[ترجمة]
19 آذار/مارس 2025
إلى البهائيّين في العالم،
أحبّتنا الأعزّاء،
إنّ لطبيعة الجامعات المزدهرة الّتي يسعى العالم البهائيّ جاهدًا إلى إقامتها آثارًا عميقة على الأسرة. ففي كنف الأسرة يولد الفرد ويترعرع، وفي محيط الأسرة يبدأ الأفراد بتعلّم كيفيّة العيش مع الآخرين. فالأسرة حجر الزّاوية الأساسيّ للجامعة، بل هي أيضًا اللّبنة الأساسيّة للنّظام الاجتماعيّ برمّته. وبناء عليه فإنّ المجتمع الّذي يتمّ تصميمه لتلبية احتياجات عصر بلوغ الجنس البشريّ ونضجه يتطلّب مفهومًا أكثر نضجًا عن الأسرة إلى جانب القدرة على توسيع نطاق البصائر المستمدّة من هذا المفهوم لتشمل العلاقات الّتي تُشكّل الأمّة والعالم. يتفضّل حضرة عبد البهاء موضّحًا أنّ: "الأسرة أمّة مصغّرة" و"الظّروف الّتي تُحيط بالأسرة تُحيط أيضًا بالأمّة." لذا فإنّ تعلّم نمط جديد للحياة العائليّة هو جزء لا يتجزّأ من الجهد المبذول لتعلّم كيفيّة إطلاق قوّة بناء المجتمع الكامنة في الأمر المبارك.
من وجهة النّظر التّاريخيّة اتّخذت الأسرة أشكالًا مختلفة استجابة لمقتضيات المراحل المتباينة من تطوّر المجتمع الإنسانيّ. ومع تقدّم المجتمع، فإنّ التّرتيبات والتّعاريف الّتي ربّما كانت مفيدة في عصر سابق بلغت حدّها ولم تعد مناسبة للمرحلة التّالية من التّطوّر البشريّ. فقد تعيق توقّعات الوالدين، الّتي كانت مناسبة لفترة تاريخيّة معيّنة، تطوّر قدرات أبنائهم في فترة أخرى. وبالمثل، فقد تصبح بعض الولاءات القويّة الّتي سمحت بازدهار مجموعات قائمة على صلة القرابة في مرحلة ما عقبات أمام تحقيق الوحدة ضمن ترتيبات اجتماعيّة أوسع في مرحلة لاحقة. وكذلك فإنّ توزيع أدوار معيّنة على أساس الذّكورة والأنوثة والّذي ميّز مرحلة مبكّرة من التّطوّر البشريّ قد يعيق تقدّم المرأة والمجتمع عمومًا في مرحلة أخرى. يشير حضرة عبد البهاء إلى ضرورة إعادة تقييم أفكار ونظريّات العصور الماضية موضّحًا أنّ على البشريّة "أن تكون اليوم مزوّدة بفضائل وقوى جديدة، ومعايير أخلاقيّة بديعة، وقدرات مميّزة." لأنّ "مواهب وبركات مرحلة الصّبا على الرّغم من أنّها كانت ملائمة وكافية إبّان فترة مراهقة العالم الإنسانيّ، إلّا أنّها الآن غير قادرة على تلبية متطلّبات مرحلة نضجه وبلوغه." ومن هنا، فإنّ التّحدّي الماثل أمام الجامعات البهائيّة في جميع أنحاء العالم هو النّظر في الممارسات الحاليّة في مجتمعاتها، ووزنها في ضوء التّعاليم الإلهيّة، والتّخلّص من أيّ اتّجاهات غير مرغوب فيها، وتعلّم كيفيّة تأسيس أنماط جديدة من الحياة العائليّة تتناسب مع احتياجات العصر الجديد.
من غير الممكن بطبيعة الحال في هذه المرحلة المبكّرة نسبيًّا وصف طبيعة التّدابير والتّرتيبات العائليّة الّتي يجب أن تتبلور وتظهر في صورتها النّهائيّة لدى اكتمال واستتباب هذا الدّور البديع. ورغم إدراك المجتمعات المتباينة في مختلف أنحاء العالم لأهمّيّة الأسر المتماسكة، إلّا أنّها تواجه طيفًا من القوى الّتي تعمل على تقويض الأسرة بشتّى الطّرق. ومع ذلك، فإن عمليّة التّعلّم الّتي تساهم في التّحرّك نحو نمط جديد من الحياة داخل الأسَر وفيما بينها سوف تتسارع مع تنامي قدرة العالم البهائيّ على تطبيق بعض البصائر الأساسيّة المستمدّة من التّعاليم المباركة.
من جملة الأسئلة الّتي يتعيّن أخذها بعين الاعتبار ما يلي: ما هي خصائص حياة العائلة البهائيّة وكيف تتميّز عن الطّريقة الّتي يتمّ بها فهم الحياة العائليّة في المجتمع اليوم؟ ما هي الطّبيعة المميّزة للزّواج البهائيّ وكيف من شأنها أن تُعزّز الحياة العائليّة؟ كيف تُسهم العائلات البهائيّة في عمليّة التّحوّل في الأحياء والقرى وسواها؟ ما هي المخاطر والعقبات الحاليّة الّتي تواجه العائلات البهائيّة والّتي تمنعها من تحقيق هذا الهدف؟ كيف يساهم إطار العمل في المرحلة الرّاهنة من الخطّة الإلهيّة في تعزيز الحياة الأسريّة وكذلك خلق فرص تتيح للعائلات النّابضة بالحياة المشاركة في عملية بناء المجتمع؟
*
إنّ مفهومًا جديدًا للأسرة يبدأ بمفهوم جديدٍ للزّواج. يؤكّد حضرة بهاء الله أنّ الزّواج ”هو سرّ البقآء ومستسرّ الإمضآء بعد القضآء لأهل الإمكان.“
الزّواج بالنّسبة للبهائيّين ليس مجرد ارتباط جسديّ، بل هو أيضًا ارتباط روحانيّ له آثاره على الحياة في هذا العالم وما بعده. فالزّواج البهائيّ كما يوضّح حضرة عبد البهاء "هو ارتباط بين طرفين وتعلّق الخاطر بين جهتين" بحيث "يُرقّي كلّ منهما الحياة الرّوحانيّة للآخر" حتّى "يتعاشرا ويعيشا في غاية المودّة، وكأنّهما نفس واحدة." في الزّواج البهائيّ تكتشف وتتعلّم الرّوحان كيف تساعد الواحدة منهما الأخرى كي تتمكّنا سويّة من تحقيق هدفهما الأخلاقيّ المزدوج وهما: تطوير الإمكانات الفطريّة الّتي وهبهما الله، والمساهمة في حضارة دائمة التّقدّم. إنّ تأثير العلاقة الّتي يُنشِئُها الزّوجان منذ عقد قرانهما يؤدّي عبر المكان والزّمان إلى نسج عددٍ لا يحصى من علاقات جديدة بين أشخاص آخرين ممّا يمكّنها أن تعيد تشكيل الحياة والمجتمعات على نحو بنّاء.
يسمو الزّواج من المنظور البهائيّ فوق الازدواجيّة النّاشئة عن وجهات النّظر المتساهلة والرّجعيّة السّائدة في المجتمع. ففي الزّواج البهائيّ يندمج الحبّ والمساواة والحميميّة والإخلاص والعلاقات الجنسيّة والإنجاب وتربية الأطفال، ويتعزّز التّرابط بينها، ممّا يشكّل حصنًا منيعًا للسّعادة على الصّعيدين الشّخصيّ والاجتماعيّ. فبينما تقوّض الممارسات الاجتماعيّة المتساهلة الزّواج والأسرة من خلال تفكيك هذه السّمات الضّروريّة لازدهار الإنسان، تُبالغ الممارسات الرّجعيّة في التّشديد على إحدى هذه السّمات أو تشويهها من أجل قمع أفراد الأسرة. إنّ الالتزام بالتّعاليم المباركة يُسهم في معالجة مثل هذه المشاكل. ففي مختلف البيئات الثّقافيّة حول العالم، هناك الكثير ممّا ينبغي تعلّمه حول ما لكافّة سمات الزّواج البهائيّ المذكورة في التّعاليم المباركة من تداعيات. على سبيل المثال، يُعد مبدأ المساواة بين المرأة والرّجل أساسًا لتطوير نمط جديد من الحياة الزّوجيّة. فمع تطبيق هذا المبدأ بين الزّوجة والزّوج في إطار الزّواج، تتعزّز العلاقة وتزدهر، وينشأ البنات والأولاد على فهم جديد للمساواة وتطبيقها العمليّ. وسوف تمتدّ نتائج هذا المبدأ تدريجيًّا إلى الأجيال القادمة وتُسهم في تقدّم المرأة إلى أن تتحقّق بشكل كامل وعود حضرة عبد البهاء بأنّ النّساء سوف يصلن إلى "المشاركة التّامّة في إدارة شؤون العالم وعلى قدم المساواة مع الرّجال".
بالزّواج تنشأ الأسرة. والعلاقات السّليمة الّتي تربط أفراد العائلة البهائيّة قائمة على العدل والعطاء المتبادل. يجب أن يحصل كلّ عضو على الحقوق المستحقّة له وعليه الوفاء بالمسؤوليّات المنوطة به. يتفضّل حضرة عبد البهاء موضّحًا: "إنّ الأسرة، كونها وِحدة بشريّة طبقًا لتعاليم حضرة بهاء الله، يجب أن تتربّى وفقًا لأصول التّقديس والتّنزيه." كما يتفضّل حضرته: "إنّ سلامة الرّوابط العائليّة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار باستمرار، وحقوق أفرادها يجب أن لا تُنتهك." إنّ هذه العلاقات السّليمة بين أفراد العائلة تستوجب رعاية واعية.
الزّوجان في الأسرة البهائيّة شريكان حقيقيّان لا يخضع أحدهما للآخر. إنّهما معًا يجتازان تحدّيات الحياة، سواء كانت روحانيّة أم مادّيّة أو اجتماعيّة، وذلك من خلال الدّعاء والدّراسة والمشورة ومراجعة العمل وتقييمه. تأمّل، على سبيل المثال، في القرارات المتعلّقة بتربية الأطفال وتعليمهم. تُعرّف الكتابات البهائيّة الأمّ بأنّها أوّل مربّ للطّفل، وتُؤكّد على امتيازاتها في هذا الصّدد. فكما يبيّن حضرة عبد البهاء: "الأمّهات في الحقيقة هُنّ اللّائي يُؤسّسن لسعادة أطفالهنّ وعلوّ مقامهم وأدبهم وعلمهم ومعرفتهم وفطنتهم وبصيرتهم وإيمانهم وتديّنهم." إلّا أنّ الأب أيضًا يتحمّل مسؤوليّة تعليمهم وتربيتهم، ولا يمكنه التّخلّي عن هذا الواجب الحيويّ وتركه على عاتق الأمّ وحدها. ولمساندة الأمّ في أداء دورها وضمان عدم تضرّرها منه، يتحمّل الأب التزامًا إضافيًّا بدعم الأسرة ماليًّا، غير أنّ هذا لا يعني أنّ الأدوار ثابتة لا تخضع للمرونة. فبناء على فهمهما للتّعاليم الإلهيّة، يُحدّد الزّوجان أفضل طريقة لإدارة شؤون الأسرة بما يتناسب مع الظّروف الشّخصيّة والاجتماعيّة المختلفة. إن كلّ مرحلة من مراحل الحياة الزّوجيّة تصاحبها تحدّيات وفرصًا يجب على الزّوجين السّعي لإدارتها بشكل تعاونيّ وفعّال، مع ضمان التّقدّم الرّوحيّ والفكريّ والمهنيّ للزّوجة والزّوج.
في بيئة أسريّة داعمة، يوجّه الوالدان أبناءهما بعناية واهتمام لكي يتعلّموا عيش حياة ذات مغزى وهادفة تتّسم بالتّعبّد والفضيلة والخدمة. وتحقيقًا لهذه الغاية، ومن خلال نمط حياتهما اليوميّ وتفاعلاتهما، علاوة على عدد لا يُحصى من المحادثات، يُنمّي الوالدان في أبنائهما بكلّ محبّة مجموعة من الصّفات والمواقف والعادات والقابليّات متزايدة التّعقيد، ويكيّفان الأساليب وطرق التّعامل مع كلّ مرحلة من مراحل نموّ الطّفل منذ نعومة الأظفار إلى النّضج. فيتعلّم الأطّفال وهم في سنّ مُبكّرة التّوجّه إلى الله ومحبّته، والدّعاء وتلاوة الكلمات الإلهيّة يوميًّا، وبأنّهم نفوسٌ نبيلة تسعى إلى تنمية الخصال الرّوحانيّة، وأن يُؤْثِروا الآخرين على أنفسهم، والتّعبير عن هذه الخصال من خلال علاقات تتّسم بالعطف والتّعاون. وفي مسار نموّهم يتعلّمون التّعوّد على تحمّل المشقّة، وممارسة ضبط النّفس، والمساءلة الذّاتيّة، ونكران الذّات، وتحصيل الفنون والعلوم. وكلّما خطوا بأنفسهم خطوات أكبر في العالم يتعلّمون كيفيّة تنمية روح الخدمة، ونشر وتطبيق التّعاليم الإلهيّة، وحلّ الخلافات والمشاركة في المشورة، والثّبات على العهد والميثاق، والعمل من أجل خير وصلاح العالم، والاهتمام بالأمور الّتي تؤدّي إلى العزّة الأبديّة. تضع الآثار البهائيّة في متناول الوالدين موردًا لا ينضب من البصائر لتنمية ما سبق والعديد من المواقف والمهارات والقدرات الحيويّة الأخرى، كما يقدّم المعهد التّدريبيّ دعمًا أساسيًّا للأسرة من خلال تعزيز فهم وقابليّات جميع أفرادها، كما قد تتوفّر موارد أخرى تُسهم في التّعليم المادّيّ والاجتماعيّ والرّوحيّ للنّشأ والّتي تستطيع الأسرة الاستفادة منها من قبيل المدارس، وحياة الجامعة، ومشاريع الخدمة، وغيرها. بيد أن المسؤوليّة النّهائيّة لضمان تربية الأطفال وتعليمهم على نحو سليم وكامل تقع على عاتق الوالدين.
مع مرور الوقت، تتطوّر العلاقات بين أفراد الأسرة وتتّخذ أشكالًا مختلفة. إنّ روابط المحبّة والاتّحاد الّتي تُراعى بعناية بين الإخوة تُوفّر لهم الدّعم والارتقاء مدى الحياة، وتكون بمثابة حصن منيع ضد الغيرة التّافهة والانقسامات الّتي قد تنشأ على مدى حياة الأسرة. من الواضح أن حقوق الأبناء البالغين ومسؤوليّاتهم ليست هي نفسها عندما كانوا صغارًا. يجب على الآباء والأمّهات أن يتّسموا بالدّقة البالغة إزاء هذه التّغييرات أثناء تهيئة أطفالهم لسنّ الرّشد، وأن يعيروا اهتمامًا خاصًّا بتعزيز الاستقلاليّة وحسّ المسؤوليّة لدى الجيل القادم أثناء نموّه. بدورهم يستمرّ النّشأ طوال حياتهم على احترام وتكريم والديهم، لكن ببلوغهم النّضج، يجب عليهم تحمّل مسؤوليّة حياتهم وخياراتهم. وبمرور الزّمن تتبدّل الالتزامات، فقد تقتضي الظّروف من الأبناء أن يقدّموا المُساعدة للوالدين بشكل متزايد مع تقدّمهم في العمر.
إنّ علاقات الأسرة النّواة متأصّلة في دوائر متزايدة الاتّساع من العلاقات بدءًا من العائلة الممتدّة. يقدّم الأجداد والجدّات، والعمّات والأعمام والخالات والأخوال وأبنائهم الرّعاية والدّعم الّذين يُسهمان في تحقيق غايات الأسرة والاضطلاع بمسؤوليّاتها. كما أنّ خصائص هذه العلاقات الأسريّة تمتدّ لتشمل سائر البهائيّين والأصدقاء الّذين يمكنهم أيضًا مساعدة الأسرة بطرائق متنوّعة. وفي هذه الشبّكة الاجتماعيّة الوثيقة الّتي تتشكّل في جامعة نابضة بالحياة، يُقدِّم كبار السّنّ بصائر تُعّمق الفكر ونصائح حكيمة ومثالًا يُحتذى به. ويتولّى آخرون دور الأعمام والخالات الرّوحانيّين، فيعبّرون عن المودّة، ويهتمّون بتقدّم الشّباب، ويوفّرون الدّعم الّذي يعزّز جهود الوالدين وتطلّعاتهما السّامية. يقوم الشّباب بدور الإخوة والأخوات الأكبر سنًّا فيُساعدون ويُلهمون من هم أصغر منهم سنًّا بأساليب عديدة. وبهذه الطّريقة فإنّ ما يتمّ غرسه منذ البداية في الأسرة من مشاعر الاتّحاد والمحبّة والرّعاية والثّقة والتّضامن، يبدأ بالتّغلغل في نسيج العلاقات المجتمعيّة.
الاهتمام بالشّؤون الماليّة جانب أساسيّ من جوانب الحياة الأسريّة المتناغمة المزدهرة وضروريّ لمشاركة الأسرة في جامعة متنامية. إنّ التّشاور بين الزّوج والزّوجة، ومع الأبناء لدى الاقتضاء، سوف يُحدّد كيفيّة تحقيق التّوازن بين هذا البعد المادّيّ وسائر سمات الحياة العائليّة والتزاماتها. يجب على الإدارة الحكيمة والواعية لشؤون الأسرة الماليّة أن تراعي العديد من الاعتبارات، منها كيفيّة كسب المال وإنفاقه وادّخاره؛ وكيفيّة ضمان استمرار تعليم الأطفال ورفاههم؛ وتحديد مقدار ما يُخصّص للصّناديق الأمريّة أو لدعم شؤون الجامعة؛ وكيفيّة الوفاء بواجب أداء حقوق الله. فمن خلال الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها تُوفّر الأسرة فضاءً لتعلّم عمليّ حول الكرم، والمسؤوليّة، والتّمييز بين الاحتياجات والرّغبات، وإدارة الموارد المادّيّة.
*
تفتح الحياة العائليّة البهائيّة مجالًا رحبًا للتّفاعل الحيويّ مع المجتمع الأوسع. ويزدهر هذا التّفاعل مع سعي أفراد الأسرة إلى تجسيد التّعاليم البهائيّة الأساسيّة في حياتهم اليوميّة. فعلى سبيل المثال، يخلق تطبيق مبدأ المساواة بين المرأة والرجل، المذكور آنفًا، علاقة مميّزة بين الزّوج والزّوجة، وكذلك بين الأبناء والأسرة بأكملها، مما يُهيّئ أفرادها للمساهمة في تفاعلات مجتمعيّة تُطلق العنان لإمكانات الجميع. وبالمثل، فإنّ الالتزام بمبدأ وحدة الجنس البشريّ يقتضي تزويد الأطفال بتجارب تحميهم من التّعصّبات بكافّة أشكالها، وتعزّز تقديرهم للتّنوّع، مما يُسهم في قدرتهم على بناء علاقات تقوم على الوحدة والاتّحاد في عالم مُنقسم. إضافة إلى ذلك، فإنّ تنمية القدرة على تحرّي الحقيقة، وتقدير التّوافق والانسجام بين العلم والدّين، وحلّ الاختلاف في وجهات النّظر واتّخاذ القرارات بالتّشاور والتّعاون بدلًا من النّزاع والتّنافس، يُمكّن أفراد الأسرة من أن يكونوا نُصراء فاعلين في عمليّة التّحوّل الاجتماعيّ. كما أنّ تنمية صفات كالعدل والرّحمة بين أفراد الأسرة تُهيّئ الأطفال لبناء علاقات سليمة ومتوازنة مع الآخرين في المجتمع. وهكذا فإنّ الجهد المبذول لتعلّم كيفيّة تطبيق التّعاليم الإلهيّة داخل الأسرة يولّد لدى الأطفال رؤية تتجاوز حدود الأسرة نفسها وتُسهم في رفع مستوى الوعي بشأن ظروف واحتياجات شعوب العالم.
إنّ تنمية نمط جديد من الحياة العائليّة من شأنه أيضًا أن يتصدّى لقوى التّفكّك والانحلال الّتي تُعدّ سمة لا تنفصم لعصرالانتقال هذا. وقد أثّرت هذه القوى الّتي تعصف بالمجتمع على الأسرة بشكلٍ خاصّ مُمزّقة روابطها، ومُلقية بظلالها الكثيفة على أفرادها وخاصّة الأطفال. إنّ بإمكانها أن تُعرّض أفراد الأسرة لبعض من أشدّ الأمراض الاجتماعيّة تدميرًا: من قبيل غياب المحبّة والرّعاية، وإهمال الجوانب الرّوحانيّة، والتّجريد من الكرامة الإنسانيّة، والفقر، وانعدام الأمان، والعنف. ومن ثمّ ينجذب الأفراد إلى حياة قائمة على الملهّيات المادّيّة أو إشباع الرّغبات الشّخصيّة، فيصبحون بذلك مجرد أدوات يتلاعب بها من يسعون لفرض مخطّطاتهم على المجتمع. إنّ الأيديولوجيّات والهويّات المُتناقضة، الّتي لا تتوافق مع مُثُل وحدة البشريّة والسّلام العالميّ، تتنافس على كسب ولاء الجماهير وتتصارع على التّفوّق فيما بينها. تغرس بعض هذه الحركات بذور التّعصّب والتّطرّف، ممّا يُفضي في نهاية المطاف إلى العداوة والصّراع والتّناحر بين شعوب العالم. وقد تبدو حركات أخرى وكأنّها تلتزم ببعض جوانب التّعاليم الإلهيّة، إلّا أنّها تقود الأحبّاء بمهارة بعيدًا عن منهج حضرة بهاء الله القويم. إنّ القوى المرتبطة بعمليّة التّفكّك والانحلال تؤثّر في مختلف الشّعوب بطرق مختلفة. لذا يتعيّن على الأسرة، والمجتمع بأسره، تعلّم كيفيّة تفحّص الظّروف القائمة، وإدراك طبيعة هذه القوى وأثرها، ووضع تدابير وقائيّة وعلاجيّة لمواجهة عواصف عصر محفوف بالمخاطر، معتمدين بالكامل على العون والمدد الإلهيّ.
إنّ الارتباط الوثيق بين أفراد الأسرة ورغبتهم المخلصة الجادّة في خدمة الآخرين يُفسحان مساحة اجتماعيّة فريدة، ألا وهو المنزل البهائيّ. فالمنزل البهائيّ النّابض بالحيويّة والنّشاط عنصرٌ لا غنى عنه في عمليّة بناء المجتمع على مستوى القاعدة. في أجواء المنزل المفعمة بالمحبّة، يدعم أفراد الأسرة بعضهم البعض ليصبحوا نُصراء قادرين وواثقين للخطّة الإلهيّة، يرحّبون بالآخرين ويساعدونهم على الاضطلاع بدورهم في تحوّل المجتمع. في المنزل البهائيّ يجتمع حُسن الضّيافة مع الانتعاش الرّوحانيّ والتّقدّم الفكريّ. ومن خلال الأنشطة الّتي يمكن أن تقدّمها كلّ عائلة بهائيّة في منزلها، تستطيع عرض أسلوب حياة يمكن أن يَحتذي به كلُّ من يسعى إلى التّصدّي لقوى الشّقاق الّتي تغذّي السّخط والصّراع والمصلحة الذّاتيّة، وتعمل على نسج روابط الثّقة والتّعاون والعمل البنّاء الّذي يعتمد عليه المجتمع السّليم. وفي الواقع فإنّ مجموعات من العائلات في طيف واسع من المجموعات الجغرافيّة حول العالم بدأت بالفعل بفتح منازلها والعمل فيما بينها لاستحكام الأنشطة المحلّيّة وتوسيع نطاقها وتعزيز تأثيرها بشكل ملحوظ.
إنّ مفهوم حياة متّسقة من الخدمة ينطبق على الحياة العائليّة تمامًا كما ينطبق على حياة الفرد. فالمتطلّبات والفرص المُعقّدة الّتي تواجهها الأسرة تتطوّر بصورة مستمرّة مع مرور الزّمن. إنّ التّقدّم معًا على طريق الخدمة يقوّي الأسرة ويُعينها على الاضطلاع بمسؤوليّاتها المتعدّدة في كلّ مرحلة من مراحل حياة أفرادها. وفي أوقات معينة، حين تبرز فرصة لخدمة أكثر تطلّبًا، سواء لأحد أفراد الأسرة أو للأسرة بأكملها، فإنّ روابط الدّعم داخل عائلة بهائيّة مخلصة يمكن أن تجعل الاحتضان القلبيّ الكامل لمثل هذا المسعى المتّسم بالتّضحية ممكنًا. في مثل تلك الأوقات من الضّروريّ أن يُستحضر في الذّهن جوهر التّضحية، كما يبيّن حضرة عبد البهاء، وهو أن يُعرض الإنسان عن شأن بشريّ في سبيل شأن إلهيّ. فالتّضحيّة تمهّد السّبيل لتقديم خدمة أعظم، ولكن ليس من المفترض أن تكون العائلة نفسها هي الثّمن.
*
باستعراض تقدّم خطّة السّنوات التّسع، يغمرنا الشّعور بالدّهشة والامتنان العميق للجهود الخالصة الّتي يبذلها الأحبّاء. إذ نشهد عبر مختلف البيئات في جميع أنحاء العالم سلسلة من مساع تتّسم بالتّضحية والإيثار نتيجة تعاون الأفراد والجامعات والمؤسّسات. وبينما ينخرط الأحبّاء مع السّكّان المتلهّفين في عملية بناء الجامعة، يُطلقون طيفًا من المشاريع من أجل التّعليم وإصلاح المجتمع، وينشرون أنشطة الأمر المبارك إلى أماكن جديدة، ويعملون على موائمة التزامات متعدّدة متأصّلة في حياة متّسقة من الخدمة. وعلى الرّغم من قيود الظّلم والقمع أو التّقلّبات الّتي تعصف بعالم مضطرب، يثابر الأحبّاء في بلوغ مآربهم السّامية. في جميع أنحاء العالم تسعى نفوس لا تُحصى ضمن حدود ظروفها وقابليّاتها إلى إطلاق القوّة الكامنة في الأمر المبارك لبناء المجتمع بدرجات متعاظمة. وتحقيقًا لهذه الغايات، فإنّ الدّور الّذي تقوم به العائلات البهائيّة سوف يكون أكثر ضرورة وتأثيرًا في السّنوات والعقود القادمة. إنّ لدى كافّة الأحبّاء مساهمات حيويّة عليهم تقديمها تعزيزًا لهذا العنصر الأساسيّ من الحياة البهائيّة.
لقد نُقل عن حضرة عبد البهاء أنّه تفضّل "إنّ منزلي منزل الأنس والألفة، منزل الانشراح والانفراج، منزل الوحدة والاتّحاد، منزل الابتسام والابتهاج، ينبغي لكلّ من يدخل هذا البيت أن يسعد وينشرح صدره، إنّ هذا منزل النّور فلا بدّ أن تستنيروا". آملين أيّها الأحبّاء الأعزّاء أن تصبح عائلاتكم ومنازلكم ملاذًا آمنًا وركنًا ركينًا تستظلّ بها البشريّة جمعاء.
[التّوقيع: بيت العدل الأعظم]