّيّة هذا العمل في تقدّم أمر الله: لكلِّ أمّةٍ نصيبٌ في نظم حضرة بهاء الله العالميّ وعلى الكلّ أن يجتمعوا في ظلِّ راية وحدة العالم الإنسانيّ. إنّ الجهود المنهجيّة المبذولة في المراحل الأوّليّة للوصول إلى مجموعةٍ سكّانيّة، وتعزيز مشاركتها في عمليّة بناء القدرة تتسارع بشكلٍ ملحوظ عندما يكون أفراد منها في طليعة تلك المساعي. إنّ هؤلاء الأفراد يمتلكون بصيرةً خاصّةً وإدراكًا عميقًا لتلك القوى والهياكل المتعلّقة بمجتمعاتهم والّتي يمكنها تعزيز المساعي الجارية بطرقٍ مختلفة.
مع استمرار تقدّم النّموّ في المجموعة الجغرافيّة، تتعاظم المتطلّبات الّتي تُفرض على المخطّط التّنظيميّ للمعهد التّدريبيّ. عندئذٍ تبرز الحاجة إلى منسّقين إضافيّين يركّز البعض منهم جهوده على جزءٍ معيّن من تلك المجموعة الجغرافيّة، إلّا أنّ ذلك لا ينبغي أن يؤدّي إلى ظهور طبقةٍ أخرى من الإدارة. فهنالك الكثير ممّا يمكن إنجازه بالتّعاون، وذلك عندما يبدأ المنسّقون بالعمل معًا ضمن فرق، معتمدين أحيانًا على مساعدة أفراد آخرين ذوي كفاءة. إنّ التّفاعل الجاري وتبادل التّجارب بين هذه الفرق يؤدّي دائمًا إلى إثراء الفهم ويرفع من مستوى كفاءة خدماتهم. ويكتشف المنسّقون أيضًا أنّ من شأن مساعيهم أن تتعزّز بشكلٍ كبير إذا تمكّن الأصدقاء الّذين يخدمون كمعلّمين للأطفال ومحرّكين ومرشدين، ممّن يعيشون على مقربة من بعضهم البعض، من الالتقاء معًا ضمن مجموعاتٍ صغيرةٍ ومساعدة بعضهم البعض في الفضاءات الّتي يخدمون فيها.
في الوقت نفسه فإنّ أداء لجنة تبليغ المنطقة يرتقي إلى مستوى جديد؛ إنّها تقوم بقراءة أشمل لظروف المجموعة الجغرافيّة ككلّ: فمن جهة تُجري تقييمًا دقيقًا لقدرات الجامعة والآثار النّاتجة عن النّموّ المُستدام، ومن جهة أخرى تدرك تأثيرات مختلف الوقائع الاجتماعيّة على عمليّة بناء الجامعة على المدى الطّويل. في الخطط الّتي تضعها في كلّ دورة نشاط، تعتمد اللّجنة بشكلٍ كبير على الّذين يحملون على عاتقهم النّصيب الأعظم من أعمال التّوسّع والاستحكام، ولكن بالنّظر إلى العدد الكبير ممّن ترتبط حياتهم الآن بطريقةٍ أو بأخرى بنمط العمل؛ فإنّ أسئلةً مختلفةً تصبح أكثر إلحاحًا: كيف يمكن حشد صفوف المؤمنين بأكملهم لدعم الأهداف التّبليغيّة؛ وكيف يمكن ترتيب زياراتٍ منزليّةٍ منتظمةٍ للأصدقاء الّذين يمكنهم الاستفادة من المواضيع التّعمّقيّة والمناقشات الّتي توثّق ارتباطهم بالجامعة، وكيف يمكن تعزيز الرّوابط الرّوحانيّة مع أولياء أمور الأطفال والشّباب النّاشئ؛ وكيف يمكن توظيف اهتمام أولئك الّذين يبدون نوايا حسنة تجاه الأمر المبارك ولم يشاركوا بعد في نشاطاته. إنّ تعزيز عقد جلسات الدّعاء على نطاقٍ واسعٍ لهو موضع اهتمامٍ آخر، بحيث يتسنّى للمئات ومن ثمّ للآلاف المشاركة في العبادة بصحبة عائلاتهم وجيرانهم. وبالمآل تطمح اللّجنة بالطّبع للوصول باستمرار بمساعي الجامعة إلى المزيد والمزيد من النّفوس وتعريفها برسالة حضرة بهاء الله. وفي إدارتها للتّعقيدات المرتبطة بعملها، والمشتملة على جمع وتحليل الإحصائيّات بالإضافة إلى مهامٍّ متنوّعة أخرى، فإنّ اللّجنة تعتمد على مساعدة أفراد من خارج نطاق أعضائها. إنّ هذه التّعقيدات تستدعي بشكلٍ متزايدٍ تعاونًا وثيقًا مع المحافل الرّوحانيّة المحلّيّة أيضًا.
إزاء تنامي أعداد المشاركين في الأنشطة فإنّ المحافل الرّوحانيّة المحلّيّة بدورها تطوّر قدراتها للاضطلاع بالمسؤوليّات العديدة الملقاة على عاتقها؛ بالنّيابة عن جامعة آخذة في الاتّساع. إنّها تسعى لخلق بيئةٍ يشعر فيها الجميع بالتّشجيع للمساهمة في مشروعٍ مشتركٍ للجامعة. إنّها حريصة على أن ترى وكالات المجموعات الجغرافيّة تنجح في خططها، كما أنّ معرفتها الوثيقة بظروف وأحوال منطقتها تمكّنها من رعاية تطوّر العمليّات المتفاعلة على المستوى المحلّيّ. مع أخذ هذا في الاعتبار فإنّها تحثّ الأصدقاء على المشاركة القلبيّة في الحملات واجتماعات المراجعة والتّقييم وتُوفّر الموارد المادّيّة ومساعدات أخرى لمختلف المبادرات والأحداث الّتي تُنَظّم محلّيًّا. المحفل حريصٌ أيضًا على ضرورة رعاية المؤمنين الجدد بعناية، ويتدارس متى وكيف يتمّ تعريفهم بالأبعاد المختلفة لحياة الجامعة. وبتشجيعهم على الانخراط في دورات المعهد فإنّ المحفل يسعى لضمان أنّهم، ومنذ البداية، يعتبرون أنفسهم أنصارًا لمساعٍ نبيلةٍ في سبيل بناء عالمٍ جديد. كما يتكفّل بأن تكون اجتماعات الضّيافات التّسع عشريّة وإحياء الأيّام المحرّمة والانتخابات البهائيّة فرصًا لتعزيز المُثل العليا للجامعة، وتقوية حسّ الالتزام المشترك وترسيخ طابعها الرّوحانيّ. ومع تعاظم عدد أفراد الجامعة يفكّر المحفل بعنايةٍ حول الأوان المناسب لتحويل هذه الجلسات إلى اجتماعات لامركزيّة حتى يتسنّى مشاركة أعدادٍ متزايدةٍ في تلك المناسبات الهامّة.
إحدى السّمات البارزة للمجموعات الجغرافيّة المتقدّمة هي نمطٌ من التّعلّم يتغلغل في الجامعة بأسرها، ويمثّل حافزًا لرفع مستوى القدرة المؤسّسيّة. إنّ القصص الّتي تقدّم بصائر حول الأساليب والمقاربات أو العمليّات بمجملها تتدفّق بصورةٍ مستمرّةٍ من جيوب النّشاط وإليها. جلسات المراجعة والتّقييم على نطاق المجموعة الجغرافيّة والّتي يتمّ فيها عرض الكثير ممّا تمّ تعلّمه، تُستكمل غالبًا باجتماعات لمناطق أصغر والّتي من شأنها أن تولّد لدى الحضور شعورًا أقوى بالمسؤوليّة. إنّ هذا الإحساس بالمِلكيّة الجماعيّة يزداد جلاءً من دورة نشاط إلى أخرى، إنّه القوّة المنبعثة من مجموعةٍ متّحدةٍ من النّاس يتحمّلون مسؤوليّة تطوّرهم الرّوحانيّ جيلًا بعد جيل. وبينما يفعلون ذلك فإنّ الدّعم الّذي يتلقّونه من المؤسّسات البهائيّة الإقليميّة والمركزيّة ووكالاتها هو بمثابة دفقٍ مستمر من المحبّة.
إنّ بوادر العمل الاجتماعيّ هي المحصّلة الطّبيعيّة لازدياد الموارد وارتقاء مستوى الوعي بتأثير مضامين الرّسالة الإلهيّة في حياة مجموعة من السّكّان. فكثيرًا ما تنبثق مبادرات كهذه بصورةٍ عضويّةٍ من برامج التّمكين الرّوحانيّ للشّباب النّاشئ أو تنتج عن المشورة حول الأوضاع المحلّيّة الّتي تجري في اجتماعات الجامعة. وقد تأخذ تلك المساعي أشكالًا متنوعةً فتشتمل مثلًا على: توفير مساعدةٍ دراسيّةٍ للأطفال، ومشاريع لتحسين البيئة المحيطة، وأنشطة ترمي إلى تحسين الوضع الصّحيّ والوقاية من الأمراض. بعض هذه المبادرات تُستدام وتنمو بصورةٍ تدريجيّة؛ ففي أماكن عديدة يأتي تأسيس مدرسةٍ مجتمعيّةٍ على مستوى القاعدة إثر الاهتمام البالغ والوعي بأهمّيّة توفير التّعليم المناسب للأطفال وذلك كنتيجةٍ طبيعيّةٍ لدراسة مواد المعهد، وأحيانًا يمكن تعزيز جهود الأصدقاء بشكلٍ كبير من خلال منظّمةٍ قائمةٍ تعمل بهدي من التّعاليم البهائيّة وتمارس نشاطها في نفس المنطقة. ولكن مهما تكن بوادر العمل الاجتماعيّ متواضعةً في بدايتها إلّا أنّها مؤشرٌ لوجود أناس ينمّون في أنفسهم مقدرةً جوهريّةً تحمل في طيّاتها إمكانيّات ودلالات عظيمة لا حدود لها لقرون قادمة: ألا وهي تعلّم كيفيّة تطبيق الرّسالة الإلهيّة في مختلف أبعاد الواقع الاجتماعيّ. كلّ هذه المبادرات وأمثالها تعمل أيضًا على إثراء المشاركة في الحوارات السّائدة في المجتمع الأوسع على المستوى الفرديّ والجماعيّ. وكما هو متوقّع فإنّ الأصدقاء ينخرطون بشكل أكبر في حياة المجتمع، وهو تطوّر متأصّل في نمط العمل الجاري في المجموعة الجغرافيّة منذ البداية، ولكنّه الآن أكثر وضوحًا بكثير.
إنّ بلوغ حركة مجموعة من السّكّان إلى هذا المستوى من التّقدّم لهو دليلٌ على أنّ العمليّة الّتي أوجدتها قويّة بما يكفي لتحقيق واستدامة درجةٍ عاليةٍ من المشاركة في كافّة جوانب مساعي بناء القدرات، وإدارة التّعقيد الّتي تنطوي عليه. هذا مَعْلَمٌ آخر ليجتازه الأحبّاء؛ ثالث مَعْلَمٍ من سلسلة المعالم منذ أن بدأت عمليّة النّموّ في المجموعة الجغرافيّة. إنّه يرمز إلى ظهور نظامٍ لمدِّ نمطٍ ديناميكيّ لحياة الجامعة من مركز نشاطٍ تلو الآخر ليمكِّن إشراك معشرٍ من النّاس رجالًا ونساءً، شبابًا وراشدين في العمل من أجل تحوّلهم الرّوحانيّ والاجتماعيّ. وقد تحقّق هذا بالفعل في نحو مائتي مجموعةٍ جغرافيّة تشمل طيفًا من الظّروف الاجتماعيّة والاقتصاديّة. وإنّنا نتوقّع رؤيته في عدّة مئات أخرى بحلول نهاية الخطّة القادمة. إنّه المستقبل الّذي يمكن للأحبّاء العاملين في آلاف المجموعات الجغرافيّة الأخرى أن يطمحوا إليه.
في بعض المجموعات الجغرافيّة الّتي أحرزت تقدّمًا على هذا المستوى بالفعل؛ حدث تطوّر أكثر إثارة؛ فهناك مناطق ضمن هذه المجموعات الجغرافيّة تنخرط نسبةٌ كبيرةٌ من سكّانها في نشاطات بناء الجامعة. على سبيل المثال توجد قرى صغيرة تَمَكّن فيها المعهد من إشراك جميع الأطفال والشّباب النّاشئ في برامجه. مع اتّساع نطاق النّشاط يتعاظم وقع التّأثير المجتمعيّ للأمر المبارك ويصبح أكثر وضوحًا للعيان. فتحتلّ الجامعة البهائيّة مكانةً ساميةً كصوتٍ أخلاقيٍّ مميّزٍ في حياة النّاس، وتكون قادرةً على المساهمة برؤيةٍ مستنيرةٍ في الحوارات من حولها، من قبيل تطوّر الأجيال الأصغر سنًّا. فتبدأ شخصيّاتٌ بارزةٌ من المجتمع الأوسع بالاستفادة من البصيرة والخبرة النّاتجة من مبادرات العمل الاجتماعيّ، والمستلهمة من تعاليم حضرة بهاء الله. فالأحاديث المتأثّرة بتلك التّعاليم والمعنيّة بالصّالح العامّ تـنْـفُذ إلى قطاعات عريضة من السّكّان إلى درجةٍ يمكن ملاحظة وقعها على الحوار العامّ الجاري على المستوى المحلّيّ. وعلى مدى أوسع من الجامعة البهائيّة، يبدأ الأهالي بالنّظر بعين الاعتبار إلى المحافل الرّوحانيّة المحلّيّة كمنارات للحكمة يرجعون إليها طلبًا للاستنارة.
إنّنا ندرك بأنّ تطوّرات كهذه تُعتبر أملًا بعيد المنال بالنّسبة لكثيرين حتّى في المجموعات الجغرافيّة الّتي يحتضن نمط العمل فيها أعدادًا كبيرة. بيد أنّ هذا هو ما يجري حاليًّا في بعض الأماكن. فبينما الأحبّاء منهمكون بشكلٍ مستمرٍ في استدامة عمليّة النّموّ في مثل تلك المجموعات الجغرافيّة، هناك أبعاد أخرى من المساعي البهائيّة تسترعي نصيبًا متزايدًا من انتباههم. فهم يسعون ليفهموا كيف يمكن لمجموعة مزدهرة من السّكّان المحلّيّين أن تغيّر المجتمع الّذي هم جزء من نسيجه. وسيكون ذلك أفقًا تعلّميًّا جديدًا للمستقبل المنظور حيث ستتولد البصائر الّتي سوف يستفيد منها العالم البهائيّ في المآل.
إطلاق طاقات الشّباب
إنّ المآثر الرّائعة للشّباب في ميدان الخدمة لهي واحدة من أبدع ثمرات الخطّة الحاليّة. وإذا كان هناك ثمة حاجة لدليلٍ على الإمكانات الاستثنائيّة الّتي يمتلكها الشّباب فقد تمّت إقامته بجلاءٍ لا جدال فيه. فموجة الطّاقة والحيويّة المنبعثة من مؤتمرات الشّباب الّتي عقدت عام 2013، والّتي وُجّهت نحو العمل الجاري في المجموعات الجغرافيّة تُثبت بوضوح قدرة جامعة الاسم الأعظم على تشكيل وبلورة أسمى تطلّعات الشّباب. وعقب مشاركة ما يزيد عن 80,000 شابٍ وشابةٍ في تلك المؤتمرات؛ يسعدنا أن نرى أفواجًا أخرى من أترابهم تناهز 100,000 تنبري للانضمام إليهم بالمشاركة في العديد من لقاءات الشّباب الّتي عقدت منذئذ. إنّ التّدابير اللّازمة لتشجيع المشاركة الكاملة لهذه الأفواج المتعاظمة في نشاطات الجامعة يجب أن تشكّل عنصرًا أساسيًّا في الخطّة الجديدة.
إنّ مشاركة الشّباب المتّسمة بالحماس تُبرز جليًّا حقيقة أنّهم يمثّلون العنصر الأكثر استجابةً في كافّة المجموعات السّكّانيّة المستعدّة الّتي سعى الأحبّاء للوصول إليها. ما تمّ تعلّمه في هذا الصّدد هو كيفية مساعدة الشّباب ليصبحوا على وعيٍ بالمساهمة الّتي يمكنهم أن يشاركوا بها من أجل تحسين مجتمعاتهم. ومع ازدياد الوعي يزدادون استشعارًا وارتباطًا بأهداف الجامعة البهائيّة ويظهرون الحماسة والشّوق لتسخير طاقاتهم للعمل الجاري. إنّ المحادثات حول هذه المواضيع تشعل جذوة الاهتمام بكيفيّة توجيه قواهم المادّيّة والرّوحانيّة في هذه المرحلة من حياتهم نحو تلبية احتياجات الآخرين، لا سيّما الأجيال الأصغر سنًّا. إن اللّقاءات الخاصّة بالشّباب والّتي تنعقد الآن على نحو مطّردٍ على مستوى المجموعة الجغرافيّة وحتّى على مستوى الحيّ أو القرية، أثبتت بأنّها مناسباتٌ مثاليّةٌ لتكثيف المحادثات المستمرّة، وغدت، وبصورةٍ متزايدةٍ، سمةً مشتركة لدورات النّشاط في العديد من المجموعات الجغرافيّة.
تشير التّجربة إلى أنّ النّقاش حول المساهمة في إصلاح المجتمع يُخفق في ملامسة منابع التّحفيز الحقيقيّة إذا ما تمّ إقصاء البحث في المواضيع الرّوحانيّة. فأهمّيّة "العمل" أي القيام على الخدمة ومرافقة الأقران، ينبغي أن يكون متناغمًا مع مفهوم "الوجود" أي زيادة إدراك المرء للتّعاليم الإلهيّة وانعكاس الخصال الرّوحانيّة في حياته. وهكذا فعندما يتعرّف الشّباب على رؤى الأمر المبارك للبشريّة والصّفات السّامية لرسالته فإنّهم يشعرون برغبة على الخدمة، رغبةٌ تجد استجابةً سريعةً من المعاهد التّدريبية. ولئن كان إطلاق قدرة الشّباب هو بحقّ مسؤوليّةٌ مقدّسةٌ لكلّ معهدٍ تدريبيّ؛ فإنّ رعاية هذه القدرة الآخذة في التّطوّر هي مسؤوليّة كافّة المؤسّسات الأمريّة. إنّ الاستعداد الّذي يُظهره الشّباب للمبادرة، أيًّا كان محور العمل الّذي يختارونه، قد يُخفي حقيقة أنّهم بحاجة إلى دعم مستدام من قِبَلِ المؤسّسات والوكالات في المجموعة الجغرافيّة يستمرّ إلى ما بعد الخطوات الأولى.
كما أنّ الشّباب يدعمون بعضهم البعض في هذا الخصوص، فيجتمعون معًا في مجموعاتٍ للانخراط سويًّا في الدّراسة والتّباحث حول خدماتهم، ولدعم جهود بعضهم البعض وتعزيز عزيمتهم، متطلّعين إلى توسعةٍ متزايدةٍ لدائرة الصّداقات. إنّ التّشجيع المقدّم بهذه الطّريقة من خلال شبكة من الأقران يمدّ الشّباب ببديل هم في أمسّ الحاجة إليه في مقابل تعالي الأصوات المغوية الدّاعية والجاذبة نحو شَرَك النّزعة الاستهلاكيّة والمُلهيات الآسرة، وفي مقابل النّداءات الدّاعية إلى تشويه سمعة الآخرين. أمام هذه الخلفيّة المثقلة بمشاهد المادّيّة الوَهِنَة والمجتمعات المتفكّكة تظهر بجلاء القيمة الفريدة لبرنامج الشّباب النّاشئ في هذه البرهة من الزّمان. إنّه يمنح الشّباب الميدان الأمثل لمساعدة من هم أصغر سنًّا لمواجهة القوى المدمّرة الّتي تستهدفهم بشكلٍ خاصّ.
وبينما يتقدّم الشّباب على طريق الخدمة، تندمج مساعيهم بسلاسة في أنشطة المجموعة الجغرافيّة، ونتيجة لذلك تزدهر الجامعة بأسرها كوحدةٍ متّسقة. إنّ الوصول إلى أُسر الشّباب سبيلٌ طبيعيٌّ لتقوية بناء الجامعة. المؤسّسات والوكالات تواجه تحدّيًا يتمثّل في زيادة قدراتها حتّى تتمكّن من إيجاد سبلٍ للتّعرّف بصورةٍ منهجيّةٍ على القدرات الكامنة لدى الشّباب. ومن خلال إدراكٍ أوسعٍ لظروف وديناميكيّة هذه الفئة العُمريّة يتمكّنون من وضع خطط مناسبة، على سبيل المثال توفير الفرص للشّباب لدراسة الدّورات بصورة مكثّفة، وربّما مباشرةً بعد انتهاء لقاءات الشّباب. إنّ الطّاقة المنبعثة من مجموعة من الشّباب تمتاز بالحيوية والنّشاط تسمح بتسارع وتيرة العمل في المجموعة الجغرافيّة.
بينما من الصّواب توقّع نتائجَ عظيمة من نفوسٍ لديها الكثير لتقدّمه في طريق الخدمة، إلّا أنّه ينبغي على الأحبّاء أن يتوخّوا الحذر خشية تبنّي نظرة ضيّقة لما يستلزمه التّطوّر نحو البلوغ. إنّ حرّية الحركة وتوفّر متّسعٍ من الوقت يمكّن العديد من الشّباب من الخدمة بطريقةٍ ترتبط ارتباطًا مباشرًا باحتياجات الجامعة، إلّا أنّه بتقدّم أعمارهم ودخولهم في العشرينات تتّسع آفاقهم. أبعادٌ أخرى لحياةٍ متّسقةٍ لا تقلّ إلحاحًا وجديرة بالتّقدير والثّناء تبدأ بفرض مطالب أقوى على اهتماماتهم. الأولويّة الفوريّة بالنّسبة للعديد منهم هي مواصلة التّعليم الأكاديميّ أو المهنيّ، وفقًا للإمكانات المتاحة والمجالات الجديدة الّتي تفتح أمامهم للتّفاعل مع المجتمع. من ناحيةٍ أخرى يصبح الشّابات والشّباب مدركين تمامًا لما ينصح به القلم الأعلى أن "تزوّجوا يا قوم ليظهر منكم من يذكرني بين عبادي" وأنّه "ينبغي على الكلّ الاشتغال بالصّنائع والاكتساب". وبمزاولتهم للمهن فإنّهم بطبيعة الحال يسعون للمساهمة في تقدّم مجال اختصاصهم، بل ويعملون أحيانًا على تطويره في ضوء البصائر الّتي يكتسبونها من خلال دراستهم المستمرّة للآثار المباركة، ويسعون جاهدين ليكونوا مثالًا للنّزاهة والتّميّز في عملهم. إنّ حضرة بهاء الله يشيد بأولئك الّذين "يتكسّبون بالاقتراف ويصرفون على أنفسهم وذوي قرابتهم حبًّا لله ربّ العالمين". هذا الجيل من الشّباب سوف يشكّل الأُسر الّتي من شأنها أن تحافظ على أسس الجامعات المزدهرة. ومن خلال حبّهم المتزايد لحضرة بهاء الله والتزامهم الشّخصيّ بالمعايير الّتي نادى بها سيتشرّب أطفالهم محبة الله الّتي " تمتزج بحليب أمّهاتهم" ويستظلّون بسرادق أحكامه ما حييوا. وكما يتّضح، فإنّ مسؤوليّة الجامعة البهائيّة تجاه الشّباب لا تنتهي عندما يشرعون بأولى خطوات الخدمة. فما يتّخذه الشّباب من قراراتٍ هامّة حول مسيرة حياتهم في سنّ الرّشد ستُحدّد ما إذا كانت خدمة أمر الله مجرّد فصلٍ قصيرٍ لا يُنسى من ريعان شبابهم، أم محورًا ثابتًا في حياتهم الدّنيا، كعدسة تتركّز من خلالها كافّة أعمالهم. إنّنا نعتمد عليكم وعلى معاونيكم للتّأكّد من أنّ البعدين الرّوحيّ والمادّيّ للشّباب يحظيان بالاهتمام المستحقّ في مشاورات الأسر والجامعات والوكالات والمؤسّسات.
تعزيز القدرة المؤسّسيّة
إنّ متطلّبات الخطّة الحاليّة، تأسيس الآلاف من برامج النّموّ الجديدة وتعزيز القائمة منها، استدعت تنسيقًا وعملًا فذًّا من المؤسّسات المركزيّة والإقليميّة ومنكم كذلك. وقد تحقّق ذلك من خلال روح التّعاون المشترك بين أنصار الخطّة الثّلاثة، الفرد والجامعة والمؤسّسات. هذه الرّوح كانت المتطلّب الأساسيّ لكلّ مشروعٍ هامّ، بما في ذلك مبادرات خاصّة لاستقرار مهاجرين في بلدان مختارة، وبطبيعة الحال تنظيم 114 مؤتمر للشّباب. إنّ المواقف السّائدة المتّسمةَ بالخدمة المقرونة بالبهجة والمرونة والانقطاع عن الأفضليّات الشّخصيّة أكسبت حتّى المهامّ الإداريّة الرّوتينيّة سمةً مقدّسة. لا شكّ أنّ المتطلّبات الجديدة للخطّة القادمة ستختبر قدرات المؤسّسات البهائيّة على نحوٍ متزايد، ولكن ومهما يكن فإنّها ستحافظ بالتّأكيد على روح الوحدة بين جميع من يعملون معًا.
كما أُشير آنفًا، فإنّ حركة المجموعات الجغرافيّة على امتداد السّلسلة المتّصلة تعتمد على التزام المؤسّسات بدعم وتوجيه وكالات المجموعة الجغرافيّة وتوفير الموارد وفقًا للاحتياجات. وهذه المهمّة هي مسؤوليّةٌ أساسيّةٌ للمجالس البهائيّة الإقليميّة والمعاهد التّدريبيّة الإقليميّة. فقد ارتفع عدد المجالس الإقليميّة خلال السّنوات الخمس الماضية من 170 إلى 203 مجلس ما يعكس الاحتياج المتنامي والقدرة المتزايدة للعمل المطلوب إنجازه على هذا المستوى. في بعض الدّول الّتي لم تؤسَّس فيها المجالس بعد، اتُّخذت خطواتٌ معيّنة من قبيل تعيين فرقٍ إقليميّةٍ بهدف بناء الخبرة استعدادًا لتشكيل هذه المجالس. وفي بعض الأقاليم الّتي تغطّي مساحات شاسعة، اتّخذت المجالس تدابير من أجل رعاية تطوّر تجمّعاتٍ من المجموعات الجغرافيّة المتجاورة. أمّا في الدّول الأصغر حجمًا والّتي ليست بحاجة إلى تأسيس مجالس إقليميّة، فإنّ المحافل المركزيّة تولي اهتمامًا متزايدًا بإيجاد سبلٍ تساعد المجموعات الجغرافيّة على التّقدّم، من قبيل تشكيل فريق عملٍ، في بعض الحالات، لتولّي هذه المسؤوليّة؛ وإنّنا نحثّكم على تحفيز التّعلّم في هذا المجال، بحيث يمكن في الوقت المناسب وضع هياكل رسميّة تتولّى هذه المسؤوليّة بأسلوب عملٍ يشبه إلى حدٍّ كبير ما تقوم به المجالس الإقليميّة في دول أخرى. وكما هو الحال مع المجالس الإقليميّة فإنّنا نرى أنّ أيّ هيكل من هذا القبيل ينشأ على المستوى المركزيّ سيستفيد من التّفاعل مع مؤسّسة المشاوَرين.
حتى تضطلع المؤسّسات الإقليميّة والمركزيّة بمهامّها بصورةٍ فعّالة، يتعيّن عليها أن تظلّ على إلمامٍ تامٍ بكافّة التّطوّرات على مستوى القاعدة وعلى ما يتمّ تعلّمه في المجموعات الجغرافيّة الّتي تُشرف على تقدّمها. إنّ الحصول على المعلومات في الوقت المناسب حول حركة المجموعات الجغرافيّة وعمل المعهد ضمن نطاقها الإداريّ؛ ضروريٌ للمؤسّسات حتّى تتمكّن من دعم وكالاتها واتّخاذ العديد من القرارات كإرسال المهاجرين، تحديد الدّعم الماليّ، إنشاء وترويج المؤلّفات البهائيّة، والتّخطيط للاجتماعات المؤسّسيّة. كما أنّها تتيح للمؤسّسات قراءةً دقيقةً لواقع جامعاتها والعمل وفقًا لاحتياجاتٍ واضحة المعالم عند قيامها بحشد طاقات الأحبّاء لتلبية متطلّبات السّاعة. بين فترةٍ وأخرى قد يجد المحفل المركزيّ بالتّشاور معكم أنّه من المستحسن تبنّي وتعميم جوانب معيّنة من الدّروس المستقاة، وخاصّةً فيما يتعلّق بالمخطط التّنظيميّ على مستوى المجموعة الجغرافيّة والمستوى الإقليميّ. إنّ الحاجة إلى البقاء على علمٍ بالتّجارب المتراكمة للجامعة يحمل أبعادًا خاصّة بالنّسبة للمحافل المركزيّة في البلدان الأكبر مساحة والّتي تخدم فيها عدّة مجالس إقليميّة، لا سيّما عندما يوكل المحفل مسؤوليّة الإشراف على إدارة المعاهد إلى هذه المجالس. وهنا، فإنّ ترتيباتٍ جديدةٍ قد تُستلزم أحيانًا على المستوى المركزيّ بهدف تزويد المحفل بتحليلات واضحة مقنعة لما يجري تعلّمه في جميع الأقاليم.
بطبيعة الحال، فإنّ المحفل الرّوحانيّ المركزيّ يحمل في النّهاية مسؤوليّة رعاية وتعزيز كافّة جوانب تطوّر الجامعة البهائيّة. ورغم أنّ المحفل يتابع بنفسه خطوط عملٍ متعدّدة، إلّا أنّ الإيفاء بهذه المسؤوليّة يتطلّب في حالاتٍ كثيرةٍ ضمان قيام المجالس الإقليميّة أو الوكالات المتخصّصة باتّخاذ خطواتٍ في اتّجاه تحقيق التّقدّم في المساعي الّتي أوكلت إليها. ومع ازدياد مقدرة الأحبّاء ونموّ حجم الجامعة، فإنّ أعمال المحفل المركزيّ بأبعادها المتنوّعة تزداد تعقيدًا بنفس المقدار والحجم. لهذا السّبب، وفي ضوء جسامة المهمّة الماثلة أمام المؤسّسات في الخطّة القادمة، فإنّ المحافل المركزيّة، والمجالس الإقليميّة، سوف تستفيد من القيام بمراجعة دوريّة بالتّعاون معكم حول مدى إمكانيّة تعديل وتطوير عمليّاتها الإداريّة وعلى وجه الخصوص عناصر في أسلوب عملها بحيث تتمكّن من تقديم دعمٍ أفضل لتقدّم عمليّة النّموّ.
وبالمثل فإنّ بلوغ مستوى أعلى من الأداء هو شاغلٌ مُلحّ للمعاهد التّدريبيّة أيضًا. فجهود الجامعة لتقوية برامج النّموّ في الآلاف من المجموعات الجغرافيّة واستدامة تكثيفها يضع متطلّبات جسيمة على عاتق هذه الوكالات. بطبيعة الحال فإنّ تركيزها ينصبّ على تكشّف عمليّات المراحل الثّلاث للعمليّة التّعليميّة الّتي يشرفون عليها وتقوية عمليّة التّعلّم المرتبطة بكلّ واحدةٍ منها، حتّى ترتقي باستمرار نوعيّة نشاطات المعهد وكذلك قدرتها على التّوسّع للوصول إلى أعدادٍ متنامية. وبينما من المهمّ أن تعتني المعاهد بمهامّها التّشغيليّة اليوميّة، فإنّ حجم العمل الّذي يجب إنجازه يتطلّب أن تنشغل أيضًا باعتباراتٍ استراتيجيّة. إنّ على هيئات المعاهد التّدريبيّة أن تحافظ على استمراريّة المشورة مع المنسّقين على المستوى المركزيّ أو الإقليميّ وكذلك مع أعضاء هيئة المعاونين حول الطّريقة الّتي يَكتَسِب بها النّشاط القوّة في المجموعة الجغرافيّة، وكيفيّة توفير الموارد اللّازمة بقدرٍ كافٍ، والمقاربات الّتي أثبتت نجاعتها في حالات وأوضاع مختلفة، وكيفيّة مشاركة التّجارب. لدينا في الاعتبار جهدٌ منهجيٌّ مركّزٌ يبذله هذا الفريق التّعاونيّ من أجل تجميع وتطبيق البصائر المستقاة من مستوى القاعدة والمتعلّقة بتعزيز صفوف الأطفال ومجموعات الشّباب النّاشئ والحلقات الدّراسيّة. كما أنّ الاهتمام بأبعادٍ أخرى من عمل المعهد، مثل مخطّط التّنسيق على مستوى المجموعة الجغرافيّة، وتعزيز قدرات المنسّقين، وإدارة الإحصاءات والأمور الماليّة، سيكون أساسيًّا أيضًا. في عملكم مع المعاهد التّدريبيّة ستحرصون دون شكّ على استفادتهم من خبرات معاهد أخرى في نفس الجزء من العالم. كما أنّ مواقع نشر التّعلّم المرتبطة ببرنامج الشّباب النّاشئ توفّر للمعاهد أيضًا مصدرًا ثريًّا من البصائر في الدّول والمناطق القريبة منها.
وبينما تسعى المؤسّسات والوكالات إلى تسريع عمليتي التّوسّع والاستحكام في كلّ مكان، فإنّ مسألة الموارد الماليّة تستدعي اهتمامًا متزايدًا بالتّأكيد. إنّ جانبًا هامًّا من مساعي تحسين القدرة المؤسّسية خلال السّنوات القادمة هو إنماء الصّناديق المحلّيّة والمركزيّة بصورةٍ مستمرّة. ولكي يتحقّق ذلك ينبغي دعوة عموم الأحبّاء للتّفكّر مجدّدًا في مسؤوليّة كافّة المؤمنين تجاه دعم الفعّاليّات والخدمات الأمريّة من خلال مواردهم الشّخصيّة، بل وإدارة شؤونهم الماليّة بهديٍ من التّعاليم الإلهيّة.
إنّ المدنّية المستقبليّة الّتي ارتآها حضرة بهاء الله تمتاز بالازدهار والرّخاء، حيث تُوجَّه الموارد الهائلة في العالم نحو إحياء البشريّة وسموّها لا انحطاطها وتدميرها. وبالتّالي فإنّ عمليّة التّبرّع للصّناديق تتضمّن معانيَ عميقة: فهي سبيل عمليّ وضروريّ لتسريع ظهور تلك المدنيّة، فكما بيّن حضرة بهاء الله "في هذا اليوم ينبغي على كلّ نفس خدمة أمر الله، وقد أناط الحقُّ جلّ جلاله كلّ أمور الدّنيا بالأسباب". يمارس البهائيّون حياتهم في خضمّ مجتمعٍ يتّصفّ بفوضويّة حادّة في الشّؤون المادّيّة. وعمليّة بناء الجامعة الّتي يعملون على تقدّمها في مجموعاتهم الجغرافيّة تنمّي لديهم مجموعةً من السّلوكيّات تجاه الثّروة والممتلكات مغايرة تمامًا لتلك المهيمنة على العالم. إنّ عادة التّبرّع للصّناديق الأمريّة بانتظام، بما في ذلك التّبرّعات العينيّة خاصّة في بعض الأماكن، تنبثق وتتعزّز من إحساسٍ بمسؤوليّةٍ شخصيّةٍ تجاه خير الجامعة وتقدّم الأمر المبارك. وواجب التّبرّع كما هو واجب التّبليغ جزءٌ أساسيٌّ من الهويّة البهائيّة وهو يقوّي الإيمان. إنّ تبرّعات الفرد المؤمن المتّسمة بالتّضحية والجود، والوعي الجماعيّ الّذي تعزّزه الجامعة حيال احتياجات الصّناديق، والإدارة الرّشيدة للموارد الماليّة من جانب مؤسّسات الأمر المبارك بكلّ أمانة ودقّة، يمكن اعتبارها تعبيرًا عن وشائج الحبّ الّتي تربط بين الفاعلين الثّلاثة وتزيد من تقاربهم. وفي نهاية المطاف، فإنّ العطاء عن طيب خاطر ينمّي وعيًا لدى الفرد بأنّ إدارته لأموره الماليّة وفقًا للمبادئ الرّوحانيّة هي بعدٌ أساسيٌّ لا غنى عنه لحياة تمتاز بالاتّساق. إنّها مسألة وعي، وسبيلٌ لترجمة الالتزام بإصلاح العالم إلى تطبيقٍ عمليّ.
إنّنا نسدي إليكم هذه الإرشادات إدراكًا منّا بالمسؤوليّة الفريدة الّتي تحملونها على عواتقكم أنتم ومعاونيكم ومساعديهم تجاه الأحبّاء لزيادة وعيهم في مجالات عديدة لا سيّما ديناميكيّات النّموّ. كما أشرنا سابقًا فإنّ الجامعة البهائيّة تمتلك في مؤسّسة المشاوَرين نظامًا يمكن من خلاله إيصال الدّروس المستقاة من أقصى المناطق النّائية في العالم لتُثري عمليّة التّعلّم في جميع أنحاء المعمورة والّتي يمكن لكلّ مؤمنٍ بحضرة بهاء الله أن يشارك فيها. وبينما يزداد الفهم المنبثق عن خطّة السّنوات الخمس عمقًا بين المؤمنين مع مرور الوقت، فإنّ البصائر الّتي تتفتّق من تطبيق الهدايات يتمّ إدراكها، فيعبّر عنها بوضوح، وتستوعب مضامينها، ليتمّ مشاركتها مع الآخرين. وفي هذا الصّدد فإنّ جامعة الاسم الأعظم تدين بعظيم العرفان والامتنان لدار التّبليغ العالميّة، الّتي أنجزت الكثير بمثابرةٍ عاليةٍ خلال السّنوات الأخيرة حتّى ترعى بمحبةٍ وتنشر بهمّةٍ نمطًا من التّعلّم أصبح اليوم محكم التّأسيس.
إنّ العناصر الرّئيسيّة للخطّة القادمة كما هي سابقاتها صريحة وواضحة. إلّا أنّ الفهم العميق لجوانبها المتعدّدة يتطلّب إدراكًا لجملة العمليّات المعقّدة الّتي تتطوّر من خلالها المجموعة الجغرافيّة. إنّنا نعوّل على أن تكون مؤسّستكم مُلمّةً تمامًا بالهدايات ذات الصّلة حتّى يتمكّن الأحبّاء بوجهٍ عام والمؤسّسات ووكالاتها بوجهٍ خاصّ من الاعتمادِ عليكم لتنوير مداولاتهم من خلال جلب الاهتمام إلى الاعتبارات ذات العلاقة. من الواضح أنّ الحاجة لمساعدة الأحبّاء فيما لا يقل عن 5,000 مجموعة جغرافيّة تزداد فيها كثافة نمط العمل، سوف يشكّل تحدّيًا عظيمًا، تحدّيًا له تبعات على أسلوب عملكم، وعلى عمل أعضاء هيئة المعاونين بوجهٍ خاصّ. فالمجموعات الجغرافيّة الّتي هي في مقدّمة عمليّة النّموّ بمناطقهم ستتطلّب دون شك نصيبًا أكبر من وقتهم؛ كما أنّ الترتيبات الإداريّة على المستوى الإقليميّ سوف تستلزم دعمًا متزايدًا منهم. إنّهم معنيون بكثيرٍ ممّا يحدث في الجامعة؛ يهتمّون بتطوّر العمليّة التّعليميّة بمراحلها المختلفة وكذلك تقوية دورات النّشاط، كما أنّهم يعزّزون الاتّساق فيما بين محاور العمل الآخذة بالتّطوّر في المجموعة الجغرافيّة، يذكّون في النّفوس شغف التّبليغ. ولدى تأدية مهامّهم تجاه رعاية عمليّة التّعلّم ومساعدة الأحبّاء على الدّخول في ميدان الخدمة فإنّهم يعتمدون بشكل كبير على المعاهد التّدريبيّة حيث تتشابه بعض جوانب عملها مع مهامّهم. إلّا أنّ وظائفهم الأخرى ليست أقل إلحاحًا. ولذا فإنّ الإيفاء بمسؤوليّاتهم واسعة النّطاق يتطلّب منهم أن يأخذوا بعين الاعتبار كيف يمكنهم الاعتماد على مساعديهم بشكلٍ أكبر وبطرقٍ أكثر ابتكارًا. بالطّبع يمكن إسناد أيّة مهمّة للمساعدين، سواء كانت بسيطةً أو معقّدة، عامّةً أو محدّدة للغاية، وهذه المرونة نقطة قوّة واضحة. فبينما يتولّى بعض المساعدين مسؤوليّة تطوّر جامعةٍ محلّيّة، قد يوكَل إلى آخرين مهامًّا متعلقة بمجموعةٍ جغرافيّة بأكملها. بمقدور أعضاء هيئة المعاونين أن يستفيدوا من الإمكانات المتاحة بصورةٍ أفضل من خلال الإعداد المناسب للمساعدين، وتوجيههم كلّما اتّسعت القدرة، وزيادة وظائفهم تدريجيًّا. لا شكّ بأنّ الكثير سوف يتمّ تعلّمه نتيجةً لما سبق، وأنتم مدعوون لاستخلاص البصائر من تجارب معاونيكم.
فترةٌ زاخرةٌ بقوىً استثنائيّة
من شأن المتابعة المنهجيّة للخطّة بكافّة أبعادها أن تفضي إلى نمطٍ من مساعٍ جماعيّة لا تتميّز بالتزامها بالخدمة فحسب بل وبانجذابها إلى العبادة أيضًا. إنّ تكثيف النّشاطات الّتي تتطلّبها السّنوات الخمس القادمة سوف يثري الحياة التّعبديّة الّتي يتشارك فيها أولئك الّذين يخدمون جنبًا إلى جنب في مجموعات جغرافيّة في أنحاء العالم. عمليّة الإثراء هذه متقدّمة بالفعل: انظروا على سبيل المثال كيف أنّ الاجتماع من أجل العبادة الجماعيّة أصبح جزءًا من حياة الجامعة. جلسات الدّعاء والمناجاة مناسَبةٌ للتّرحيب بكلّ نفسٍ توّاقةٍ إلى التّلذّذ بحلاوة المناجاة، والانتشاء بنفحات الرّحمن والتّأمّل في الكلمة الخلّاقة والتّحليق بجناحي الرّوح ومناجاة حضرة المحبوب. في هذه المناسبات تتولّد مشاعر المودّة والألفة والهدف المشترك، خاصّة في الأحاديث الرّوحانيّة العميقة الّتي تجري بصورةٍ طبيعيةٍ وتُفتح بواسطتها "مدائن القلوب". إنّ روح مشرق الأذكار ينبعث في كلّ مكانٍ تنعقد فيه جلسة دعاء وتعبّد ترحّب بالكبار والصّغار أيًّا كانت خلفيّاتهم. الارتقاء بالهويّة التّعبّديّة للجامعة له تأثير على الضّيافات التّسع عشريّة أيضًا كما يمكن استشعار تأثيراتها في أوقات أخرى عندما يجتمع الأحبّاء معًا.
إنّ لإحياء ذكرى الأيّام المحرمّة مكانةٌ خاصّةٌ في هذا الخصوص. فالألواح الّتي تُتلى والأدعية والقصص والأناشيد والمشاعر الّتي يفصح عنها، كلّ ذلك تعابير جليّة عن حبّ تلك الهياكل المقدّسة الّتي تُستَذكَر رسالتُها وحياتُها، فيهتزّ الفؤاد وينتشي الرّوح مهابةً وإجلالًا. في خطّة السّنوات الخمس الّتي نستهلّها قريبًا، سوف تمرّ ذكرى حدثين جليلين هما: ذكرى مرور مئتي عام على مولد حضرة بهاء الله ومولد حضرة الباب في عامي 2017 و2019 على التّوالي. إنّ هذين العيدين البهيّين سيكونان فرصةً للبهائيّين في كلّ أرضٍ لجذب أكبر عددٍ من المؤمنين وأسرهم والأصدقاء وزملاء العمل وغيرهم من المجتمع الأوسع، إلى الاحتفاء بلحظاتٍ شهدت ميلاد وجودٍ فردٍ بلا مثال، مظهرِ ظهورٍ إلهيّ. سيعزّز هذان الاحتفالان بالتّأكيد الإدراك بقيمة إحياء الأيّام المحرّمة ودورها في ترسيخ الهويّة البهائيّة؛ خاصّة وأنّ الأيّام المحرّمة تُعقد الآن وفقَ تقويمٍ يوحّد أحبّاء الله في كلّ مكان.
خلال السّنوات القليلة القادمة، ستحيي الجامعة سلسلةً من مناسبات سنويّةٍ تُختتم بالذّكرى المئويّة لصعود حضرة عبد البهاء في تشرين الثّاني/نوفمبر 2021، لتنهي القرنَ الأوّل من عصر التّكوين. وفي العام المقبل سوف يحتفل العالم البهائيّ بمرور مئة عامٍ على صدور اللّوح الأوّل من ألواح الخطّة الإلهيّة الصّادرة من يراع حضرة عبد البهاء. لقد وضع حضرته في هذه الألواح الأربعة عشر والّتي نزّلت خلال واحدة من أحلك ساعات التّاريخ البشريّ، دستورًا لنشر نفحات الله يتّخذ من العالم بأسره مسرحًا لأحداثه. هذه الألواح لم توضع في حيّز التّنفيذ حتّى عام 1937 حيث تمّ، بتوجيهٍ من حضرة ولي أمر الله، تدشين أوّل خطّة ضمن سلسلة من الخطط الّتي أسندها إلى البهائيّين في قارّة أمريكا الشّماليّة. منذ ذلك الحين والخطّة الإلهيّة تستمرّ بالتّكشّف عبر العقود مع نموّ القدرة الجماعيّة لأتباع حضرة بهاء الله، والّتي تمكّنهم من مواجهة تحدّياتٍ تزداد جسامة. كم هي بديعةٌ رؤى موجِد هذه الخطط! الّذي رسم للأحبّاء مشهد ذلك اليوم الّذي يُضيء فيه كلّ ركن من أركان المعمورة بنور رسالة والده الجليل. إنّه لم يحدّد استراتيجيّات تحقيق هذا الإنجاز فحسب بل وخطّ المبادئ الأساسيّة والمتطلّبات الرّوحانيّة الثّابتة لها. إنّ أيّ جهدٍ يبذله الأحبّاء في سبيل نشر التّعاليم الإلهيّة بصورةٍ منهجيّة، ما هو إلّا امتداد لتلك القوى الّتي أُطلقت من عقالها في الخطط الإلهيّة.
إنّ المسعى العالميّ المرتقب الّذي نُوْديَ الأحبّاء للمشاركة فيه يستدعي تطبيق استراتيجيّات أثبتت نجاعتها، وعملًا منهجيًّا، وتحليلًا مستنيرًا، وبصائر ثاقبة. وفوق ذلك كلّه فهو مشروعٌ روحانيّ لا ينبغي إغشاء طابعه الحقيقيّ. إنّ الحاجة المُلحّة للعمل تفرضها حالة العالم البائسة. فكلّ ما تعلّمه أتباع حضرة بهاء الله خلال السّنوات العشرين الماضية ينبغي أن يُتوَّج بإنجازات السّنوات الخمس القادمة. فحجم العمل المطلوب منهم يعيد إلى الأذهان لوحًا من ألواحه الّذي يصف فيه بعباراتٍ مدهشة ذلك التّحدّي الّذي يستلزمه نشر أمره العظيم:
كم من أرضٍ باتت من غير زرعٍ وحرث وكم من أرضٍ زُرعت وحُرثت وباتت من غير ماء وكم من أرضٍ أتى وقت حصادها ولم يكن من حاصدٍ ليحصدها ولكنّ الأمل أن تظهر من بدائع الألطاف الإلهيّة وظهورات العواطف الرّحمانيّة نفوسٌ أخلاقها ملكوتيّة وتنشغل بتبليغ أمر الله وتربية مَن في العالم.
إنّ الجهود المنهجيّة لعشّاق جمال القدم في جميع أرجاء المعمورة تصبو إلى تحقيق الآمال الّتي أعرب عنها حضرته. عسى أن يمنّ عليهم في كلّ خطوة بتأييدٍ وتوفيقٍ من لدنه.
[التّوقيع: بيت العدل الأعظم]