[ترجمة]

رضوان 2000

إلى البهائيّين في العالم

الأحبّاء الأعزّاء،

نحني رؤوسنا لربّ الجنود شكرًا وامتنانًا، وتملأ قلوبنا فرحة غامرة بما نشهده من تفاوت رائع حقّقته السّنوات الأربع للخطّة العالميّة الّتي وصلت إلى نهايتها في أعظم الأعياد هذا.  لقد كان ما حقّقته جامعتنا العالميّة من تقدّم خلال تلك الفترة ملموسًا ارتقى بها إلى قمم شامخة تمدّ البصر منها فترى بكلّ وضوح آفاقًا جديدةً مشرقةً لانتصارات سوف تحقّقها في المستقبل.

كان التّفاوت الكمّيّ بشكل رئيس نتيجة تفاوت نوعيّ أكثر أهمّيّةً وحسمًا.  وشهدت ثقافة الجامعة البهائيّة تغيّرًا ملحوظًا يمكن مشاهدته في القدرات المتنامية، وأساليب العمل المنهجيّة، وما يتبع ذلك من ازدياد الثّقة بالنّفس لدى العناصر الثّلاثة المشاركة في الخطّة:   الفرد والمؤسّسات والجامعة المحلّيّة.  ذلك لأنّ الأحبّاء انهمكوا أكثر بتنمية معلوماتهم والتّعمّق بالتّعاليم الإلهيّة بكلّ مثابرة وبأسلوب منظّم أكثر من ذي قبل، وتعلّموا كيفيّة تطبيق هذه التّعاليم لنشر أمر الله وإدارة أنشطتهم الفرديّة والجماعيّة والعمل مع أقرانهم في الجوار.  وباختصار، فقد ولجوا طورًا تعلّميًّا انطلقوا منه نحو عمل هادف بنّاء.  وكانت القوّة المحرّكة الرّئيسة لهذا التّغيير نظام معاهد تدريبيّة تأسّست في أنحاء العالم بسرعة فائقة، وهو إنجاز يعتبر في ميدان التّوسّع والتّمكين ذلك الميراث الأعظم والأوحد لخطّة السّنوات الأربع.

إنّ في ازدياد مقدرة الأفراد على تبليغ أمر الله – كما هو واضح في اندفاعهم للقيام بالمبادرات الفرديّة؛ وفي تحسّن مقدرة المحافل الرّوحانيّة والمجالس الإقليميّة واللّجان في استغلال طاقات الأحبّاء وتوجيهها؛ وفي استخدام أساليب جديدة من الفكر والعمل ألقت بتأثيرها على السّلوك الجماعيّ للجامعات المحلّيّة؛ في كلّ ذلك أثبت نظام المعاهد التّدريبيّة أنّه محرّك لا غنىً عنه لعمليّة الدّخول في دين الله أفواجًا.  وبتوسيع أعمالها بتشكيل حلقات دراسيّة محلّيّة، تمكّنت معاهد تدريبيّة عديدة من رفع طاقاتها فغطّت مناطق شاسعةً ببرامجها.  وعلى سبيل المثال، فقد أسّست منغوليا 106 حلقة دراسيّة أثمرت زيادةً ملموسةً في عدد المؤمنين الجدد.  وواكب هذه الأنماط من التّطوّرات أيضًا، إيلاء أفراد جامعتنا العالميّة اهتمامًا أكبر باستمداد القوّة من الدّعاء، والتّأمّل بالكلمة الإلهيّة المقدّسة، واستمطار المدد الرّوحانيّ نتيجة المشاركة في جلسات الدّعاء الجماعيّ.  فبفضل تأثير عناصر التّحوّل الحادّ هذه على الفرد والجماعة نرى الجامعة تكبر وتزداد عددًا.  ومع أنّ عدد المؤمنين الجدد لم يزد إلّا قليلًا عمّا كان عليه في السّنوات القليلة الماضية، فإنّ ما يبعث على السّرور البالغ والرّضى مشاهدة تلك الزّيادة وقد انتشرت الآن جغرافيًّا وشملت شرائح أوسع من المجتمع ونجحت في دمج المؤمنين الجدد في حياة المجتمع البهائيّ. 

إنّ وضعًا سليمًا واعدًا للأمر المبارك كهذا ندين به إلى أبعد الحدود للتّأثير الاستشاريّ، والدّور التّعاونيّ، والأسلوب العمليّ لمؤسّسة المشاورين.  حيث وجدناه بزخم كبير في مجال تشكيل المعاهد وفي أعمالها.  هذا الزّخم الّذي جاء تجاوبًا مع الحثّ الدّؤوب في الوقت المناسب من جانب دار التّبليغ العالميّة الّتي ما انفكّت تعمل بيقظة وحيويّة.

إنّ الهدف الرّئيس لخطّة السّنوات الأربع، الّتي تدور حول التّسريع في عمليّة الدّخول في دين الله أفواجًا، قد ولّد درجةً عاليةً من التّكامل في الفكر والعمل؛ وركّز الاهتمام نحو مرحلة في غاية الأهمّيّة من تطوّر الجامعة البهائيّة الّتي لا بدّ من الوصول إليها خلال عصر التّكوين.  وما لم تلق عمليّة الدّخول في دين الله أفواجًا مساندةً ودعمًا أكبر، لن تكون الظّروف مواتيةً للوصول إلى مرحلة الإيمان الجماهيريّ، ذلك الإنجاز الّذي وعد به حضرة شوقي أفندي في كتاباته.  إنّ الهدف الرّئيس الّذي ركّزت عليه خطّة السّنوات الأربع قد ترك أثرًا على كافّة أوجه النّشاطات البهائيّة، واقتضى وضوحًا في الفهم والإدراك بما يكفل التّخطيط المنظّم والاستراتيجيّ باعتباره مطلبًا أساسيًّا للعمل الفرديّ والجماعيّ.  وقد بدأ أفراد الجامعة يقدّرون بالتّدريج كيف أنّ الأسلوب المنظّم يسهّل عمليتيْ النّموّ والتّطوّر.  فيقظة الوعي كانت خطوةً جبّارةً قادت إلى رفع مستوى النّشاطات التّبليغيّة وإيجاد تغيّر في ثقافة الجامعة.

لقد شوهدت أوجه التّكامل في الهدف الرّئيس للخطّة واضحةً في جهود التّخطيط وفي بناء القدرة المؤسّسيّة وفي تنمية الموارد البشريّة.  أمّا الخيوط الّتي تجمعها معًا فيمكن تتبّعها من نقطة بدء الخطّة وحتّى نهايتها.  وكان مؤتمر هيئات المشاورين القارّيّة في الأرض الأقدس في كانون الأوّل/ديسمبر من عام 1995 نقطة البداية، فهناك تمّ تعريف المشاورين بملامح الخطّة، وتبع ذلك مشاوراتهم مع المحافل الرّوحانيّة المركزيّة في جلسات شهدت تخطيطًا على النّطاق المركزيّ وتدرّج بعد ذلك إلى المستوى الإقليميّ ليشمل أعضاء هيئة المعاونين والمحافل الرّوحانيّة المحلّيّة واللّجان.  وبذلك انخرطت كافّة عناصر الإدارة البهائيّة وعلى كافّة المستويات في عمليّة التّخطيط ثم تعدّتها إلى مرحلة التّنفيذ الّتي تستلزم إيجاد قدرة مؤسّسيّة قادرة على التّكيّف مع عمليّة الدّخول في دين الله أفواجًا.  وفي هذا السّياق اتّخذت خطوتان رئيستان:  الأولى تأسيس المعاهد التّدريبيّة، والثّانية الشّروع رسميًّا على نطاق واسع في تأسيس المجالس البهائيّة الإقليميّة كمؤسسات إداريّة تقع بين المستوييْن المحلّيّ والمركزيّ بهدف تنمية القدرة الإداريّة لدى جامعات معيّنة حيث يواجه المحفل الرّوحانيّ المركزيّ فيها مشاكل معقّدةً متناميةً تستدعي مثل هذا التّطوّر الإداريّ.  وبنفس القدر من أهمّيّة اتّحاد العناصر الأساسيّة لهذه العمليّة كذلك كانت الاستراتيجيّات اللّازمة الّتي تمثّلت بطريقتيْن للتّنفيذ:  إحداها الخطط الموضوعة للعمل في مجال التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وهو عنصر حاسم في تقوية وتمكين الجامعة؛ والآخر في مجال العلاقات الخارجيّة الّتي تعدّ عنصرًا حيويًّا يجعل الأمر المبارك قادرًا على إدارة الآثار النّاجمة عن خروجه من المجهوليّة.  إنّ التّأثير المشترك لما سبق أثمر نتائج باهرةً يتعدّى إحصاؤها نطاق هذه الصّفحات إلى حدّ بعيد.  إلّا أنّه لا مفرّ من ذكر بعض البنود الرّئيسة الدّالة على اتّساع نطاق إنجازات الخطّة.

ففي الأرض الأقدس يتقدّم العمل في إنشاء الشّرفات وأبنية القوس بشكل يؤكّد تحقيق الموعد المقرّر لانتهائها في نهاية هذا العام الميلاديّ.  كما أنّ البناء المشار إليه في رسالة الرّضوان الأخيرة والمعدّ لاستيعاب عدد أكبر من الزّائرين في حيفا قد أصبح جاهزًا لاستعماله في هذا الرّضوان.  وفي هذا السّياق نفسه فقد ووفق على المخطّطات الإنشائيّة للمرفق الحيويّ المنوي إنشاؤه في البهجة الّذي نحتاج إليه أشدّ الحاجة لاستيعاب الحجّاج والزّائرين الآخرين من بهائيّين وغيرهم.  كما ترجمت النّصوص المباركة الّتي سيضمّها مجلّد جديد من آثار حضرة بهاء الله ويتقدّم العمل في سبيل نشره على قدم وساق.

لقد تحقّقت خطوات واسعة في ميدانيّ التّوسّع والتّمكين إضافةً إلى ما ذكر سابقًا، فشملت:  الهجرة والإعلان العامّ عن الأمر، وإصدار المطبوعات البهائيّة، واستخدام الفنون، وتشكيل المحافل الرّوحانيّة، وتطوير مؤسّسات الدّراسات البهائيّة.  فاستقر ما يقارب 3,300 مؤمن خارج أوطانهم كمهاجرين لمدد طويلة وفترات قصيرة.  وعمدت دول عديدة كانت عادة تعدّ دولًا مستقبلة للمهاجرين إلى إرسال مهاجرين إلى الخارج وهذه دلالة أخرى على نضج الجامعات المركزيّة.  واستجابةً للمهمّة المناطة بالأحبّاء في كندا والولايات المتّحدة، تفوّقت هذه الجامعات البهائيّة فتجاوزت أهدافها في عدد المهاجرين الّذين غادروا شواطئها، وبأعداد ضخمة من المبلّغين الجوّالين وبينهم عدد ملحوظ من الشّباب.  وممّا يجدر بالملاحظة أيضًا، تلك الاستجابة المنعشة للقلوب من أحبّاء من أصل إفريقيّ في الولايات المتّحدة للنّداء الدّاعي إلى توجّه مبلّغين جوّالين إلى أفريقيا.

أمّا الإعلان عن الأمر المبارك فقد تضمّن طيفًا من الأنشطة شملت رعاية المناسبات في مجالات واسعة من قبيل:   المناسبات السّنويّة، واحتفالات إحياء الذّكرى، وحلقات النّقاش، والمعارض وما شابه ذلك، ممّا مكّن أعدادًا غفيرةً من النّاس من التّعرّف على تعاليم الأمر البديع.  وكانت مشارق الأذكار مراكز جذب للزّائرين الّذين دخلوا أبوابها بأعداد متزايدة خاصّة في الهند، إذ استقبل مشرق الأذكار في نيودلهي نحو خمسة ملايين زائر خلال العام الماضي.  أضف إلى ذلك الاستخدام المتعدّد لوسائل الإعلام في إيصال الرّسالة الإلهيّة لعامة النّاس.  ففي الولايات المتّحدة استجاب ما يقارب 60,000 من المستفسرين لحملة إعلاميّة وضعتها لجنة التّبليغ المركزيّة.  وعلى نطاق عالميّ زادت معرفة النّاس بالأمر المبارك بظهور مقالات طوعيّة متعاطفة في وسائل الإعلام المطبوعة بشكل أكبر من ذي قبل.  وكان هناك اتّساع مماثل لتعريف أمر الله إثر استعداد محطّات إذاعيّة وتلفزيونيّة بثّ برامج بهائيّة منتظمةً في أقطار مثل جمهوريّة الكونغو الدّيمقراطيّة وليبيريا.  وقد توّجت هذه التّطوّرات الميمونة باختيار مؤسّسات إعلاميّة عالميّة، بمحض إرادتها، للمقام الأعلى والشّرفات موقعًا للبثّ التّلفزيونيّ المباشر في الفقرة الخاصّة بالأرض الأقدس في البرنامج الإعلاميّ العالميّ احتفالًا بقدوم عام 2000 ميلاديّة.

لقد أصبح استخدام الفنون يشكّل ميّزةً هامّةً في الإعلان عن الأمر المبارك وفي التّبليغ والتّعمّق وجلسات الدّعاء للجامعة البهائيّة في أطراف العالم.  فعملت الفنون على جذب الشّباب الّذين استخدموها في التّبليغ وجلسات التّعمّق وبشكل رئيس في مجال التّمثيل والرّقص والّتي أخذت تنشط في أنحاء عديدة من العالم.  إلّا أنّ القوّة المحرّكة للفنون تجاوزت حدود الرّقص والغناء لتشمل طيفًا واسعًا من الأنشطة المبتكرة الّتي عملت على ترسيخ النّاس في الأمر الإلهيّ.  وحيثما استخدم الرّقص الفولكلوريّ، خاصّة في أفريقيا، حظيت أعمال التّبليغ بطفرة كبيرة.  ومثال ذلك غانا وليبيريا الّتي أطلقت كلّ منهما مشروعًا باسم "نور الوحدة" يهدف إلى ترويج استخدام الفنون في التّبليغ، وكذلك في الهند حيث اشتركت في الهدف نفسه فرقة "الوئام المجتمعيّ".

وحظيت ترجمة الكتب البهائيّة ونشرها، خاصّة في أفريقيا وآسيا، بزخم كبير بفضل تشجيع المشاورين ودعم الصّندوق القاريّ.  كما صدر الكتاب الأقدس بطبعته الكاملة باللّغة العربيّة وبلغات أخرى.

إنّ تحديد موعد تشكيل المحافل الرّوحانيّة المحلّيّة في اليوم الأوّل من الرّضوان، الّذي بدأ العمل به عام 1997 أدّى إلى نقص كان متوقّعًا في عدد تلك المؤسّسات، إلّا أنّ هذا النّقص لم يكن كبيرًا، فمنذ ذلك الحين حافظ العدد على مستواه، وبدأت عمليّة شاملة من الاستحكام تأخذ مجراها، وارتفعت ثمانية أعمدة جديدة لبيت العدل الأعظم ليرتفع عدد المحافل الرّوحانيّة المركزية إلى 181.

وما يبعث في النّفس شعورًا بالرّضى تسارع وتيرة البحوث والدّراسات البهائيّة خلال هذه السّنوات الأربع حيث شقّت طريقها بعزم فاعل نحو تدعيم الأسس الفكريّة لأعمال الأمر المبارك.  ممّا أثمر نتيجتيْن لا تقدّران بثمن:  إثراء مبهر للآثار الكتابيّة البهائيّة، ثمّ إصدار مجموعة من الأطروحات الّتي تعالج مشاكل معاصرةً متنوّعةً بهدي المبادئ البهائيّة.  وخلال سنوات الخطّة، انضمّت خمس هيئات جديدة إلى عضويّة هيئة الدّراسات البهائيّة الّتي احتفلت هذا العام بالذّكرى الخامسة والعشرين لتأسيسها.  إنّ انعقاد المؤتمر الأوّل للدّراسات البهائيّة في بابوا غينيا الجديدة، والملتقى الأوّل للجمعيّة اليابانيّة للدّراسات الّذي وجّه اهتمامًا خاصًّا إلى الأصول الرّوحيّة للعلوم اليابانيّة التّقليديّة، جاءا انعكاسًا لما يمثّله هذا الميدان من الخدمة من تنوّع وخلّاقيّة.

وممّا لا شكّ فيه أنّ التّقدّم في ميدان التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة كان نوعيًّا، ومع ذلك، فإنّ الأرقام الّتي تبيّن زيادةً في عدد المشاريع تبعث على الإعجاب.  إذ ارتفع العدد الوارد في التّقارير السّنويّة من 1,600 نشاط في بداية خطّة السّنوات الأربع إلى أكثر من 1,900 نشاط مع اقتراب نهايته.  ويبقى التّوجّه نحو استخدام أسلوب أكثر منهجيّةً من أبرز السّمات الّتي اتّصف بها العمل خلال هذه الفترة.  وفي سبيل ترويج المشورة والعمل ضمن أسس التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة ومبادئها، رعى مكتب التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة في المركز البهائيّ العالميّ 13 ندوةً إقليميّةً شارك فيها ما يقدّر 700 مندوب من 60 قطرًا.  كما أنّ المكتب أولى عنايته لابتكار مشاريع رائدة ووضع موادّ مناسبة لإطلاق حملات منظّمة في ميادين رعاية:   رفع مستوى الاعتماد على الشّباب ومحو الأميّة، وتدريب العاملين في قطاع الصّحّة العامّة، وتقدّم المرأة، والتّربية الأخلاقيّة.  ومثال ذلك البرنامج التّدريبيّ في غيانا الّذي تدرّب فيه أكثر من 1,500 معلّم لمحو الأميّة.  ومثال آخر كان في ماليزيا حيث اكتمل وضع ثماني مجموعات من موادّ تعليميّة خاصّة بتقدّم المرأة وأصبحت أساسًا لدورات تدريبيّة عقدت في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللّاتينيّة.  كما بدأ العمل بتنفيذ خطّة لدمج محطّات الإذاعة البهائيّة بنشاطات المعاهد التّدريبيّة في منطقة غوايمي في بنما.  وبما أنّ المعاهد لديها القدرة على توفير التّدريب للعاملين في ميدان التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة، حصل تحرّك في هذا الاتّجاه شمل اثني عشر معهدًا يمارسون حاليًّا مثل هذه النّشاطات في ميادين تشمل محو الأميّة وتدريب العاملين في الصّحّة العامّة والتّدريب المهنيّ.  ويكرّس عدد من المؤسّسات، الّتي تعمل برعاية بهائيّة أو بوحي من التّعاليم البهائيّة جهودًا في مشاريع مختلفة مثل ذلك المشروع الّذي أقيم بالتّعاون مع منظّمة الصّحّة العالميّة للتّصدّي لوباء عمى الأنهار المنتشر في الكاميرون، إذ تلقّى ما يزيد على 30,000 العلاج اللّازم خلال هذا المشروع البهائيّ.  ومثال آخر تلك الجامعة الخاصّة الّتي تأسّست في إثيوبيا باسم كلّيّة الوحدة والّتي ارتفع عدد طلّابها إلى 8,000 طالب، وشاهد آخر هو أكاديميّة لاندغ في سويسرا الّتي مع انشغالها بتوسيع وتدعيم برامجها الأكاديميّة، قامت بإسداء مساعدة قيّمة في المساعي الجارية لعلاج العواقب الاجتماعيّة الوخيمة الّتي خلّفتها أزمة البلقان.  وهناك جامعة نور في بوليفيا الّتي قامت في مشروع مشترك مع الإكوادور بتدريب أكثر من 1,000 معلّم مدرسة ضمن برنامج القيادة الأخلاقيّة.  مثل هذه الدّلائل الّتي تشير إلى بناء القدرات في ميدان التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة كانت ذات نفع كبير لأهداف الخطّة.

واهتداءً باستراتيجيّة العلاقات الخارجيّة الّتي أعلمت بها المحافل الرّوحانيّة المركزية عام 1994، تنامت قدرات الجامعة البهائيّة في مجاليّ المعلومات الدّبلوماسيّة والمعلومات العامّة بشكل مذهل، فوضعت هذه الجامعة في علاقة فاعلة متطوّرة مع منظّمة الأمم المتّحدة والحكومات والمنظّمات غير الحكوميّة ووسائل الإعلام.  وركّزت الاستراتيجيّة المذكورة النّشاطات في المستوييْن العالميّ والقطريّ على هدفيْن رئيسيْن:  التّأثير على العمليّات المتعلّقة بالسّلام العالميّ، والدّفاع عن الأمر المبارك.  وبفضل الإجراءات الّتي اتّبعت للدّفاع عن أحبّائنا الأعزّاء في إيران، ارتقت الجامعة البهائيّة العالميّة إلى مستوىً جديد من الاحترام والدّعم خلق فرصًا لمتابعة أهداف استراتيجيّة العلاقات الخارجيّة الأخرى.  ولمواجهة التّحدّي الماثل في الوضع العسير في إيران، ابتكرت مؤسّساتنا ومكاتبنا للعلاقات الخارجيّة أساليب جديدةً لتعبئة الإمكانات المتاحة لدى الدّول ومنظّمة الأمم المتّحدة.  فشغلت قضيّة الاضطهادات في إيران اهتمام أعلى السّلطات على وجه الأرض.  فكان أن أصدر رئيس الولايات المتّحدة تحذيرًا واضحًا لإيران على إثر إصدار محكمة إيرانيّة تأكيدًا على حكم بإعدام اثنين من الأحبّاء، وعلى حكم مماثل على ثالث.  ونتيجةً لتدخّل قادة العالم ومنظّمة الأمم المتّحدة توقّف تقريبًا إعدام البهائيّين الإيرانيّين، كما انخفض عدد الّذين حكم عليهم بالسّجن مددًا طويلةً انخفاضًا ملموسًا.

وبينما نرحّب بمساعي التّدخّل هذه، فإنّنا نحيّي روح التّضحية بالنّفس وذلك الصّبر والثّبات والإيمان الرّاسخ لإخواننا وأخواتنا في إيران الّذين جعلوا تلك الجهود تتبوّأ مكانة من القوّة مؤثّرة.  فهذه الخصال الرّوحانيّة البارزة أذهلت أقرانهم بما شاهدوا من قدرة على الصّبر والجلد أمام الهجوم الوحشيّ المستمرّ ضدّهم.  كيف يفسّر هذا بغير ذلك، وهم القلّة الّتي صمدت أمام الكثرة مدّةً طويلةً؟  كيف كان لهم بغير ذلك أن يستنهضوا ذلك الاهتمام الفاعل لدى العالم حتّى لو كان مجرّد واحد منهم مهدّدًا بالموت؟  إنّ مأساة إيران تتمثّل في أنّ المعتدين قد فشلوا حتّى الآن في إدراك أنّ المبادئ الإلهيّة، الّتي في سبيلها ضحّى هؤلاء المضطهدون بأموالهم وممتلكاتهم وحتّى بحياتهم، تزخر حقًّا بالحلول الكفيلة بتحقيق ما ترنو إليه جموع النّاس في ساعة محنتها ويأسها.  ولا مجال للشّكّ في أنّ الظّلم والطّغيان المتواصل الّذي يتعرّض له إخواننا الإيرانيّون بكلّ قسوة سوف يتراجع ويتقهقر أمام يد القدرة الإلهيّة الّتي تسوق الأحداث الخفيّة نحو ما قدّر لها من مجد حتميّ موعود.

ولتحقيق الهدف الآخر من استراتيجيّة العلاقات الخارجيّة فقد اتّجه سير العمل نحو مسارات أربعة:   حقوق الإنسان ومكانة المرأة والازدهار العالميّ والتّطوّر الأخلاقيّ.  وتظهر سجلّاتنا أنّنا خطونا خطوةً ضخمةً نحو الأمام في العمل في ميدان حقوق الإنسان ومكانة المرأة.  ففي الأوّل نفّذ المكتب البهائيّ في الأمم المتّحدة برنامجًا خلّاقًا في التّثقيف بحقوق الإنسان والّذي نجح حتّى الآن في بناء وتنمية القدرات في مجال العمل الدّبلوماسيّ لدى ما لا يقلّ عن 99 محفلًا روحانيًّا مركزيًّا.  وفيما يخصّ موضوع مكانة المرأة، فإنّ وجود 52 مكتبًا قطريًّا لتطوير المرأة، ومشاركة عدد كبير من النّساء والرّجال من البهائيّين في مؤتمرات وورشات عمل على مختلف الصّعد والمستويات، واختيار مندوبين بهائيّين لمناصب حسّاسة في لجان بارزة خاصّة بالمنظّمات غير الحكوميّة، ومنها صندوق الأمم المتّحدة الإنمائيّ للمرأة.  كلّ هذه الأمور تبيّن كيف أن أتباع الاسم الأعظم يعملون بجدّ واجتهاد في سبيل ترويج مبدأ حضرة بهاء الله في مساواة المرأة والرّجل.

وفي الوقت نفسه، تعمل مجموعة من المبادرات على نشر معلومات عن الدّين البهائيّ بين مختلف الأوساط الاجتماعيّة، منها مشاريع مبتكرة من قبيل:  تأسيس موقع "العالم البهائيّ" على شبكة الإنترنت العالميّة، حيث يزوره بمعدل 25,000 زائر شهريًّا؛ وإصدار وثيقة بعنوان من يخطّ طريق المستقبل، الّتي تساعد الأحبّاء في كلّ مكان في الحديث عن المواضيع المعاصرة؛ وبثّ برنامج إذاعيّ على شبكة الإنترنت بعنوان "پيام دوست"، بشارة المحبوب، في شهر تشرين الثّاني/نوفمبر الماضي، وهو برنامج أسبوعيّ باللّغة الفارسيّة يبثّ لمدّة ساعة في منطقة واشنطن عاصمة الولايات المتّحدة الأميركيّة، ومتوفّر في كلّ الأوقات وفي كافّة أنحاء العالم على شبكة الإنترنت العالميّة؛ وتنفيذ برنامج تلفزيونيّ رائد يتحدّث عن تطبيق المبادئ الأخلاقيّة على مشاكل العصر اليوميّة، وهو الّذي لاقى ترحيبًا حارًّا من قبل السّلطات الحكوميّة في كلّ من ألبانيا والبوسنة والهرسك وبلغاريا وكرواتيا وهنغاريا ورومانيا وسلوفينيا وجمهوريّة الاتّحاد اليوغسلافيّ السّابق في مقدونيا.

إنّ إحدى الظّواهر الّتي اكتسبت زخمًا مع اقتراب القرن الحالي من نهايته تتمثّل في أنّ النّاس أخذوا يفصحون عن طموحاتهم عبر ما يسمّى الآن "منظّمات المجتمع المدنيّ".  لا بدّ وأن يكون مدعاةً لرضىً بالغ لدى البهائيّين في كلّ مكان عندما يعلمون أنّ الجامعة البهائيّة العالميّة، كمنظّمة غير حكومية وتمثّل عيّنة شاملة من مختلف الأجناس من المجتمع الإنسانيّ، قد حازت على الثّقة كونها عاملًا مساعدًا على الوحدة والاتّحاد في المناقشات الهامّة الّتي تشكّل طريق المستقبل.  وقد عيّن مندوبنا الرّئيسيّ لدى الأمم المتّحدة، رئيسًا للجنة المنظّمات غير الحكوميّة، بالتّناوب مع رئيس آخر، وهي اللّجنة الّتي شكّلها المجلس الاقتصاديّ والاجتماعيّ.  إنّه منصب منح الجامعة البهائيّة العالميّة دورًا قياديًّا لتنظيم منتدى الألفيّة وهو الاجتماع الّذي دعا إليه الأمين العام للأمم المتّحدة كوفي عنان ومن المقرّر أن يلتئم في شهر أيّار/مايو.  وسيمنح هذا المنتدى "منظّمات المجتمع المدنيّ" فرصةً لصياغة مقترحات وتوصيات حول مواضيع عالميّة ستناقش في مؤتمر القمّة الألفيّة اللّاحق في شهر أيلول/سبتمبر من هذا العام بحضور ملوك وقادة ورؤساء الحكومات في العالم.

إنّ صحوة الإنسانيّة على الأبعاد الرّوحيّة للتّغيّرات والتّحوّلات الّتي تأخذ مجراها في العالم لها معنىً ومفهوم خاص عند البهائيّين.  فحوار ما بين الأديان قد ازداد قوّةً وتركيزًا.  وخلال خطّة السّنوات الأربع ازدادت مشاركة الدّين البهائيّ في هذه الجلسات ضمن الأديان المعترف بها.  ففي شهر كانون الأوّل/ديسمبر الماضي التأم برلمان الأديان العالميّ في مدينة كايب تاون بحضور حوالي 6,000 مشارك من بينهم وفد بهائيّ كبير.  وقد شارك البهائيّون في عضويّة مجلسيْ الإدارة اللّذين خطّطا لهذا الاجتماع على المستوييْن العالميّ والجنوب أفريقيّ.  وينبع اهتمام البهائيّين بهذا الحدث بشكل خاصّ من حقيقة أنّ اسم حضرة بهاء الله قد دوى أوّل مرّة في جلسة عامّة في الغرب في برلمان الأديان الّذي عقد في شيكاغو عام 1893.  كما عقد في الأردن في شهر تشرين الثّاني/نوفمبر الماضي مؤتمرًا ما بين الأديان دعي إليهما بهائيّون:  الأوّل حول النّزاعات والأديان في الشّرق الأوسط، والثّاني الاجتماع السّنويّ لمؤتمر الأديان والسّلام.  كما حضر مندوبون بهائيّون مناسبةً في مدينة الفاتيكان وأخرى في نيودلهي برعاية الكنيسة الكاثوليكيّة.  ففي نيودلهي كانت المشاور زينا سورابجي إحدى ممثّلي الأديان الّتي ألقت كلمتها بحضور قداسة البابا يوحنّا بولس الثّاني.  وفي المملكة المتّحدة برز الدّين البهائيّ على السّاحة العامّة عندما انضمّ ممثّلو البهائيّين إلى ممثّلي الأديان الثّمانية الرّئيسة الأخرى في احتفال ما بين الأديان بمناسبة الألفيّة الجديدة الّذي أقيم في الرّواق الملكيّ لقصر وستمنستر.  وفي هذا الاحتفال أشير إلى اجتماع "الأديان التّسعة الرّئيسة في المملكة المتّحدة" بمحضر العائلة المالكة ورئيس الوزراء ورئيس أساقفة كانتربري وشخصيّات مرموقة أخرى.  وفي ألمانيا دعي الأحبّاء لأوّل مرّة إلى حوار بين الأديان، وهذا الحدث قلب رأسًا على عقب موقف الطّوائف المسيحيّة الّذي كان قائمًا ردحًا من الزّمن، حيث تحاشت الاتّصال بالدّين البهائيّ على إثر نشر كتاب من قبل أحد ناقضي العهد والميثاق بواسطة دار النّشر اللوّثريّة في عام 1981.  فجاء الرّدّ ومعه العلاج بكتاب علميّ موثّق وضعه ثلاثة بهائيّين في 600 صفحة، ونشرته عام 1995 دار نشر مرموقة غير بهائيّة.  وهذا يعدّ نصرًا مؤزّرًا للجامعة البهائيّة في ألمانيا، وقد صدرت ترجمة له باللّغة الإنجليزيّة في السّنة الأخيرة من الخطّة.  هذا وقد اتّخذ حوار ما بين الأديان الّذي عقد في قصر لامبيث عام 1998، منحىً جديدًا غير مألوف عندما عقد اجتماعًا بحضور مندوبين عن البنك الدّوليّ إلى جانب ممثّلي الأديان الرّئيسة التّسعة وأدّى هذا الاجتماع إلى تشكيل ملتقى حوار الأديان للتّنمية والتّطوير.  وكان الهدف المعلن لهذا الحوار تجسير الهوّة بين الجماعات الدّينيّة والبنك الدّوليّ حتّى يتمكّن الجميع من العمل معًا بفاعليّة أكثر للتّغلّب على آفة الفقر في العالم.  ويمثّل تواتر اجتماعات ما بين الأديان وشموليّتها ظاهرةً جديدةً من العلاقات بين الأديان.  ويبدو واضحًا أنّ مختلف المجتمعات الدّينيّة تكافح من أجل إيجاد روح الألفة والمودّة فيما بينها، وهذا ما دعا حضرة بهاء الله أتباعه إلى انتهاجه مع سائر الأديان الأخرى.

لقد جاء السّعي الحثيث للجامعة البهائيّة خلال خطّة السّنوات الأربع في وقت تكبّل المجتمع الإنسانيّ سلسلة من المصالح المتضاربة.  ففي هذه الفترة القصيرة، شديدة الحركة والتّقلّب، كانت القوى العاملة في الجامعة البهائيّة وفي أنحاء العالم تعمل بتسارع قويّ لا يعرف الكلل.  وفي أعقاب كلّ ذلك برزت، بشكل واضح، وأكثر من أيّ وقت مضى، تلك الظّاهرة الاجتماعيّة الّتي أشار إليها حضرة شوقي أفندي.  فقبل أكثر من ستّة عقود نبّه حضرته إلى "هذا السّباق من مدّ وجزر في الشّؤون الإنسانيّة، ومن بناءٍ وهدمٍ ومن استتبابٍ للنّظام وانتشار للفوضى، وما يترتّب على ذلك من استمرار للتّفاعلات المتقابلة".  ولم تستمرّ هاتان العمليّتان التّوأمان في معزل عن تلك العمليّات الخاصّة بالجامعة البهائيّة، ولكن في بعض الأحيان انطلقت على نحو دعا إلى المشاركة المباشرة للدّين البهائيّ كما سبق توضيحه.  وبدا وكأنّ هاتيْن العمليّتيْن تجريان في جنبيْن متقابليْن من دهليز الزّمن.  فعلى جانب حروب أثارتها النّزاعات الدّينيّة والسّياسيّة والعرقيّة والقبليّة في أكثر من 40 منطقة؛ انهيار تام ومفاجئ للنّظام المدنيّ شلّ عددًا من الدّول؛ الإرهاب كسلاح سياسيّ غدا وباءً شائعًا؛ ازدياد مضطرد للشّبكات الإجراميّة الدّوليّة دقّ ناقوس الخطر.  ومع ذلك، وعلى الجانب الآخر، جرت محاولات جادّة لتنفيذ وسائل حماية الأمن الجماعيّ وتحسينها، ممّا يعيد إلى الأذهان أحد وسائل العلاج الّتي وصفها حضرة بهاء الله لحفظ السّلام، وانطلق نداء لتشكيل محكمة جنايات دوليّة، وهو نداء ينسجم مع التّطلّعات والآمال البهائيّة؛ لتركيز الانتباه على الحاجة الملحّة لنظام مناسب يعالج القضايا الدّوليّة، ينتظر أن يجتمع زعماء العالم في القمّة الألفيّة؛ وسائل الاتّصال الجديدة أتاحت السّبيل ليتخاطب كلّ فرد مع أيّ فرد آخر على وجه البسيطة.  وقد هدّد الانهيار الاقتصاديّ في آسيا بزعزعة استقرار الاقتصاد العالميّ، ولكنه حفز الجهود لعلاج الوضع الرّاهن، وكذلك إيجاد الوسائل الكفيلة بتحقيق العدالة والمساواة في التّجارة الدّوليّة والأمور الماليّة.  هذه مجرد أمثلة قليلة على هذين الاتّجاهيْن المتضادّيْن المتفاعليْن اللّذين يعملان في وقتنا الرّاهن، مصداقًا للبيان البليغ الملهم لحضرة شوقي أفندي عن القوى العاملة في الخطّة الإلهيّة الكبرى، "الّتي تهدف في النّهاية إلى وحدة الجنس البشريّ وتأسيس الصّلح العموميّ في العالم الإنسانيّ".

وفي ختام هذه السّنوات الأربع الحافلة بالأحداث، نكون قد وصلنا إلى نقطة التقاء استثنائيّة للنّهايات والبدايات طبقًا للتّقويم الميلاديّ والتّقويم البديع البهائيّ.  فمن ناحية، يستتبع هذا الالتقاء طيّ صفحة القرن العشرين، ومن ناحية أخرى يفتتح مرحلةً جديدةً من عصر التّكوين.  والمشهد المنظور من هذين الإطاريْن الزّمنيّيْن يحفّزنا على التّفكير والتّأمّل في تصوّر رؤية من الاتّجاهات والنّزعات الّتي تزامنت فعملت على تشكيل مصير العالم، وأن نقوم بذلك ضمن إطار الرّؤية الواضحة الّتي صوّرها حضرة شوقي أفندي عند الشّروع بمشاريع القوس الّتي رسمها وصمّمها.  وخلال فترة هذه الخطّة اتّضحت جليّا تلك الرّؤية مع تقدّم أعمال البناء على جبل الكرمل، ومع اتّخاذ زعماء العالم خطوات جريئةً في رسم معالم هيكل السّلام السّياسيّ العالميّ، ومع ارتقاء المؤسّسات البهائيّة المحلّيّة والمركزيّة إلى مستويات جديدة من مراحل تطوّرها.  إنّنا نحمل معنا ذكرى مقدّسةً باقيةً للقرن العشرين تحفّز طاقاتنا وترسم لنا معالم الطّريق أيضًا:  إنّها ذكرى تلك اللّحظة الّتي تحمل بذور النّموّ والتّطوّر من تاريخ البشريّة عندما صمّم مركز عهد حضرة بهاء الله، خلال فترة ولايته الفريدة، هيكل نظم عالميّ جديد، وعندما كرّس حضرة وليّ أمر الله جُلّ طاقاته فيما بعد، وخلال فترة من أحلك السّنوات وأخطرها، لرفع صرح النّظم الإداريّ، والّذي يرتفع في نهاية القرن أمام أنظار العالم في تمام هيكله الأساسيّ.  وهكذا نكون قد وصلنا إلى جسر يربط بين الأزمنة.  فالقدرات الّتي اكتسبت خلال قرن من كفاح وتضحية ثلّة من عشّاق حضرة بهاء الله، يجب توظيفها الآن في تأدية المهامّ الّتي لا مفرّ منها المتبقّية في عصر التّكوين، عصر ستقود حتمًا مراحله العديدة من العمل المتواصل إلى ذلك العصر الذّهبيّ لديننا عندما يعمّ الصّلح الأعظم كافّة أرجاء المعمورة.

نبدأ في هذا الرّضوان بخطّة من اثني عشر شهرًا.  ورغم قصرها، فإنّها لا بدّ وأن تكفي، وسوف تكفي بالتّأكيد، لإنجاز بعض المهامّ الحيويّة المحدّدة وإرساء قاعدة للاندفاع في العمل خلال العشرين سنةً المقبلة من الخطّة الإلهيّة لحضرة عبد البهاء.  فما بدأناه بعناية وحرص قبل أربع سنوات من اكتساب المعرفة والخصال والمهارات اللّازمة للخدمة بأسلوب منهجيّ منظّم يجب أن يزداد.  فأينما وجدت المعاهد المركزيّة والإقليميّة عليها أن تفعّل إلى أقصى حدّ تلك البرامج والأنظمة الّتي وضعتها.  ويجب تأسيس معاهد جديدة حيثما دعت الحاجة.  ويجب اتّخاذ خطوات أكبر نحو عمل تبليغيّ منهجيّ قائم بمبادرات فرديّة وبرعاية المؤسّسات الأمريّة.  ومن أجل تحقيق هذا الغرض إلى حدّ ما، أسّس المشاورون والمحافل الرّوحانيّة المركزيّة في عدّة مناطق من كلّ قارّة "برامج نموّ المناطق".  وستوفّر نتائج هذه التّجارب مجموعةً من الخبرات ستعود بالنّفع على المشاريع والخطط المستقبليّة.  فالفرد والمؤسّسة والجامعة المحلّيّة مدعوّون لتركيز انتباههم وإيلاء عنايتهم بتلك المهامّ الأساسيّة حتّى يكونوا على أهبة الاستعداد لخطّة السّنوات الخمس الّتي ستبدأ في رضوان عام 2001 – وهي الخطّة الّتي ستنقل العالم البهائيّ إلى المرحلة المقبلة من تطوّر عمليّة الدّخول في دين الله أفواجًا.

إلّا أنّ هناك تحدّيًا ملحًّا يتجاوز الاهتمام بهذه المهامّ يتحتّم علينا مواجهته:  فأطفالنا تلزمهم التّربية الرّوحانيّة والانخراط في الحياة البهائيّة.  وعلينا ألّا نتركهم هائمين على وجوههم صرعى تيّارات عالم موبوء بالأخطار الأخلاقيّة.  ففي مجتمع اليوم يواجه الأطفال مصيرًا قاسيًا حرجًا.  فالملايين والملايين في القطر تلو الآخر يعانون من التّفكّك الاجتماعيّ، ويجد الأطفال أنفسهم غرباء بين والدين وأفراد بالغين آخرين سواء عاشوا في بحبوحة الغنى أو مرارة الفقر.  ولهذه الغربة جذور في مستنقع الأنانيّة الّتي تفرزها المادّيّة البحتة وتشكّل جوهر اللّادينيّة المستولية على قلوب البشر في كلّ مكان.  إنّ التّفكّك الاجتماعيّ للأطفال في وقتنا الرّاهن مؤشّر أكيد على مجتمع منحلّ متفسّخ.  ومع ذلك، فهذا الأمر ليس حكرًا على عرق أو طبقة أو أمّة أو وضع اقتصاديّ معيّن، فالجميع مبتلىً به.  وما يعتصر قلوبنا ألمًا مشاهدة عدد كبير من الأطفال في مختلف أرجاء العالم يجنّدون في الجيش ويستخدمون عمّالًا ويباعون رقيقًا ويكرهون على ممارسة البغاء ويجعلون مادّةً للمنتجات والتّصاوير الإباحيّة، ويهجرهم آباؤهم المنشغلين بأهوائهم الشّخصيّة، ويقعون فريسة أشكال أخرى لا حصر لها من الخداع والاستغلال.  وكثير من هذه الفظائع يمارسها الآباء أنفسهم مع أطفالهم.  وعليه لا يمكن تقدير الأضرار الرّوحانيّة والنّفسيّة النّاجمة عن ذلك.  ولا يمكن لجامعتنا البهائيّة أن تعيش في معزل عن إفرازات تلك الظّروف.  إنّ وعينا بهذه الحقيقة يجب أن يدفعنا جميعًا نحو العمل الحثيث والجهد الموصول لصالح الأطفال وسلامة المستقبل.

ورغم أنّ نشاطات الأطفال كانت جزءًا من المشاريع البهائيّة السّابقة، إلّا أنّها لم تف بالحاجة.  فالتّربية الرّوحانيّة للأطفال والشّباب النّاشئ ضروريّة للغاية لإحراز مزيد من التّقدّم للجامعة.  وعليه، فمن الواجب الملحّ معالجة هذا القصور.  وعلى المعاهد أن تضع حتمًا في برامجها دورات لتدريب معلّمي أطفال بمقدورهم تقديم خدماتهم للجامعات المحلّيّة.  ومع أنّ توفير التّعليم الأكاديميّ والتّربية الرّوحانيّة أمر ضروريّ للأطفال، إلّا أنّه لا يمثّل سوى جزء ممّا يجب تقديمه في سبيل تحسين أخلاقهم وتشكيل شخصيّاتهم.  فالحاجة تكمن أيضًا في اتّخاذ موقف ملائم تجاه أطفالنا من قبل الأفراد والمؤسّسات بكافّة مستوياتها، أي الجامعة بأسرها، ليجد الأطفال عندهم الاهتمام الشّامل بمصالحهم.  وموقف كهذا يجب أن يبقى بعيدًا كلّ البعد عن النّظام الاجتماعيّ السّائد الّذي يتهاوى بسرعة.

إنّ الأطفال هم أنفس كنز يمكن للجامعة أن تمتلكه، لأنّ فيهم نرى أمل المستقبل وضمانه.  وهم الّذين يحملون بذور الشّخصيّة الّتي سيكون عليها المجتمع في المستقبل والّتي يشكّلها إلى حدّ كبير ما يفعله البالغون في الجامعة أو بما يخفقون في أدائه تجاه الأطفال.  إنّهم أمانة لا يمكن لجامعة فرّطت بها أن تفلت من العقاب.  فتطويق الأطفال بالمحبّة من الجميع، وأسلوب معاملتهم، ونوع الاهتمام المبذول نحوهم، وروح السّلوك الّتي يتعامل بها الكبار معهم، كل ذلك يمثّل جزءًا من الجوانب الحيويّة للسّلوك والموقف المطلوب.  فالمحبّة تستدعي النّظام والانضباط، والمحبّة تستلزم الشّجاعة على تعويد الأطفال وتدريبهم على الشّدائد، لا أن نترك العنان لنزواتهم أو نتركهم بالكلّيّة ليحقّقوا أهواءهم.  ويجب توفير جوّ يشعر الأطفال فيه بانتمائهم للجامعة فيشاركونها أهدافها وطموحاتها.  يجب توجيههم بمحبّة لا تخلو من الحزم للعيش وفق معايير الحياة البهائيّة، وأن يقوموا بدراسة الأمر المبارك وتبليغه بأساليب تتّفق وظروفهم.

هناك في الجامعة فئة تعرف باسم "الشّباب النّاشئ" ولنقل أنّ أعمارهم تتراوح بين 12-15 سنةً.  هؤلاء يمثّلون مجموعةً خاصّة ولها احتياجاتها الخاصّة لأنّهم يقعون بين مرحلتيْ الطّفولة والشّباب، وفي مرحلة تطرأ فيها تحوّلات كثيرة بداخلهم.  لذا، يجب إيلاء عناية واهتمام خلّاق لابتكار وسائل لدمجهم في برامج ونشاطات تجتذب اهتماماتهم وتصهر قدراتهم في ميدان التّبليغ والخدمة، وتدمجهم في تفاعل اجتماعيّ مع شباب أكبر منهم سنًّا.  كما يمكن للفنون إذا استخدمت بأشكال متعدّدة أن تؤدّي دورًا قيّمًا عظيمًا في تلك النّشاطات.

والآن نودّ أن نوجّه بعض الكلمات للوالدين اللّذين يتحمّلان المسؤوليّة الأساسيّة في تربية أطفالهم وتنشئتهم.  إننا نناشدهم بذل الاهتمام المستمرّ لتربية أطفالهم تربيةً روحانيّةً.  ويبدو أن بعضهم يعتقد بأنّ هذا النّوع من التّربية يقع ضمن مسؤوليّة الجامعة وحدها، وآخرون يعتقدون بضرورة ترك الأطفال دون تدريسهم الأمر المبارك حفاظًا على استقلالهم في التّحرّي عن الحقيقة.  وهناك من يشعرون بأنّهم ليسوا أهلًا للقيام بهذه المهمّة.  كلّ هذا خطأ.  لقد تفضّل حضرة عبد البهاء "فرض على الوالدين فرضًا بأن يربّيا أبناءهما وبناتهما ويعلّماهم بمنتهى الهمّة"، وأضاف أنّه "في حال قصورهما بهذا الصّدد فهما مؤاخذان ومدحوران ومذمومان لدى الله الغيّور".  وبغضّ النّظر عن مستوى التّحصيل العلميّ للوالدين تبقى مهمّتهما هامّةً وحسّاسةً في صياغة التّطوّر الرّوحانيّ لأطفالهم.  عليهما ألّا يستخفّا بقدرتهما في تشكيل شخصيّة أطفالهما الأخلاقيّة.  لأنّهما صاحبا التّأثير الأساسيّ عليهم بتأمين البيئة المناسبة في المنزل الّتي يخلقانها بحبّهم لله، والجهاد من أجل تنفيذ أحكامه، واتّصافهما بروح الخدمة لأمره، وتنزيههما عن شوائب التّعصّب، وتحرّرهما من شرور الغيبة المدمّرة.  فكلّ والد مؤمن بالجمال المبارك يحمل في عنقه مسؤوليّة السّلوك الكفيل بإظهار الطّاعة التّلقائيّة للوالدين، وهي الطّاعة الّتي توليها التّعاليم المباركة قيمةً كبيرة.  ومن الطّبيعيّ أنّ الوالدين، إلى جانب أعبائهما المنزليّة، عليهما واجب دعم صفوف تعليم الأطفال الّتي تنظّمها الجامعة.  ويجب أن نضع نصب أعيننا أيضًا أنّ الأطفال يعيشون في عالم يخبرهم بحقائق جافة قاسية من خلال تجارب مباشرة مجبولة بالأهوال الّتي مرّ ذكرها، أو بما تنشره وسائل الإعلام من معلومات لا يمكن تفاديها، وكثير منهم يساقون نحو البلوغ قبل أوانه، وبينهم أطفال يبحثون عن قيم ومعايير تهدي خطاهم في حياتهم.  وأمام هذه الخلفيّة القاتمة المشؤومة لمجتمع متفسّخ متدهور، على الأطفال البهائيّين أن يسطعوا نجومًا متلألئة رمزًا لمستقبل أفضل.

تنتعش آمالنا ونحن نتطلّع باشتياق إلى اجتماع المشاورين القارّيّين في الأرض الأقدس في كانون الثّاني/يناير عام 2001 بمناسبة الاحتفال بانتقال دار التّبليغ العالميّة إلى مقرّها الدّائم على جبل الرّبّ، الّذي يشاركهم فيه أعضاء هيئة المعاونين من مختلف أقطار العالم.  وسيكون هذا الاجتماع بلا شكّ، أحد الأحداث التّاريخيّة من عصر التّكوين هذا.  فاجتماع كوكبة من العاملين البهائيّين كهذه، وبحكم طابعها الخاصّ، سيجلب بكلّ تأكيد منافع لا حصر لها لجامعة تودّع خطّة لتبدأ بأخرى.  وبينما نتأمّل ما نحن عليه، تتّجه قلوبنا بالشّكر والتّقدير لأيادي أمر الله جناب علي أكبر فروتن وجناب علي محمد ورقا اللّذين، بإقامتهما في الأرض الأقدس، يرفعان عاليًا مشعل الخدمة الّذي أشعله في قلبيهما وليّ أمرنا المحبوب.

وببدء خطّة الاثنيّ عشر شهرًا هذا نعبر جسرًا لا عودة فيه.  إننا نطلق هذا الخطّة في غياب أمة البهاء روحيّة خانم عن هذا العالم جسديًّا.  فقد بقيت معنا، حتّى نهاية القرن العشرين تقريبًا، ظلّت شعاعًا من النّور الّذي أضاء تلك الفترة الفريدة من تاريخ الجنس البشريّ.  وفي ألواح الخطّة الإلهيّة تألّم حضرة عبد البهاء لعدم تمكّنه من السّفر إلى أطراف العالم لرفع النّداء الإلهيّ، وفي غمرة حزنه سطّر رجاءه التّالي:  "عسى أن تتمكّنوا أنتم من تحقيقه إن شاء الله!" لقد لبّت أمة البهاء هذا النّداء بطاقة لا تكلّ وجابت أطراف الأرض النّائية في 185 قطرًا نال شرف عطائها العميم.  لقد خلّفت مثالًا متلألئًا أبدًا، سوف ينير قلوب الآلاف والآلاف من سكّان هذه المعمورة.  وأمام عجزنا عن إيفائها حقّها، فهل لنا ألّا نكرّس جهودنا المتواضعة خلال هذه الخطّة في ذكرى من جعلت التّبليغ مرادها الأوّل ومصدر سعادتها الحقيقيّة في الحياة؟

[التّوقيع:   بيت العدل الأعظم]