[ترجمة]

 

18 كانون الثّاني/يناير 2019

إلى البهائيّين في العالم

أحبّتنا الأعزاء،

بعد مضيّ نصف قرنٍ على توجيه حضرة بهاء الله النّداء إلى الملوك والقادة مطالبًا إيّاهم بأن يُصلحوا ذات بينهم ومؤكّدًا عليهم ضرورة إرساء أسس السّلام في العالم؛ خاضت قوى ذلك العصر العظمى غمار حربٍ ضروس، لتكون أوّل صراعٍ يتمّ اعتباره "حربًا عالميةً" باتت تُستذكر كحريقٍ هائلٍ لم يُبقِ ولم يَذَر.  فهوْل ووحشيّة الدّماء الّتي أُريقت لم يسبق لها مثيل وتركت بصمةً عميقةً في ضمير كافّة الأجيال المتعاقبة.  ومع ذلك، فمن بين الأنقاض ومن عمق المعاناة؛ تفتّقت إمكانيّات نشوء نظامٍ جديدٍ لتحقيق الاستقرار في العالم - لا سيّما في مؤتمر باريس للسّلام الّذي افتُتح في مثل هذا اليوم قبل مئة عام.  في السّنوات اللّاحقة ورغم اندلاع الأزمات المتكرّرة الّتي عصفت بالشّؤون العالميّة؛ كان بإمكان حضرة شوقي أفندي أن يستشفَّ" تقدّم القوى العاملة بتناغمٍ مع روح العصر، وإن كان تقدُّمًا متقطّعًا".  لقد استمرّت هذه القوى في تحريك البشريّة نحو عصر السّلام – ليس مجرّد سلام يحول دون الصّراع المسلّح، بل حالة وجود جماعيّة تتجلّى فيها الوحدة والاتّحاد.  ومع ذلك تظلّ رحلة الوصول إلى السّلام رحلةً طويلة تتعثّر مسيرتها ثمّ تُستأنف.  في هذه الآونة نرى أنّ من الملائم التّفكير مليًّا في التّقدّم المحرَز في رحلة البشريّة هذه، والتّحديات الرّاهنة للسّير نحو السّلام، والمساهمة التي يُدعى البهائيّون للقيام بها من أجل تحقيقه.

على مدى مئة سنةٍ الأخيرة سنحت ثلاث فرصٍ تاريخيّة على الأقلّ بدا الجنس البشري وكأنّه على وشك الوصول إلى سلام حقيقيّ ودائم؛ وإن كان يعجز دائمًا عن تحقيق ذلك بسبب نقاط ضعفٍ لم يتمكّن من التّغلّب عليها.  الفرصة الأولى الّتي سنحت إثرَ انعقاد مؤتمر باريس كانت تأسيس عصبة الأمم؛ تلك المنظَّمة الّتي أنشأها مؤسسوها بهدف الحفاظ على السّلام العالميّ.  وهي الوسيلة الّتي تمّ بواسطتها ولأوّل مرّة في التّاريخ "تصوُّر" نظام الأمن الجماعيّ الّذي أوصى به حضرة بهاء الله قادة العالم "ومناقشته واختباره بجدّيّة".  بيد أنّه وفي نهاية المطاف فإنّ اتفاقية السّلام الّتي أنهت الحربَ قد شابتها عيوبٌ قاتلة، فأخفقت العُصبة في تجنّب نشوب حربٍ عالميّة ثانية اعتبرها المؤرّخون أكثرَ الصّراعاتِ دمويّةً في تاريخ البشريّة.  وكما أنّ الخطوة الهامّة الأولى نحو السّلام العالميّ اتُّخذت في أعقاب فترة صراعٍ مروّع؛ كذلك جاءت الخطوة الثّانية أيضًا؛ حيث لم تَتَشكّل منظّمة هيئة الأمم من تحت أنقاض العُصبة فحسب، بل ظهرت إلى حيّز الوجود منظومةٌ لمؤسّساتٍ اقتصاديّةٍ عالميّة، وتمّ إحراز تقدّم تاريخيّ فيما يتعلّق بحقوق الإنسان والقانون الدّوليّ.  وفي تعاقبٍ سريع، تحرّرت معظم الأقاليم الّتي كانت ترزح تحت نير الاستعمار فأصبحت دُوَلًا مستقلّة، وشهدت ترتيبات التّعاون الإقليمي تقدّمًا ملحوظًا أكثر عمقًا وأوسع نطاقًا.  غير أنّ العقود الّتي أعقبت الحرب اتّسمت أيضًا بسيطرة أجواءٍ مشحونةٍ بالتّرصّد والتّرقّب وفي أحيان كثيرة بالعدوان الصّريح بين كتلتي القوّتين العُظميين في العالم.  إنّ هذه الأجواء الّتي عُرفت بالحرب الباردة تحوّلت إلى حروبٍ حقيقيّة في مناطق مختلفة من العالم، ودفعت بالبشريّة بشكلٍ خطيرٍ إلى شَفا صراعٍ تُستخدم فيه الأسلحة النّوويّة.  بيد أنّ نهايتها السّلميّة في أواخر القرن العشرين أشاعت ارتياحًا، وأدّت إلى ارتفاع نداءات صريحة لتأسيس نظامٍ عالميّ جديد.  كانت هذه ثالث فرصةٍ بدا فيها السّلام العالميّ في متناول اليد.  فقد حظيت الجهود المبذولة لوضع أنظمةٍ جديدةٍ للتّعاون الدّولي وتعزيز القائمة منها بزخمٍ كبير، حيث عقدت الأمم المتّحدة سلسلة من المؤتمرات العالميّة حول مواضيع تهمّ مستقبل البشريّة، وبرزت فرصٌ جديدة للتّوافق في الآراء، كما وجدت روح التّعاون المحفّزة للتّقدّم تعبيرًا لها في الصّلاحيّات المُسندة إلى مؤسّسات دوليّة مكلّفة بإقامة العدل.  بلغت هذه العمليّة التّداوليّة الهادفة ذروتها عند منقلَب القرن في منتدى الألفيّة، وهو اجتماع لممثلي أكثر من ألف منظّمةٍ من منظّمات المجتمع المدنيّ قدِموا من أكثر من مئة قطر، تلتها قمّة الألفيّة؛ ذلك الاجتماع منقطع النّظير لقادة العالم الّذي أدّى إلى الاتّفاق على مجموعة أهدافٍ تمثّل طموحًا مشتركًا للبشريّة.  وباعتمادها، شكّلت"الأهداف الإنمائيّة للألفيّة" نقاط توافقٍ من أجل العمل الجماعيّ في السّنوات التّالية.  إنّ أوجه التّقدّم هذه، رغم الكثير ممّا يعتريها من محدوديّات ونقائص وصراعات مروّعةٍ استمرّت في التّكشّف، إلّا أنّها تقف شاهدًا على ارتقاءٍ واسع الانتشار وتدريجيّ ولكن لا مناص منه في الوعي الجماعيّ لشعوب الأرض، وانجذابهم نحو العدالة العالميّة والتّضامن والتّعاون والتّراحم والمساواة. 

مع حلول القرن الحاليّ، بدأت تحدّيات جديدة تلوح في الأفق، وبمرور الوقت تفاقمت لتؤدّي إلى تراجعٍ في خطوات التّقدّم الواعدة الّتي اختُتم بها القرن المنصرم.  إنّ العديد من التّيارات المهيمنة في المجتمعات اليوم، تدفع بالنّاس في كلّ مكانٍ نحو التّباعد والافتراق بدلًا من التّقارب والائتلاف.  وحتّى في ظلّ انكماش الفقر العالميّ المُدقع، فإنّ الأنظمة السّياسيّة والاقتصاديّة قد مكّنت قلّةً قليلةً من الإثراء الفاحش – الوضع الّذي يغذّي أُسس عدم الاستقرار في الشّؤون الدّوليّة.  أمّا التّفاعل بين أفراد المواطنين، ومؤسّسات الحُكم، والمجتمع ككلّ، فغالبًا ما يكون مشوبًا بالمشاحنات حيث يُبدي المتحاجّون تعنُّتًا متزايدًا في تفكيرهم من أجل غلبة طرفٍ على آخر.  التّطرّف الدّينيّ يشوّه طابع المجتمعات بل حتّى الأمم.  والإخفاقات الّتي مُنيت بها العديد من منظّمات ومؤسّسات المجتمع قد أفضت، كما هو متوقّع، إلى تراجعٍ في ثقة الجماهير؛ إلّا أنّ ذلك قد استُغلّ على نحو منهجيّ من ذوي المصالح الخاصّة الّذين يسعوْن إلى تقويض مصداقيّة كافّة مصادر المعرفة.  وكذلك فإنّ بعض المبادئ الأخلاقيّة المشتركة، الّتي بدت وكأن نجمها آخذ في الصّعود في مستهلّ هذا القرن؛ قد انحدرت مهدِّدة الإجماع السّائد حول الصّواب والخطأ في مختلف المجالات، ذلك الإجماع الّذي نجح في كبح النّزعات البشريّة الدُّنيا.  كما أن الإرادة للانخراط في العمل الجماعيّ العالميّ، والّتي كانت تمثّل قبل عشرين عامًا سياقًا فكريًّا قويًّا بين قادة العالم تمّ ترويعها ومهاجمتها من قبل قوى العنصريّة والقوميّة والتّحزب الّتي نمت من جديد. 

هكذا تعيد قوى الهدم تجميع صفوفها وتبسط نفوذها.  فلِيَكُنْ.  إنّ توحيد الجنس البشريّ عمليّةً ليس بمقدور أيّة قوّةٍ بشريّةٍ أن تردعها، ووعود الرّسل والأنبياء من قَبْل ومُشرّع هذا الأمر الأعظم نفسِه تشهد بهذه الحقيقة.  إلّا أنّ المسار الّذي سوف تسلكه الإنسانيّة للوصول إلى مصيرها المحتوم قد يكون وعرًا ملتويًا للغاية، والقلاقل الّتي تثيرها شعوب الأرض المتخاصمة تشكّل تهديدًا يُنذر بإخفات أصوات تلك النّفوس ذوي الأفكار النّبيلة في كلّ مجتمع ممّن تنادي بإنهاء النّزاع والصّراع.  وطالما أنّ هذا النّداء لا يلقى آذانًا صاغية، فليس هناك سببٌ يدعو للشّكّ في أنّ حالة الفوضى والارتباك الحاليّة في العالم ستزداد سوءًا – وربّما مع عواقب كارثيّة – إلى أن تتنبّه الإنسانيّة المعذّبة وترى أنّ عليها اتّخاذ خطوةٍ هامّةٍ أخرى، لعلّها تكون حاسمةً هذه المرّة، نحو سلامٍ دائمٍ. 

السّلام العالميّ هو الهدف المنشود الّذي تشدّ البشريّة نحوه رحالها عَبر العصور بفضل تأثير كلمة الله الّتي أفاض بها الخالق على خلقه بتتابُع.  لقد وصف حضرة شوقي أفندي تقدّم الإنسانيّة نحو مرحلة عالميّة جديدة في حياتها الجماعيّة من منظور تطوّرٍها الاجتماعيّ:  "تطوّر اتّخذ بداياته الأولى في ميلاد الحياة العائليّة، وتطوّرها اللّاحق في تحقيق التّماسك القبليّ، وهو ما أدّى بدوره إلى قيام دولة المدينة، واتّساعها فيما بعد إلى تأسيس الأمم المستقلّة ذات السّيادة".  الآن، وبمجيء حضرة بهاء الله، يقف الجنس البشريّ على أعتاب مرحلة البلوغ والنّضج.  وأخيرًا فإنّ اتّحاد العالم أصبح ممكنًا.  إنّ نَظمًا عالميًّا يوحّد الأمم بإجماع البشريّة هو الرّدّ الوافي الوحيد لتلك القوى المزعزِعة الّتي تهدّد استقرار العالم. 

مع ذلك، ورغم أنّ اتّحاد العالم أمرٌ ممكنٌ – لا بل هو أمرٌ محتومٌ – إلّا أنّه ليس من المقدور تحقيقه في نهاية المطاف دون قبولٍ غير مشروط لوحدة الجنس البشريّ، والّتي وصفها حضرة ولي أمر الله بأنّها "المحور الّذي تدور حوله جميع تعاليم حضرة بهاء الله ".  كم نافذةٌ تلك البصيرة ومؤثّرة تلك الفصاحة التي يشرح بها حضرته الآثار بعيدة المدى المترتّبة على هذا المبدأ الأساسي!  ففي خِضمّ الاضطراب في الشّؤون العالميّةرأى بكلّ جلاء أنّ إدراك حقيقة أنّ البشريّة شعبٌ واحدٌ يجب أن تكون نقطة الانطلاق لنظمٍ جديد.  والمجموعة الكبيرة من العلاقات بين الدّول – وفي داخل الأمّة الواحدة – ينبغي إعادة تصوّرها جميعًا في ضوء هذه الحقيقة. 

إنّ تحقيق مثل هذه الرّؤية سيتطلّب، عاجلًا أم آجلًا، عملًا تاريخيًّا بطوليًّا وحنكةً عالية في فنّ الحُكم من قِبَل قادة العالم.  ويا للأسف فإنّ الإرادة اللّازمة للسّعي للقيام بهذا العمل البطوليّ لا تزال معدومة.  فالبشريّة تعاني من أزمة هويّة، حيث تناضل شعوب وجماعات شتّى من أجل تعريف نفسها، ومكانتها في العالم، وكيف ينبغي لها أن تتصرّف.  وبدون رؤية لهويّةٍ مشتركةٍ وهدفٍ مشترك، تقع فريسة لأيديولوجيات متنافسة وصراعات على القوى.  وعلى ما يبدو فإنّ صيَغًا وتعبيراتٍ لا حصر لها لـِ"نحن" و"هم" تحدّد هويّة المجموعات تحديدًا أضيق وتضعها على طرفي النّقيض من بعضها البعض.  مع مرور الوقت، أدّى انشقاق المجموعات ذات المصالح المتضاربة هذا إلى إضعاف تماسك المجتمع نفسه.  إنّ ترويج المفاهيم المتنافسة حول أفضليّة شعب معيّن عملت على استبعاد حقيقة أنّ البشريّة تسير في رحلةٍ مشتركةٍ والكلّ شركاء فاعلين فيها.  لاحظوا كيف يختلف هذا المفهوم المُجزّأ للهويّة البشريّة اختلافًا جذريًّا عن ذلك المفهوم الّذي ينشأ عن الإقرار بوحدة الجنس البشريّ.  من هذا المنظور، فإنّ التّنوّع الّذي تتّسم به الأسرة البشريّة يهبها غنًى وثراءً، دون أن يناقض وحدتها.  الوحدة من وجهة النّظر البهائيّة تشتمل على ذلك المفهوم الأساسي للتنّوع والتّعدد ممّا يُميّزها عن التّماثل والتّطابق.  إنّه من خلال المحبّة لجميع النّاس، وتفضيلّا لمصالح البشريّة العموميّة على ولاءات أخرى أقلّ أهمّيّةً يمكن لوحدة العالم الإنساني أن تتحقّق، وتتجلّى أساليب التّعبير اللّامحدودة للتّنوّع البشريّ بأسمى صورها. 

إنّ تعزيز الوحدة، من خلال التّوفيق بين العناصر المتباينة، ورعاية المحبّة الخالصة والمجرّدة من الأَثَرة في كلّ قلبٍ تجاه جميع البشر هي مهمّة منوطة بالدّين.  وهناك إمكانيّات عظيمة لزرع الألفة والوئام متاحة أمام قادة الأديان.  بيد أنّ بمقدور هؤلاء القادة أنفسهم أيضًا التّحريض على العنف باستخدام نفوذهم لإذكاء نار التّزمّت والتّعصّب. إنّ كلمات حضرة بهاء الله في كتاباته عن الدّين تأتي قاطعةً ومحذّرة:  "...لا تجعلوه سبب الاختلاف والنّفاق"، ومؤكّدة على أنّ "اطمئنان العباد وراحة من في البلاد منوطٌ بالأصول والأحكام الإلهيّة". 

إنّ قلبًا تغمره محبّة البشريّة جمعاء، لابدّ وأن يتألّم لمشاهدة المعاناة الّتي يتحمّلها الكثيرون بسبب الشّقاق وعدم الاتّحاد.  ولكن لا يمكن لأحبّاء الله أن ينأوْا بأنفسهم عن الاضطرابات المتزايدة في المجتمع المحيط بهم؛ بل يجب عليهم أيضًا حماية أنفسهم من الوقوع في براثن تلك الصّراعات أو الانزلاق في أساليبها العدائيّة.  فمهما تبدو الأوضاع بائسةً في أيّ وقتٍ كان، ومهما تبدو الإمكانيّات لتحقيق الوحدة والاتّحاد في المستقبل القريب قاتمةً، إلّا أنّه لا يوجد ما يدعو لليأس والقنوط.  إذ لا يمكن لوضع العالم المضطرب الأليم إلّا أن يُحفزّنا ويدفعنا إلى مضاعفة التزامنا بالعمل البنّاء.  يتفضّل حضرة بهاء الله مُنذرًا:  "لقد أحاقت الأمراض بالعباد فاجهدوا لخلاصهم منها بذلك الدّواء الّذي أبدعَته يد الطّبيب الإلهيّ". 

إنّ تأسيس السّلام واجبٌ نودي الجنس البشريّ بأسره للقيام به.  ولسوف تتطوّر مسؤوليّة مدّ يد العون الملقاة على عاتق البهائيّين في هذه العمليّة مع مرور الوقت، بيد أنّهم لم يكونوا مجرّد متفرّجين أبدًا – إنّهم يقدّمون نصيبهم من المساعدة مساهمةً منهم في عمل تلك القوى الّتي تقود البشريّة نحو الاتّحاد والاتّفاق؛ إنهم مدعوّون ومطالَبون بأن يكونوا بمثابة الخميرة الّتي تعمل على تحوّل العالم نحو الأفضل.  تأمّلوا في كلمات حضرة بهاء الله:

"انشغِلوا في جميع الأحوال بما هو سبب راحة واطمئنان الخلق.  ابذلوا الهمّة في تربية أهل العالم عسى أن يزول النّفاق والاختلاف من بين الأمم بقوّة الاسم الأعظم، ويُرى الجميع أهل بساطٍ واحدٍ ومدينةٍ واحدةٍ."

أكّد حضرة عبد البهاء أيضًا على أهمّيّة المساهمة الّتي يُدعى البهائيّون إلى تقديمها من أجل تأسيس السّلام العالمي:

... يجب أن يتأسّس الصّلح والسّلام بين أفراد البشر أوّلًا، حتى يُفضي إلى الصّلح العموميّ في النّهاية.  إذن فيا أيّها البهائيّون؛ لا تدّخروا جهدًا في نشر المحبّة الحقيقيّة والألفة الرّوحانيّة والارتباط المُحكم، بين آحاد النّفوس بقوّة الكلمة الإلهيّة – تلكم هي مهمّتكم. 

إنّ رسالة "السّلامُ العَالميُّ وَعْدٌ حَقٌّ" الّتي وجّهناها إلى شعوب العالم في عام 1985، قدّمت المنظور البهائيّ حول أوضاع العالم والمتطلّبات الأساسيّة للسّلام العالميّ.  كما أنّها عرضت الجامعة البهائيّة في العالم نموذجًا للدّرس والبحث بمقدوره أن يشحذ الأمل في إمكانيّة وحدة الجنس البشريّ.  وفي السّنوات الّتي تلت مُنذئذٍ، عكف أتباع حضرة بهاء الله على صقل وتهذيب ذلك النّموذج بكلّ صبرٍ وأناة والعمل مع الآخرين من حولهم من أجل إنشاء وتوسيع نظامٍ اجتماعيّ جديد قائمٍ على أساس تعاليم حضرته.  إنّهم يتعلّمون كيفيّة القيام برعاية جامعات تجسّد تلك الشّروط الأساسيّة لتحقيق السّلام الّتي حدّدناها في عام 1985.  إنّهم يهيّئون بيئاتٍ يمكن أن يترعرع فيها الأطفال دون أن يتلوّثوا بأيّ شكلٍ من أشكال التّعصّب العرقيّ أو القوميّ، أو الدّينيّ.  إنّهم يدافعون عن المساواة الكاملة بين النّساء والرّجال في شؤون جامعاتهم.  إنّ برامجهم التّعليميّة ذات التّأثير المقلِّب، والشّامل لجوانب الحياة الماديّة والرّوحيّة؛ ترحّب بكلّ من يرغب في المساهمة في رخاء الجامعة وازدهارها.  في بواكير العمل الاجتماعيّ، يمكن رؤية رغبتهم في علاج العِلل العديدة الّتي تعاني منها البشريّة، ومحاولتهم تمكين كلّ شخصٍ حتى يصبح نصيرًا فاعلًا في بناء عالمٍ جديد.  ومستلهمين من مفهوم مشرق الأذكار يدعون أتباع جميع الدّيانات وآخرين غيرهم إلى جلسات دعائهم.  أما الشّباب المتميّزون بالتزامهم ببناء مجتمعٍ قائمٍ على السّلام والعدل، فإنّهم يُشركون أقرانهم ممّن يماثلونهم في الفكر؛ في العمل لبناء مجتمعاتٍ تقوم على هذا الأساس.  في مؤسّسة المحفل الرّوحانيّ المحلّيّ تكمُن السّلطة الرّوحيّة والقدرة الإداريّة لقيادة دفّة الأمور بروح الخدمة والعبوديّة، وحلّ النّزاعات، وبناء الوحدة.  فالعمليّة الانتخابيّة الّتي يتمّ تشكيل المحافل الرّوحانيّة بواسطتها؛ هي في حدّ ذاتها تعبيرٌ عن السّلام، وذلك على النّقيض من النّقد اللاذع وحتى العنف الّذي غالبًا ما يصاحب الانتخابات في المجتمع عمومًا.  إنّ ما تنطوي عليه كافّة أبعاد هذه الجامعة المنفتحة الآخذة في التّوسع هو الإدراك الجوهريّ بأنّ البشريّة جمعاء ينتمون إلى خالقٍ أوحد. 

إنّ الأحبّاء يعملون أيضًا على تطوير قدراتهم على إشراك المحيطين بهم – بصرف النّظر عن المعتقد، أو الثّقافة أو الطّبقة أو العرق –في أحاديث حول كيفيّة تحقيق الرّفاه الرّوحي والمادّي من خلال تطبيقٍ منهجيّ للتّعاليم الإلهيّة.  ومن جملة النّتائج المُرضية لهذه القدرة المتنامية هي مقدرة الجامعة المتزايدة على القيام بمساهماتٍ هادفة في مختلف الحوارات الهامّة السّائدة في المجتمع، ففي بعض البلدان يُبدي القادة والمفكّرون ممّن يسعون جاهدين لمعالجة التّحدّيات الّتي تواجه مجتمعاتهم؛ تقديرًا متزايدًا لوجهات النّظر الّتي يقدّمها البهائيّون.  هذه الإسهامات تعبّر عن البصائر المُستقاة من آثار حضرة بهاء الله، وتستند إلى الخبرة الّتي يولّدها المؤمنون في جميع أنحاء العالم، وتهدف إلى الارتقاء بالمباحثات والمناقشات لتسمو فوق الحدّة والجدال اللّذَيْن غالبًا ما يحولان دون تقدّم حوارات المجتمع.  علاوةً على ذلك فإنّ الآراء وأساليب التّفكير المنطقيّة الّتي يطرحها البهائيّون يتمّ تعزيزها من خلال ممارستهم للمشورة.  واستشعارًا بأهميّة الانسجام والائتلاف وعدم جدوى الاختلاف والنّزاع، يسعى أتباع حضرة بهاء الله إلى إيجاد ورعاية الظّروف والأحوال المُفضية على النّحو الأمثل إلى ظهور الوحدة والاتّحاد أينما كان.  من دواعي الغبطة أن نرى الأحبّاء يوسّعون نطاق جهودهم المبذولة للمشاركة في حوارات المجتمع – لا سيّما أولئك الّذين يستطيعون بصفتهم المهنيّة، المساهمة في الحوارات المرتبطة مباشرة بموضوع السّلام. 

إنّ تحقيق السلام بالنّسبة للبهائيّين، ليس مجرّد تطلّع ٍ يصبون إليه أو هدفٍ مكمّلٍ لسائر أهدافهم — بل كان دومًا محور اهتمامهم وشغلهم الشّاغل.  ففي لوحٍ ثانٍ وجّهه حضرة عبد البهاء إلى "المنظّمة المركزيّة للسّلام الدّائم" في لاهاي، يتفضّل مؤكّدًا:  "إنّ رغبتنا في السّلام لا تنبع من الأفكار فحسب، إنّها أمرٌ دينيٌّ اعتقاديّ، ومن جملة الأسس الإلهيّة الأبديّة."  كما بيّن بأنّه إذا ما أُريد للسّلام أن يستتبّ في العالم، فإنّ إعلام النّاس بأهوال الحرب لا يكفي:

"إنّ فوائد الصّلح العموميّ اليوم مسلّمةٌ بين البشر، ومساوئ الحرب معلومةٌ ومحتومةٌ لدى الكلّ، ولكنّ في هذه القضيّة فإنّ العلم بالشيء وحده لا يكفي، يلزم أن تكون هناك قوّة تنفيذيّة لتأسيس الصّلح في العالم أجمع. ... نؤمن إيمانًا راسخًا بأنّ القوّة التّنفيذيّة في هذا المسعى العظيم هي نفوذ كلمة الله وتأييدات الرّوح القدس."

من المؤكّد إذن، أنّه لا يمكن لمن يعي حالة العالم، أن يُحجم عن بذل قصارى جهده في هذا المسعى وأن يلتمس التّأييدات—تلك الّتي نتضرّع نحن أيضًا في الأعتاب المقدّسة طالبين شمولها نيابةً عنكم.  أحبّتنا الأعزّاء:  إنّ الجهود المتفانية الّتي تبذلونها أنتم وشركاؤكم ممّن يماثلونكم في الفكر؛ من أجل بناء جامعاتٍ ترتكز على المبادئ الرّوحانيّة، وتطبيق تلك المبادئ من أجل تحسين مجتمعاتكم، ومن ثَمّ تقديم البصائر النّاجمة عن ذلك—لهي أضمن السّبل التي يُمكِنكم بها التّسريع في تحقيق وعد السّلام العالميّ. 

 

[التّوقيع:  بيت العدل الأعظم]