[ترجمة]

من يخطّ طريق المستقبل؟

أضواء على القرن العشرين

 

شباط/فبراير 1999

عقد مجلس النوّاب البرازيليّ في الثّامن والعشرين من أيّار/مايو من عام 1992 جلسة تذكاريّة خاصّة بمناسبة مرور مائة عام على صعود حضرة بهاء الله إلى الملكوت الأعلى.  ولقد تزايد الأثر الّذي تركه حضرة بهاء الله ورسالته العالميّة ليصبح هذا الأثر ظاهرة مألوفة في الأوساط الفكريّة العالميّة ويتجلّى في نسيج المجتمع العالميّ الرّاهن.  فمن الواضح أنّ رسالة الوحدة والاتّفاق الّتي نادى بها حضرة بهاء الله مسّت شغاف قلوب المشرّعين البرازيلييّن.  فقد أشاد المشرّعون الّذين تحدّثوا في الجلسة التّذكاريّة هذه نيابة عن كلّ الأحزاب الممثّلة في مجلس النوّاب بمجموعة الآثار المقدّسة الّتي جاء بها حضرة بهاء الله، فوصفها أحد النّوّاب بأنّها "أضخم إنجاز كتابيّ مقدّس صدر عن قلم واحد بمفرده."  وأشادوا أيضًا بالمفهوم البهائيّ الخاصّ بمستقبل كوكبنا الأرضيّ، فعلّق على ذلك متحدّث آخر قائلًا:  "إنّه مفهوم يتخطّى الحدود المادّيّة ليحتوي البشريّة كلّها بعيدًا عن الخلافات التّافهة حول القوميّة أو العرق أو المعتقد أو حواجز التّفرقة والانقسام."[1]

ولعلّ المدهش حقًا والمثير للاهتمام، في ضوء هذا المديح والإطراء، أنّ رسالة حضرة بهاء الله ما زالت تتعرّض للإدانة المريرة والتّحريم من قبل رجال الدّين المسلمين الّذين يحكمون إيران اليوم، والّذين كان أسلافهم كذلك مسؤولين عن نفي حضرة بهاء الله وسجنه في أواسط القرن التّاسع عشر، وعن ذبح الآلاف من أتباعه الّذين اعتنقوا مبادئه الهادفة إلى تغيير خيّر لحياة البشر والمجتمع.  وحتّى في الوقت الّذي كانت فيه تلك الجلسة التّاريخيّة منعقدة، كان ثلاثمائة ألف بهائيّ من الّذين يعيشون في إيران يرفضون التّخليّ عن معتقداتهم الّتي لاقت الإشادة والإطراء في معظم أنحاء العالم، ويأبون نكرانها.  فجلب ذلك عليهم الاضطّهاد والحرمان، وفي معظم الأحوال السّجن والقتل. 

ولقد شهد القرن الماضي أمثلة أخرى من المعارضة والاضطّهاد طبعت مسلك العديد من الأنظمة الاستبداديّة وتصرفاتها؛ الأمر الّذي يثير التّساؤل حول طبيعة مضمون التّفكير الّذي أثار ردود الفعل الشّديدة التّباين هذه ما بين الإدانة والرّفض من جهة، والإطراء والمديح من جهة أخرى. 

 

1

إنّ الباعث الرّئيسيّ لرسالة حضرة بهاء الله هو شرحٌ لحقيقة الوجود على أنّها في الأساس روحانيّة في طبيعتها، وشرح القوانين الّتي تحكم فعل الحقيقة ونفوذها.  فرسالة حضرة بهاء الله لا تعتبر الفرد مجرّد كائن روحيّ و"نفس ناطقة" فحسب، بل تؤكّد على أنّ ذلك التّفاعل، الّذي نسميه حضارة، يمثّل في حدّ ذاته مسارًا روحيًّا يتكاتف فيه العقل والضّمير الإنسانيّ على مرّ الزمان لخلق الوسيلة الأكثر كفاءة وتعقيدًا للتّعبير عما يجيش في القلب ويساور العقل من القدرات الرّوحية والفكريّة الدّفينة في الإنسان. 

ويؤكد حضرة بهاء الله حين يرفض المبادئ المادّيّة السّائدة بأنّه جاء بتفسير يخالف المفهوم الدّارج لمسار التّاريخ.  فالإنسانيّة، وهي رائدة تطوّر الوعي البشريّ، تمرّ بمراحل الطّفولة ثمّ الحداثة فالبلوغ في حياة أفرادها، ولقد وصلنا الآن في رحلتنا عبر هذه المراحل إلى عتبة مرحلة النّضج الّتي طال انتظارها لتصبح جنسًا بشريًّا موحّدًا.  فالحروب ومظاهر الاستغلال والتّعصّبات الّتي سادت مراحل عدم النّضوج في المسيرة الحضاريّة ينبغي ألّا تكون مدعاة لليأس، وإنّما يجب أن تكون حافزًا للاضطّلاع بالمسؤوليّات الّتي يفرضها علينا نضجنا الجماعيّ. 

أعلن حضرة بهاء الله في رسائله إلى معاصريه من القادة السياسيّين والدّينييّن أن قُدرات لا حصر لقواها قد بدأت تنبعث لدى شعوب الأرض؛ وهي القدرات الّتي لا يمكن لأهل عصره تخيُّلها والّتي سوف تحوّل الحياة المادّيّة على هذا الكوكب وتغيّرها.  ولذا كان من الضّروري، حسب بيانات حضرة بهاء الله، استخدام هذا التّقدّم المادّيّ والمرتقب لإحداث تطوّر خُلقيّ واجتماعيّ.  ولكنّه إذا ما حالت الصّراعات الإقليميّة والطّائفيّة دون ذلك فإنّ التّقدّم المادّيّ لن يقتصر على تحقيق المنافع فقط، بل سوف يؤدّي إلى عواقب وخيمة وشرور عظيمة لا يمكن التّكهّن بها.  فبعض ما حذّر منه حضرة بهاء الله وأنذر به تتردّد أصداؤه المروّعة في عصرنا هذا إذ يقول:  "إنّ في الأرض أسبابًا عجيبة غريبة، ولكنّها مستورة عن الأفئدة والعقول.  وتلك الأسباب قادرة على تبديل هواء الأرض كلّها وسُمِّيَّتها سبب للهلاك."[2]

2

يصرّح حضرة بهاء الله بأن القضيّة الرّوحيّة الرّئيسيّة الّتي تواجه كلّ النّاس، بغضّ النّظر عن انتماءاتهم الوطنيّة أو الدّينيّة أو العرقيّة، هي وضع أسس مجتمع عالميّ تتمثّل فيه وحدة الطّبيعة الإنسانيّة.  إذ أنّ وحدة سكّان المعمورة واتّفاقهم ليس رؤية إصلاحيّة مثاليّة مبعثها الخيال، ولا هي في محصّلتها النّهائيّة خاضعة للخيار، بل تجسيد للمرحلة الحتميّة القادمة في سياق التّطوّر الاجتماعيّ، ستدفعنا إليها مكرهين تجارب الماضي وخبرة الحاضر بأسرها.  وما لم يتمّ الاعتراف بهذه القضيّة كحقيقة واقعة والعمل على معالجتها، فلن تتوفّر الحلول النّاجعة لإزالة الشّرور والعلل الّتي ابتُلي بها كوكبنا، لأنّ تحدّيات عصرنا الّذي ولجناه كلّها في الأساس عالميّة النّطاق تتّسم بالشّمول لا الخصوصيّة، ولا تتعلّق بإقليم دون الآخر. 

تزخر آثار حضرة بهاء الله الكتابيّة، الّتي يتناول فيها موضوع بلوغ البشريّة مرحلة النّضوج، بكلمة "النّور" كلفظ مجازيّ للتعبير بدقّة عن الوحدة والاتّحاد كقوّة تُحدث التّحوّل والتّغيير.  وتؤكّد لنا هذه الآثار أنّ "نور الاتّفاق ينير الآفاق".[3] يسلّط هذا التّأكيد الضّوء على التّاريخ المعاصر من منظور مختلف جدًا عن ذلك الّذي ساد أواخر القرن العشرين؛ إذ يحضّنا على أن نتلمس في معاناة زماننا وانحلاله فعاليّة القوى الّتي تحرّر الوعي الإنسانيّ، انطلاقًا نحو مرحلة جديدة من التّطّوّر، ممّا يدعونا إلى إعادة النّظر في ما كان يحدث خلال السّنوات المائة الماضية، وما كان لتلك التّطوّرات والأحداث من تأثير على جموع مختلفة من الشّعوب والأعراق والأمم والمجتمعات الّتي مرّت بهذه التّجارب وخَبِرَتها. 

وإذا كان الأمر كما يؤكّده حضرة بهاء الله من أنّه "لا يمكن تحقيق إصلاح العالم واستتباب أمنه واطمئنانه إلّا بعد ترسيخ دعائم الاتّحاد والاتّفاق"،[4] يمكن تبعًا لذلك تفهّم نظرة البهائييّن إلى القرن العشرين، بكل علله وكوارثه، على أنّه "قرن الأنوار".[5] ذلك أنّ سنوات هذا القرن المائة شهدت تحولًا كبيرًا، سواء في الأسلوب الّذي بدأ يخطط به سكّان الأرض لمستقبلهم الجماعيّ أو في نظرة كلّ منهم للآخرين وتعامله معهم.  وفي كلا المنحيين كانت السّمة المشتركة نهجًا وحدويًّا.  فقد أجبرت الانتفاضات، الّتي لم تستطع المؤسّسات القائمة السّيطرة عليها، أجبرت قادة العالم على وضع أجهزة جديدة لمنظمة عالميّة ما كان لأحد في مطلع القرن أن يتصوّر قيامها.  وبينما كانت هذه التّطورات تتفاعل، كان التّآكل السّريع يلتهم العادات والمسالك الّتي فرّقت الأمم والشّعوب خلال قرون طويلة من الصّراع، وكأنّها وُجدت لتبقى لأجيال عديدة قادمة. 

ومن هذين التّطوريّن انبلج في منتصف القرن فجر جديد لن يقدّره حقّ قدره أو يدرك أهميته التّاريخيّة إلّا أجيال المستقبل.  وفي غمرة فترة الذّهول والدّهشة الّتي سادت في أعقاب الحرب العالميّة الثّانية، تبيّن لبعيدي النّظر من قادة العالم أنّ في الإمكان تعزيز أسس النّظام العالميّ وترسيخ أركانه من خلال هيئة الأمم المتّحدة.  فالحلم الّذي طالما راود المفكّرين من أهل التّقدّم والرّقيّ قد تحقّق أخيرًا بقيام نظام جديد تمثّل في مجلس دوليّ له هيئاته الخاصّة به ومعاهداته وشرائعه الدّوليّة، ويتمتّع بسلطات وصلاحيات حاسمة حُرم منها، ويا للأسف، نظام سلفة عصبة الأمم الّتي لم تعمّر طويلًا.  وفيما واصل القرن الماضي مسيرته التّقدميّة، مارس النّظام الجديد صلاحيّاته وتمرّست سواعده الطّرية في الحفاظ على السّلام وبرهن باطّراد مقنع عمّا يمكن تحقيقه من إنجازات.  وصاحب نهوض هذا النّظام الجديد ونفوذ آثاره توسّعٌ مستمر في قيام مؤسّسات الحكم الدّيمقراطيّ في أنحاء مختلفة من العالم.  فإذا كانت النّتائج العمليّة ما زالت مخيّبة للآمال، فإنّ ذلك لا ينتقص بأيّ حال من الأحوال من أهميّة التّحوّل التّاريخيّ في المسار البشريّ الّذي لا رجعة عنه في الاتّجاه الّذي أخذ دوره نحو تنظيم الشّؤون الإنسانيّة تنظيمًا جديدًا. 

وكما الأمر في موضوع النّظام العالميّ كذلك هو في حقوق أهل العالم وشعوبه؛ إذ أن اكتشاف المعاناة المروّعة الّتي أصابت ضحايا الإنحراف الإنسانيّ إبان فترة الحرب العالميّة الثّانية قد صدمت المشاعر على المستوى العالميّ، وبعثت في النفوس شعورًا لا يمكن وصفه إلا بالقول بأنه إحساس عميق بالخزي والعار.  ومن أتون هذه الصدمة المروّعة ولد نوع جديد من الالتزام المعنويّ تجسّد رسميًا في وظائف اللّجنة الدّوليّة لحقوق الإنسان والوكالات التّابعة لها.  وهو تطوّر ما كان ليدركه أو يقبل به حكّام القرن التّاسع عشر الّذين خاطبهم حضرة بهاء الله في الموضوع ذاته.  ومكّنت الصّلاحيات الجديدة هذه مجموعة متنامية من المنظّمات غير الحكوميّة من العمل من أجل ضمان احترام الإعلان الدوليّ لحقوق الإنسان واعتباره أساسًا للمعايير والضوابط الدّوليّة وتطبيقه على هذا الأساس.

أمّا على صعيد الحياة الاقتصاديّة، فثمّة تدابير تمّ اتّخاذها موازية لما حدث على المستوى السّياسيّ.  فنتيجة الفوضى والاضطّراب اللّذين أصابا العالم من فترة الكساد الكبير خلال النّصف الأول من القرن العشرين، استنّت كثير من الحكومات تشريعات وُضعت بموجبها برامج الرعاية الاجتماعيّة ونُظم الرقابة الماليّة وصناديق الاحتياط وقوانين التّجارة الّتي استهدفت حماية مجتمعاتها من تكرار مثل ذلك الكساد الجالب للدّمار والخراب.  وشهدت الفترة الّتي أعقبت الحرب العالميّة الثّانية قيام مؤسّسات ذات صبغة عالميّة، مثل صندوق النّقد الدّوليّ والبنك الدّوليّ والاتّفاقيّة العامّة للتعرفة والتّجارة، بالإضافة إلى خلق شبكة من وكالات التّنمية المضطّلعة بمهمّة تحقيق الرّخاء المادّيّ لكوكبنا، والعاملة على نمو ذلك الرّخاء وازدهاره.  وفي نهاية القرن، وبغض النّظر عن النّوايا السّائدة حينئذ، ورغم انعدام وجود الوسائل والمعدّات المتطوّرة، اقتنعت جماهير البشر بأنّ ثروات العالم يمكن إعادة توزيعها من الأساس، بشكل يتّفق والمفاهيم الجديدة كليًّا، لسدّ احتياجات الأسرة الإنسانيّة ومتطلّباتها.

لقد تجسّد عِظم تأثير هذه التّطوّرات في تسارع انتشار التّعليم بين الجماهير.  وبغضّ النّظر عن استعداد الحكومات المركزيّة والمحلّيّة لتخصيص موارد متزايدة لميدان التّعليم، وبمنأى عن قدرة المجتمع على حشد وتدريب جحافل من المعلّمين الدّائمين ذوي الكفاءة، فقد شهد القرن العشرون تقدّمًا بارزًا على صعيدين كان لهما أثر خاص على المستوى الدّوليّ.  الأوّل، يتمثل في مجموعة من برامج التّنمية الّتي ركّزت على احتياجات التّعليم بدعم ماليّ كبير من مؤسّسات كالبنك الدّوليّ والوكالات الحكوميّة وكُبرى المؤسّسات الخاصّة وعدد من فروع الأجهزة التّابعة لهيئة الأمم المتّحدة.  أمّا الثّاني، فقد تمثّل في الانفجار التّكنولوجيّ الإعلاميّ الّذي أتاح لكلّ سكّان الأرض إمكانيّة الإفادة من محصول ما جناه البشر من العلوم والمعارف.

نشطت عمليّة إعادة التنظيم البنيويّ هذه على المستوى العالميّ، وعمّ تعزيزها نتيجة ما طرأ على الوعيّ الإنسانيّ من تحوّل جوهريّ؛ إذ وَجدت شعوب بكاملها نفسها مضطرة فجأة إلى دفع ثمن غالٍ لأنماط من التّفكير متأصّلة فيها مثيرةً للنّزاع والصّراع.  وفعلت ذلك على مرأى ومسمع عالم بات يشجب هذه الأنماط من التّفكير الّتي كانت تعتبر في الماضي عُرفًا اعتاد عليه النّاس، وسلوكًا مقبولًا.  وكان نتيجة ذلك أن طرأ تحوّل جذريّ في الكيفيّة الّتي بدأ النّاس فيها ينظر بعضهم بعضًا. 

فعلى سبيل المثال، اعتقد النّاس عبر التّاريخ، وأيّدتهم في ذلك التّعاليم الدّينيّة، بأنّ المرأة أساسًا في طبيعتها أدنى مرتبة من الرّجل.  إلّاأنّه بين عشيّة وضحاها انقلب فجأة هذا المفهوم السّائد تاريخيًا وأخذ في التّراجع في كلّ مكان.  ومهما كان الطّريق طويلًا وشاقًا أمام التّطبيق الكامل لما أكّده لنا حضرة بهاء الله من أنّ المرأة والرّجل متساويان بكلّ معنى الكلمة، فأيّ موقف فكريّ أو معنويّ يدعم معارضة هذا الرّأي آخذ في التّلاشي والانهيار. 

ثمة ثابت آخر كان في نظرة الإنسان إلى نفسه عبر الألفيّة الماضية ألا وهو اعتزازه بتميّزه العرقيّ، ممّا أدّى في القرون الأخيرة الماضية إلى تحجّر تلك النّظرة وتحوّلها إلى أوهام عنصريّة مختلفة.  إلّا أنّ القرن العشرين شهد ما يمكن اعتباره، من وجهة نظر تاريخيّة، سرعةً مذهلة في استتباب مبدأ وحدة الجنس البشريّ كقاعدة يهتدي بها النّظام العالميّ.  واليوم لم يعُد يُنظر إلى الصّراعات العرقيّة، الّتي ما زالت تجلب الفوضى والدّمار في كثير من أنحاء العالم، على أنّها مجرد ظواهر عاديّة للعلاقات بين أجناس البشر المختلفة، وإنما يُنظر إليها على أنّها انحرافات التّطرّف العنيد الّتي يجب وقفها وإخضاعها لسيطرة دوليّة فاعلة.

علاوة على ذلك، ساد البشريّة في عهد طفولتها الطّويل، وبمباركة تامّة من قبل النُّظُم الدّينيّة القائمة آنذاك، افتراض بأن الفقر ظاهرة اجتماعيّة دائمة البقاء لا مفرّ منها؛ وهو افتراض تحكّم في سلّم أولويّات كلّ نظام اقتصاديّ عرفه العالم.  أمّا اليوم، فإنّ القاعدة الّتي بني عليها ذلك الافتراض غدت مرفوضة، وأصبحت الحكومة، ولو نظريًا على الأقلّ، ذلك الوصيّ المسؤول أساسًا عن خير كافة أفراد المجتمع وصلاحهم. 

ولعل ما يتميّز بأهميّة خاصّة، نظرًا لما له من علاقة وثيقة بجذور الدّوافع الإنسانيّة، هو تراخي القيود الّتي يفرضها التّعصب الدّينيّ والمذهبيّ.  فقد بشّر قيام "برلمان الأديان" الّذي استقطب الاهتمام الكبير حينما كان القرن التّاسع عشر يقترب من نهايته، بشّر بإقامة الحوار والتّعاون بين المذاهب والأديان، ممّا ساعد على دعم النّشاطات العلمانيّة السّاعية إلى تقويض الأسوار المنيعة لسلطة رجال الدّين الّتي عزّ اختراقها من قبل.  فإزاء ما شهدته السّنوات المائة الماضية من تحوّل في المفاهيم الدّينيّة، والطّفرات الحاليّة من ردود الفعل الأصوليّة والتّطرفيّة، لا تتعدّى كونها معارك الفلول الأخيرة اليائسة لمنع الانهيار المحتوم للهيمنة الطائفيّة والمذهبيّة.  فقد صرّح حضرة بهاء الله في هذا الصّدد قائلًا:  "لا شكّ في أنّ الأديان جميعها متوجّهة إلى الأُفق الأعلى وأنّها كلّها عاملة بما يأمر به الحقّ جلّ جلاله."[6]

كان العقل الإنسانيّ في هذه العقود الزمنيّة الحاسمة يواجه أيضًا تغيّرات جوهريّة في الطّريقة الّتي كان يستوعب بها الكون من حيث كتلته المادّيّة.  فقد تعرّف العالم في النّصف الأوّل من القرن العشرين على نظريّتين علميّتين جديدتين هما:  نظرية النّسبيّة ونظرية ميكانيكا الكم أو الميكانيكا التّقديريّة.  وكلا هاتين النّظريّتين على علاقة وثيقة بطبيعة الضّوء وكيفية انتشاره، مما أحدث ثورة في ميدان العلوم الطبيعيّة – الفيزياء – بالإضافة إلى حدوث تغيير شامل في مجالات التّطور العلميّ.  فأصبح واضحًا أنّ علم الفيزياء التّقليديّ قاصر عن شرح الظّواهر الطّبيعيّة وتفسيرها، إلّا ضمن مجال محدود.  وفجأة انفتح باب جديد على مصراعيه أمام البحث العلميّ في ميدان دراسة الكون بمكوّناته الدّقيقة ونواميسه الهائلة.  وكان لهذه التّطوّرات أثر تخطّى أبعاد علم الفيزياء، فزعزع أركان الآراء الّتي اعتمدها العالم في نظرته إلى الكون؛ وهي النّظرة الّتي سيطرت على التّفكير العلميّ لقرون طويلة من الزّمان.  وذهبت إلى غير رجعة صورة ذلك الكون الآليّ الّذي يدار كالسّاعة، كما ذهبت تلك الفرضيّة الّتي فصلت بين المُراقِبْ والمُراقَبْ؛ أي بين العقل والمادّة.  وأمام هذه الخلفيّة من الدّراسات والأبحاث العلميّة بعيدة الأثر، والّتي تمّ إجراؤها حتّى الآن، أصبح بإمكان العلوم النّظريّة أن تبدأ في دراسة إمكانيّة قيام ارتباط جوهريّ بين كلٍّ من علّة الوجود والعقل المدبّر وبين طبيعة الكون ودورانه. 

وفي أعقاب هذه التّحوّلات في المفاهيم، دخلت البشريّة عصرًا شهد مرحلة من التّفاعل بين العلوم الطّبيعيّة، مثل الفيزياء والكيمياء وعلم الأحياء من جهة، وعلم البيئة الحديث من جهة أخرى، فنتج عن ذلك فتح المجال أمام إمكانيّات هائلة لتحسين نوعية الحياة.  وأصبح واضحًا وضوحًا مثيرًا ما يمكن تحقيقه من الفوائد والخيرات في مجالات هامة كالزّراعة والطّبّ بنفس القَدْر الّذي تبيّنت فيه المكاسب الّتي حقّقها النّجاح في استغلال مصادر جديدة للطّاقة.  وبدأ متزامنًا مع هذه الإنجازات ما وفّره "علم المواد الجديدة" من ثروات تمثّلت في استخدام موارد حديثة لم تكن معروفة في مطلع القرن كمادّة البلاستيك والألياف البصريّة – الضّوئيّة، بالإضافة إلى الألياف الكربونيّة. 

كان مثل هذا التّقدّم العلميّ والتّقنيّ تبادليًا من حيث الفوائد الّتي جناها كلّ من هذين المجالين.  فذرّات الرّمل، الّتي هي ظاهريًا أوضع المواد وأدناها قيمة، تحولت إلى شرائح سليكونيّة وزجاج بصريّ نقيّ، فوفّرت الإمكانيّات لخلق شبكات عالمية للاتّصالات.  هذا إلى جانب إطلاق مجموعة من أنظمة الأقمار الصّناعيّة المتطوّرة الّتي بدأت بفتح أبواب أمام النّاس جميعًا، أينما كانوا ودون أيّ تمييز، للاغتراف من محصول المعرفة الّتي جمعها الجنس البشريّ بكلّ فئاته عبر السّنين.  ويبدو واضحًا أنّ العقود الزّمنيّة القادمة ستشهد فورًا اندماج تكنولوجيا الهاتف والتّلفزيون والكمبيوتر لتتوحّد في نظام واحد للاتّصالات والمعلومات، بحيث تصبح أجهزته الجديدة زهيدة التّكلفة ومتوفّرة على نطاق جماهيريّ واسع.  ولعلّ من الصّعب المبالغة في الأثر النّفسيّ والاجتماعيّ الّذي سوف ينجم عن الاستبدال المرتقَب للخليط الحاليّ من الأنظمة الماليّة، ليحلّ محلّها نظام عالميّ نقديّ موحّد يتمّ التّعامل به بصورة رئيسيّة عن طريق النّبض الإلكترونيّ.  ومن الجدير ألّا ننسى أنّه بالنّسبة للكثيرين تمثّل النّظم الماليّة الرّاهنة الحصن النّهائيّ المنيع للكرامة الوطنيّة. 

في الواقع لا يتبدّى ما حقّقت ثورة القرن العشرين من مظاهر الوحدة والتّوحيد أكثر مما يتبدّى في النّتائج النّاجمة عن التّغييرات الّتي طرأت على الحياة العلميّة التّكنولوجيّة.  وعلى المستوى الأكثر جلاء نجد الجنس البشريّ اليوم يمتلك الوسائل الكفيلة بتحقيق أهداف تلك الرّؤيا الّتي أملاها عليه النّضج المستمر في الوعي والمدارك.  وإذا أنعمنا النّظر، نجد أن هذه المقدرة كامنة متوفّرة لكلّ سكان الأرض دون اعتبار للعِرق أو التّراث أو الوطن.  فقد كتب حضرة بهاء الله متنبّئًا:  "إنّ أهل العالم في هذا العصر تحرّكهم حياة جديدة، ولا يعرف أحد سببًا أو علّة لذلك."[7]  واليوم، وقد مضى على كتابة هذه الكلمات قرن ونيّف، فإنّ ما ترتب على ما قد حدث من آثار ونتائج، بدأ يتّضح لأصحاب العقول المفكّرة أينما كانوا. 

3

وفي تقديرنا لأهميّة التّحوّلات الّتي جاءت بها حقبة التّاريخ الموشكة على الانتهاء، لا يجمل بنا تجاهل الظّلمة الّتي صاحبتها، وأبرزت للعيان ما تحقّق من إنجازات.  وكان من مظاهر تلك الظّلمة إبادة متعمّدة لملايين من البشر الّذين لا حول لهم ولا قوّة، ثمّ اختراع أسلحة الدّمار الشّامل واستخدامها، أضف إلى ذلك رواج العقائد المذهبيّة الّتي قضت على الحياة الرّوحيّة والفكريّة لدى شعوب بأكملها، وأضرار لحقت بالبيئة الطّبيعيّة على هذا الكوكب بلغت من الجسامة ما قد تستغرق معالجة آثارها قرونًا عدّة.  وأخيرًا ما حاق بأجيال الطّفولة من أذى بليغ لا يمكن حصره أو تحديده، وقد نشأت وترعرعت على الاعتقاد بإنّ العنف والفحش والأنانيّة من مقوّمات الحريّة الشّخصيّة.  تلك هي مجرّد الآفات الأكثر وضوحًا في قائمة الشّرور الّتي لا مثيل لها في التّاريخ، والّتي سيورِث زماننا دروسها عبرةً للأجيال اللّاحقة وقد طهّرتها الآلام.

إنّ الظّلام، على أيّة حال، ليس ظاهرة تتمتّع بنوع ما من البقاء والوجود، أو إلى حدّ أقلّ بالاستقلاليّة.  والظّلام ليس قادرًا على إطفاء النّور أو حجبه، لكنّه يحدّد تلك البقاع المظلمة الّتي لم يصلها النّور أو الّتي لم تتعرّض للإضاءة الكافية.  وعليه، فإنّه بدون شكّ سيُقيّم حضارة القرن العشرين مؤرّخو عصر أكثر نضوجًا ونزاهة.  أمّا الوحشيّة الّتي اتّسمت بها الطّبيعة الحيوانيّة الّتي انفلت زمامها في تلك السّنوات العصيبة، وبدت وكأنها تهدّد بقاء المجتمع، لم تمنع في واقع الحال ذلك التّفتّح المستمر للطّاقات الخلّاقة الّتي يملكها الوعيّ الإنسانيّ.  بل إنّ ما حدث هو العكس؛ فمع تعاقب سنوات القرن أفاقت جموع متزايدة من النّاس لتكتشف كم كانت الولاءات الّتي اعتنقتها فارغة، وكم كانت المخاوف الّتي كبّلتهم حتى بضع سنين ماضية أوهامًا واهية. 

يصف حضرة بهاء الله نقطة التّحوّل هذه في مسيرة الحضارة الإنسانيّة قائلًا:  "إنّ اليوم لا مثيل له فهو بمثابة البصر للقرون والأعصار  وبمثابة النّور لظلمة الأيّام."[8]  فالقضية من هذا المنظور ليس موضوعها ظلامًا طمس التّقدّم الّذي تمّ إنجازه في السّنوات المائة غير الاعتياديّة الّتي بلغت نهايتها الآن، وإنّما القضية هي طرحٌ للسّؤال:  كم من المعاناة والدّمار ينبغي علينا – نحن البشر – أن نكابد قبل أن نتقبّل بصدق وأمانة تلك الطّبيعة الرّوحية الّتي تجعل منا أمّةً واحدة؟  ومتى نستجمع شجاعتنا ونخطط لمستقبلنا في ضوء ما وَعَيْنَاه وتعلّمناه من العبر والدّروس القاسية؟

4

إنّ النهج المستقبليّ للمفهوم الحضاريّ الّذي رسمه حضرة بهاء الله في آثاره الكتابيّة يتحدّى معظم ما يفرضه الزّمن الحاضر على عالمنا من الآراء الّتي تبدو وكأنّها دائمة الأثر لا تتغيّر.  ولكن الطّفرة الّتي حدثت خلال قرن الأنوار قد فتحت الباب أمام قيام عالم من نوع جديد.  وإذا كان التّطوّر الاجتماعيّ والارتقاء الفكريّ تحقّقا في الواقع بفعل عقل مدبّر يحدّد السّلوك والأخلاق ملازم للوجود وكامن فيه، ينهار عندئذ الجزء الأكبر من النّظرية الّتي تتحكّم في الأساليب المعاصرة لصنع القرار.  وإذا كان الوعي الإنسانيّ في طبيعته روحيّ الأساس، وهو الأمر الّذي أدركته دائمًا بالبداهة الأغلبية السّاحقة من البشر العادييّن، فإنّ مستلزمات نموّ هذا الوعيّ وتطوّره لا يمكن فهمها أو معالجتها عن طريق تفسير للحقيقة يخالف، بكل عناد وتصلّب، ذلك الرّأي القائل بأن حقيقة الوجود في الأساس روحانيّة في طبيعتها. 

إن مبدأ الفرديّة، أو تمجيد الذّات، الّذي انتشر في معظم أنحاء العالم هو أكثر جوانب الحضارة المعاصرة عُرضةً للتحدّي من قِبل ما جاء به حضرة بهاء الله من مفهوم حضاريّ للمستقبل.  فقد أدّى شعار "السّعي من أجل السّعادة" الّذي غذّته إلى حدّ كبير القوى الثّقافيّة – من أمثال الإيديولوجيّة السّياسيّة والنُّخبة الأكاديميّة والاقتصاد الاستهلاكيّ – أدّى إلى خلق شعور تنافسيّ عدوانيّ تجاه الآخرين، وبعث إحساسًا لا حدود له بسيادة الحقّ الشّخصيّ.  وكانت النّتيجة المعنويّة المترتّبة على ذلك ضارة بالنّسبة للفرد والمجتمع على حدّ سواء، ومدمّرة من حيث تفشّي الأمراض والإدمان على المخدّرات وغيرها من الآفات الّتي باتت مألوفة في نهاية القرن.  إنّ مهمّة تحرير الإنسانيّة من خطأ جوهريّ وشامل تدعونا إلى التّساؤل حول بعض فرضيّات القرن العشرين المتأصّلة بالنّسبة لما هو حقّ وما هو باطل. 

فما هي إذًا بعض هذه الفرضيّات الّتي تحتاج إلى الشّرح والتّحليل؟  لعلّ أبرزها الاقتناع القائل بأنّ الوحدة والاتّحاد غاية مثاليّة بعيدة المنال، وربّما مستحيلة، إلّا بعد حلّ عدد كبير من النّزاعات السّياسيّة، وبعد تلبية الاحتياجات المادّيّة وتصحيح الإجحافات والمظالم بشكل أو بآخر.  إلّا أنّ حضرة بهاء الله يؤكّد أنّ القضيّة نقيض ذلك؛ فهو يقول بأنّ الآفة الرّئيسيّة الّتي تصيب المجتمع وتخلق العلل الّتي تشلّه هي انقسام الجنس البشريّ وانعدام وحدته رغم تميّزه بالقدرة على التّكاتف والتّعاون.  فقد اعتمد تقدّم الجنس البشريّ حتّى اليوم على مدى ما تحقّق من وحدة العمل والتّعاون في أزمان مختلفة ومجتمعات متعدّدة.  إنّ التّشبّث بالاعتقاد القائل بأنّ الصّراع ظاهرة متأصّلة في الطّبيعة الإنسانيّة، وليس حصيلة مجموعة معقدة من السّلوك والعادات المكتسبة، من شأنه أن يفرض على القرن الجديد خطأ كان في الماضي أكثر العوامل المنفردة مسؤوليّة في إعاقة الجنس البشريّ إعاقة خطيرة.  ولقد نصح حضرة بهاء الله القادة المنتخبين بقوله:  "يا أصحاب المجلس في هناك وديارٍ أخرى!  تدبّروا وتكلّموا فيما يصلح به العالم وحاله لو أنتم من المتوسّمين.  فانظروا العالم كهيكل إنسان، إنه خُلق صحيحًا كاملًا فاعترته الأمراض بالأسباب المختلفة المتغايرة."[9]

هناك تحدّ معنويّ ثان يرتبط ارتباطًا وثيقًا بقضيّة الوحدة، طرحه القرن الماضي بإلحاح متزايد.  فيؤكد لنا حضرة بهاء الله بأنّ العدل والإنصاف "أحبّ الأشياء"[10] عند الله.  فالإنصاف يمكّن الفرد من رؤية الحقيقة بعينه هو لا بعيون الآخرين، ويضفي على عمليّة اتّخاذ القرارات الجماعيّة السّلطة الّتي وحدها تضمّن وحدة الفكر والعمل.  فمهما كان النّظام الدّوليّ الّذي تمخّضت عنه أحداث القرن العشرين وتجاربه المروّعة باعثًا على الرّضى، فإنّ ديمومة تأثيره ستعتمد على ما ينطوي عليه ضمنًا من المبادئ وقواعد الأخلاق.  وإذا كان العالم الإنسانيّ جسمًا واحدًا غير قابل للتّجزئة، فإنّ السّلطة الّتي تمارسها هيئاته الحاكمة تمثّل في الأساس سلطات الوصيّ المؤتمَن على ما أوكل به.  فكلّ مولود جديد بمثابة أمانة في عنق المجموع.  وهذه الخاصيّة للوجود الإنساني هي الّتي تشكّل الأساس الفعليّ للحقوق الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثّقافيّة الّتي ينصّ عليها ميثاق الأمم المتّحدة والمواثيق ذات العلاقة.  فالعدل والاتّحاد أمران متبادلان في فعليهما، وقد كتب حضرة بهاء الله في هذا الصّدد يقول:  "العدل سراج العباد فلا تُطفئُوهُ بأرياح الظُّلم والاعتساف المخالفة، والمقصود منه ظهور الاتّحاد بين العباد.  وفي هذه الكلمة العليا تموّج بحر الحكمة الإلهيّة، وإنّ دفاتر العالم لا تكفي تفسيرها."[11]

عندما يلتزم المجتمع الإنسانيّ بهذه القواعد وغيرها من المبادئ الخُلقية، رغم ما يبديه من التّردّد والمخاوف تجاه هذا الالتزام، فإن أفضل الأدوار الّتي يتيحها للفرد هو دور القيام بخدمة الآخرين.  ولعلّ من متناقضات الحياة أنّ الذّات الفرديّة تنمو وتتطوّر، في المرتبة الأولى، عن طريق الالتزام بالأهداف الأسمى الّتي تُنسي الفرد ذاته، حتّى ولو إلى حين.  وفي عصر يكون فيه المجال مفتوحًا أمام النّاس بكلّ فئاتهم، ومهما كانت أحوالهم، للإسهام الفعليّ في صياغة شكل النّظام الاجتماعيّ نفسه، يكتسب مبدأ خدمة الآخرين أهميّة جديدة.  إنّ تمجيد أهداف كحبّ تملّك الأشياء وإثبات وجود الذّات، كأنّهما غاية من غايات الحياة، يعد إذكاءً للجانب الحيوانيّ في الطّبيعة الإنسانيّة بشكل خاصّ.  فلم يعد بمقدور رسالات الخّلاص الذّاتيّة بمضمونها السّطحيّ أن تلبّي ما تصبو إليه الأجيال الّتي أدركت بعمق الإيمان أنّ أيّ تحقيق للخلاص مسألة تتعلّق بهذا العالم مثل تعلّقها بالعالم الآخر.  في هذا الصّدد ينصح حضرة بهاء الله قائلًا:  "أن اهتمّوا بما يحتاجه عصركم، وركّزوا مداولاتكم في متطلّباته ومقتضياته."[12]

وجهات النّظر هذه لها نتائج بعيدة الأثر بالنّسبة لإدارة شؤون البشر.  فمن الجليّ، على سبيل المثال، أنّ الدّولة ككيان سياسيّ، رغم ما حقّقته من إنجازات ماضية، إذا استمرت في سيطرتها في تحديد مستقبل العالم الإنسانيّ والتّأثير فيه، فإنّ تحقيق السّلام سوف يتعطّل وتتفاقم البلايا وتزداد المعاناة الّتي سوف تصيب شعوب الأرض.  أمّا بالنّسبة لحياة العالم الإنسانيّ الاقتصاديّة، فإنّه مهما عظُمت الخيرات الّتي تأتي بها العولمة، يبقى واضحًا أنّ مسيرة العولمة قد خلّفت أيضًا مراكز وتجمّعات لا مثيل لها لقوى الطّغيان والاستبداد يجب إخضاعها لسيطرة الدّيمقراطيّة الدّوليّة إذا أُريد لملايين لا تحصى من البشر تجنّب الفقر واليأس.  وبالمثل، فإن الطّفرة التّاريخيّة في تكنولوجيا الإعلام والاتّصالات، والّتي تشكّل وسيلة فعّالة في دعم النّمو الاجتماعيّ وتعميق حسّ الجماهير بإنسانيّتها المشتركة، قادرة أيضًا وبالقوّة نفسها على تحريف وتشويه الحوافز الخيّرة وتجريدها من سلامة نواياها، وهي الحوافز الضّروريّة لخدمة هذا المسار أيضًا. 

5

إنّ ما يتحدّث عنه حضرة بهاء الله هو علاقة جديدة بين الله والإنسان، وهي علاقة تنسجم مع إشراقة النّضوج الإنسانيّ.  فالله – الحقيقة المطلقة – الّذي خلق هذا الكون، ويتولّى تدبيره والمحافظة عليه، سيظلّ أبدًا مستورًا عن أذهان البشر منزّهًا عن الإدراك.  أما العلاقة الإنسانيّة الواعية لتلك الحقيقة المطلقة، إلى المدى الّذي يمكن القول فيه بأن هناك علاقة ما، كانت نتيجة تأثير مؤسّسي الأديان السّماويّة الكبرى مثل موسى وزرادشت وبوذا وعيسى ومحمد ومن سبقهم من الشّموس النّيّرة الّتي بقيت أسماؤها مدفونة في ذاكرة التّاريخ.  واستجابة لتلك الدّعوات الإلهيّة طوّر أهل الأرض على مَرّ الأزمان قدراتهم الرّوحيّة والثّقافيّة والخلقيّة، وتضافرت هذه القدرات على صقل شخصيّة الإنسان ونموّ حضارته.  واليوم قد بلغ هذا السّياق في مجموعة الإنجازات الّتي تحقّقت عبر آلاف السنين مرحلة تعكس لنا الخصائص الّتي تميّز كلّ نقطة تحوّل حاسمة في مسيرة النّشوء والارتقاء، وهي النّقطة الّتي تتكشّف عندها فجأة إمكانيّات وطاقات دفينة لم تدرك من قبل.  وفي هذا السّياق يؤكّد حضرة بهاء الله أنّ:  "اليوم يوم الفضل الأعظم والفيض الأكبر، وعلى الجميع أن يجدوا الرّاحة والاطمئنان بتمام الاتّحاد والاتّفاق في ظلّ سدرة العناية الإلهيّة."[13]

مسترشدين برؤية حضرة بهاء الله نرى أن تاريخ القبائل والشّعوب والأمم قد أتى في الواقع إلى نهايته.  فإنّ ما نشهده اليوم ليس إلّا بداية تاريخ الأسرة الإنسانيّة، وهو تاريخ جنس بشريّ واع ومدرك لوحدته واتّحاده.  وآثار حضرة بهاء الله الكتابيّة تحدّد، في نقطة التّحوّل هذه في مجرى الحضارة الإنسانيّة، وتُعرّف من جديد طبيعة هذه الحضارة ومسيرتها، وتضع سُلّمًا جديدًا لترتيب الأولويّات الّتي ينبغي أن تحظى باهتمامها.  فهدف كل ما كتبه حضرة بهاء الله هو أن يدعونا لنعود إلى جذورنا الرّوحانيّة والمسؤوليّات الّتي علينا الاضطّلاع بها. 

ولا يوجد فيما تركه لنا حضرة بهاء الله من آثار كتابيّة ما يدفع إلى التّوهّم بأنّ التّغييرات والتّحوّلات المُنتظرة سوف تأتي بيسر وسهولة، بل على العكس؛ فقد أظهرت أحداث القرن العشرين أنّ أنماط العادات والسّلوك الّتي ترسّخت وتأصّلت على مدى آلاف السّنين لا تُطرح جانبًا ويتخلّى النّاس عنها تلقائيًّا أو استجابة لأيّ برنامج تربويّ أو قوانين تشريعيّة.  فأيّ تغيير جوهريّ، سواء كان في حياة الفرد أو المجتمع، لا يتمّ في الغالب إلّا عبر المعاناة الشّديدة، ونتيجة لمصاعب شاقة لا تُحتمل ولا يمكن تخطّيها إلّا بمثل هذا التّغيير الجوهريّ.  وقد نبّه حضرة بهاء الله إلى أنّه لا بد من المرور بتجربة واختبار بهذه الجسامة والخطورة لكي تلتحم شعوب العالم على اختلاف ألوانها وأهوائها لتصبح شعبًا واحدًا متّحدًا. 

لا يمكن حدوث أيّ اتّفاق بين المفهومين الرّوحيّ والمادّيّ لطبيعة الحقيقة؛ فكلّ منهما يقود في اتّجاه معاكس للآخر.  وإذ يهلّ قرن جديد نجد أنّ النّهج الّذي خطّه المفهوم المادّيّ، المناقض للمفهوم الرّوحيّ، نهج قاد البشريّة المذكورة عبر دهاليز الضّياع إلى أبعد الحدود تقصّيًا لوهم تمثّل في عقلانيّة كانت السّائدة في حينها، ناهيك عن وهم آخر كان يتعلّق بسلامة البشريّة وسعادتها.  فمع انقضاء كلّ يوم تتضاعف المؤشّرات إلى أنّ أعدادًا كبيرة من النّاس في كلّ مكان آخذة في الاستيقاظ على حقيقة هذين المفهومين وما يعنيه كلّ منهما بالنّسبة للجنس البشريّ. 

فعلى الرّغم من سعة انتشار الرّأي المعاكس، فإنّ البشريّة ليست صفحة بيضاء يخطّ عليها أصحاب الامتيازات، من أولئك الّذين تحكّموا في أمور النّاس، أهواءهم كما يحلو لهم.  فينابيع الرّوح تتدفّق أينما تريد وكيفما تشاء، ولن يستطيع رماد المجتمع المعاصر وحطامه أن يوقّف تدفّقها إلى ما لا نهاية.  فلم يعد الأمر يحتاج بصيرة نبويّة لاستشفاف أنّ السّنوات الفاتحة للقرن الجديد ستشهد انطلاقًا للطاقات والطّموحات تفوق في عنفوانها القوى المجتمعة في الصّيغ المكرّرة والأباطيل المختلفة والعادات المستشريّة؛ وهي القوى الّتي طالما وقفت في طريق تلك الطّاقات والطّموحات الرّوحيّة.

إلّا أنّه مهما كان عِظَم الاضطّرابات والمعاناة اللّذين يشهدهما العالم، فإنّ الفترة الّتي بدأت الإنسانيّة دخولها، سوف تفتح أمام كلّ فرد وكلّ مؤسّسة وكلّ مجتمع على وجه البسيطة مجالات وآفاقًا لم يسبق لها مثيل لكي يُسهم الكلّ في اختطاط طريق المستقبل لهذا الكوكب الّذي نعيش عليه.  فقريبًا، كما وعد حضرة بهاء الله وعده الأكيد، "فلسوف يُرفع بساط هذا العالم ليحل محله بساطٌ آخر.  إنّ ربّك لهو الحقّ علّام الغيوب."[14]

 

[1] ملاحظات وردت في كلمة كلّ من النائب لويز جوشيكن والنائبة ريتا كاماتا في "الجلسة التّذكاريّة الخاصّة الّتي عقدها مجلس النّواب (البرلمان) البرازيليّ بمناسبة صعود حضرة بهاء الله". برازيليا 28 أيّار/مايو 1992.

[2]بهاء الله، مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله نزلت بعد الكتاب الأقدس (بلجيكا:  دار النّشر البهائيّة 1980)، ص. 88.

[3] بهاء الله، منتخباتى از آثار حضرت بهاء الله (هوفهايم:  مؤسسه مطبوعات امري آلمان، 2006)، مقتطف رقم 132، ص. 113.

[4] بهاء الله، منتخباتى از آثار حضرت بهاء الله (هوفهايم:  مؤسسه مطبوعات امري آلمان، 2006)، مقتطف رقم 131، ص. 183.

[5] حضرة عبد البهاء، ترويج السّلام العالميّ:  من خطب حضرة عبد البهاء في الولايات المتّحدة وكندا، (دار البديع للطّباعة والنّشر، ص. 87، 131.

[6] بهاء الله، منتخباتى از آثار حضرت بهاء الله (هوفهايم:  مؤسسه مطبوعات امري آلمان، 2006)، مقتطف رقم 111، ص. 141.

[7] بهاء الله، منتخباتى از آثار حضرت بهاء الله (هوفهايم:  مؤسسه مطبوعات امري آلمان، 2006)، مقتطف رقم 96، ص. 128.

[8] بهاء الله، كما وردت في شوقي أفندي، ظهور عدل الهى ترجمة نصر الله مودت (ويلمت ايلينوي، لجنة امور احباي ايراني امريكائي، 1985)، ص. 163

[9] بهاء الله، منتخباتى از آثار حضرت بهاء الله (هوفهايم:  مؤسسه مطبوعات امري آلمان، 2006)، مقتطف رقم 120، ص. 164.

[10] بهاء الله، الكلمات المكنونة (دار النّشر البهائيّة في البرازيل، 1995)، ص. 4. 

[11] بهاء الله، مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله نزلت بعد الكتاب الأقدس (بلجيكا:  دار النّشر البهائيّة 1980)، ص. 85.

[12]بهاء الله، منتخباتى از آثار حضرت بهاء الله (هوفهايم:  مؤسسه مطبوعات امري آلمان، 2006)، مقتطف رقم 120، ص. 138.

[13] بهاء الله، منتخباتى از آثار حضرت بهاء الله (هوفهايم:  مؤسسه مطبوعات امري آلمان، 2006)، مقتطف رقم 4، ص. 12.

[14] بهاء الله، منتخباتى از آثار حضرت بهاء الله (هوفهايم:  مؤسسه مطبوعات امري آلمان، 2006)، مقتطف رقم 4، ص. 12.