[ترجمة]

2 نيسان/أبريل 2010

إلى الأحبّاء الأعزّاء في بلاد إيران المقدّسة 

الأحبّاء الأعزاء،

لقد تناولنا في رسالتنا المؤرّخة 24 تشرين الثّاني/نوفمبر 2009 موضوع العائلة وأثرها في تقدّم الحضارة الإنسانيّة، وأشرنا إلى ضرورة تربية أبناءٍ يرون سعادتهم في سعادة الآخرين وعزّتهم.  وبينما ذكَّرنا بأهميّة استحكام بنية العائلة ومساهمتها في تقدّم المجتمع، أشرنا أيضًا إلى أنّ إيلاء الاهتمام بالمصالح العائليّة ومنافعها لا ينبغي أن يقلّل من الالتزام بالعدل والرّأفة بالآخرين، أو أن يُعدّ مبرّرًا لتعزيز مفهوم "نحن وهم" في المجتمع.  وفي الواقع، أنّ مجالات تأثير العائلة في الارتقاء بالحياة الاجتماعيّة واسعة جدًا.  فعلى سبيل المثال، يمكن للعائلة كوحدة اقتصاديّة أن تقوم بدور فاعل أيضًا في تخفيف المشاكل المتعدّدة المتولّدة من الظلم الاقتصاديّ والمالي الفاحش السّائد في العالم اليوم. 

إنَّ ثقافة الجامعة البهائيّة الّتي تؤكّد على أهميّة تحصيل العلم والمعرفة وتَرقى بالعملِ الجادّ والمخلص في مهنة وحرفة مفيدة والمقترنِ بروح الخدمة إلى مرتبة العبادة، كانت العامل الأساسيّ في التقدّم والرّخاء النّسبيّ لغالبية البهائيّين في إيران في الماضي.  وفي الوقت الرّاهن فواقع الظروف الاقتصاديّة والاجتماعيّة السّائدة في إيران، والقيود الظّالمة الّتي فرضها بعض المسؤولين على الجامعة البهائيّة في السّنوات الأخيرة قد جعلت من تحصيل العلم والاشتغال بعمل والقيام بالخدمات الاجتماعيّة بالنّسبة للبهائيين أمرًا صعبًا.  لكن، فإنّكم أيّها الأعزّاء، والحمد لله، تجهدون لنقل هذه الثّقافة القيِّمة إلى أبنائكم رغم المشاكل العديدة الّتي تواجهكم.  ونظرًا لأنَّ تقدّم إيران الاقتصاديّ والاجتماعيّ يتطلب تغييرًا جذريًّا في نظرة النّاس وبالأخص جيل الشّباب إلى الهدف الأصليّ من الحياة، وسبيل التّقدّم والتّرقّي، ومفهوم الخلاص والسّعادة الأبديّة، وموقع المادّيّات في حياة الفرد الشّخصيّة والعائليّة، فإنّنا نودُّ مشاركتكم ببعض الملاحظات حول العائلة وتأثيرها في الشّؤون الاقتصاديّة والاجتماعيّة وذلك من باب المساعدة في الحوارات المفيدة الّتي تنخرطون فيها مع المواطنين الأعزّاء في بلدكم.

إنَّ تحقيق العدالة الاجتماعيّة يكون ممكنًا عندما يتمتّع الجميع بالرّخاء المادّيّ النّسبيّ ويسعون من أجل اكتساب الصّفات الرّوحانيّة.  وعليه ينبغي السّعي للبحث عن حلّ جذريّ لمشاكل العالم الاقتصاديّة آخذين بعين الاعتبار النّهُج والمقاربات العلميّة والمبادئ الرّوحانيّة في وقت واحد.  وتُعتبر العائلة بيئة ملائمة لتشكيل الفضائل الأخلاقيّة اللّازمة لإيجاد نظرة صحيحة للموارد الماليّة وطريقة استخدامها. 

يؤكّد حضرة بهاء الله لدى الإشارة إلى مقتضيات عالم الخلق أنّ إحراز التّقدّم في أيّ أمر وتحقيق أيّة غاية معلّقان بوجود الأسباب والوسائل.  إنَّ التعّمّق في مضامين هذا البيان المبارك يعلِّم الإنسان أنّ عليه دائمًا أن يفرّق بين الغاية والوسيلة، وأن لا يسمح للحصول على ما هو مجرد أداة أو وسيلة أن يحلّ محلّ الغاية في حياة الإنسان.  على سبيل المثال، إنَّه لمن الممدوح والمقبول أن تعتبر الثّروة وسيلة ضروريّة إذا استُخدمت لتحقيق غايات سامية منها تأمين القوت اليوميّ، وتقدّم الأسرة، وخدمة المجتمع، والجهود الرّامية إلى بناء حضارة عالميةّ، ولكن لا يليق بمقام الإنسان أن يجعل اكتسابها بحد ذاته الغاية الأساسيّة من حياته. 

النّقطة الهامّة الأخرى الّتي لها علاقة وثيقة بما ذُكر أعلاه والّتي تنسجم مع روح التّعاليم الإلهيّة، هي أنّ الغاية لا تبرر الوسيلة.  بمعنى أنّه مهما كانت الغاية نبيلة مفيدة وعظيمة، ومن المعروف أنّها ضروريّة لحياة الفرد والأسرة، إلّا أنّ بلوغها عن طريق غير مشروع أو باللّجوء إلى الوسائل غير اللّائقة غير جائز على الإطلاق.  وفي الوقت الحاضر، ويا للأسف، فإنّ بعض قادة السّياسة والمجتمع والدّين، وعدد من سماسرة الأسواق الماليّة الدّوليّة، ومجموعة من مديري الشّركات متعدّدة الجنسيّات، وأرباب الصّناعة والتّجارة، ومجموعة من النّاس العاديّين قد تجاهلوا هذه النّقطة الهامّة والأساسيّة تحت تأثير الضّغوط الاجتماعيّة، بالرّغم من نداء ضميرهم ووجدانهم، واعتبروا تحقيق غاياتهم بأيّة وسيلة أمرًا مشروعًا. 

ويعتبر حضرة عبد البهاء طلب الثّروة مشروطًا بكيفية اكتسابها وإنفاقها، ويتفضّل قائلًا:  "الغنى ممدوح أشدّ المدح إن تسنّى ذلك بفضل الله للفرد وبسعيه واجتهاده عن طريق التّجارة والزّراعة والصّناعة" وتمّ "إثراء الأهلين وبلوغهم الغنى الكامل" وأُنفق في "وجوه الخير" وفي سبيل "ترويج المعارف" وتأسيس المدارس والمعاهد الصناعية، وتقدّم التّربية والتّعليم، وما فيه خير ونفع العموم

تفكّروا مليًّا في هذا البيان المبارك وفي معانيه اللّطيفة المنیرة العدیدة.  إنّ عوامل سلبية أخرى ولّدتها النّزعة المادّيّة والفساد الاقتصاديّ السّائدين في عالم اليوم، بالإضافة إلى العوائق الّتي وضعتها مجموعة من المتعصّبين في طريقكم للاشتغال بعمل من الأعمال وخدمة المجتمع، قد جعلت أتّباع معايير السّلوك البهائيّ فيما يتعلّق بالأمور الماليّة صعبًا وشاقًّا للغاية.  إلّا أنّكم، تأسّيًا بأسلافكم، لا تتقاعسون بالطّبع في هذا المجال، بل تسعون بعزمٍ لا يلين وإخلاص عميق في مدِّ يد العون لبعضكم البعض، وخاصة للأطفال الأعزّاء في محيط العائلة، حتّى يشكّلوا نظرتهم إلى الثّروة والغنى وفقًا للنّصائح والهداية الإلهيّة.  إنّ جيل الشّباب يُحسنون صُنعًا إن هم تعمّقوا في البيان المبارك الّذي جعل من سعي الفرد بجدّ واجتهاد وشمول الفضل الإلهيّ شرطين ليكون اكتساب الثّروة أمرًا ممدوحًا، وتفكروا في الفرق بين الثّروة المكتسبة عن طريق الجهد الشّخصيّ في مجالات الصّناعة والزّراعة والتّجارة والفنون وأمثالها، والثّروة الّتي تُكتسب بدون بذل أيّ جهد أو بالطّرق غير المشرّفة، وتمعّنوا في الآثار المترتّبة على كلّ منهما في النّموّ والتّطوّر الرّوحانيّ للفرد وتقدّم المجتمع، وسألوا أنفسهم عن أيّ طريق يكون الحصول على الدّخل وكسب الثّروة جاذبًا للتأييدات الإلهيّة.  وسوف يتبيّنون، دون شك، بأنَّ التّحلّي بالفضائل الأخلاقيّة مثل الصّدق والأمانة والكرم وحب المساعدة والعدل والعناية والاهتمام بالآخرين، وكذلك النّظر إلى الثّروة كوسيلة لإيجاد عالم أفضل، كلّ ذلك سببٌ لجذب العنايات الإلهيّة وتحقيق السّعادة في الدّنيا والآخرة في نهاية المطاف. 

إنّ التّمسك بمبدأ العدل في كسب الثّروة، وهو مبدأ يؤيّده الكثيرون، يتمّ التّعبير عنه بدرجات متفاوتة على مستويات مختلفة.  ففي أحد المستويات يعني مثلًا أنَّ كلًّا من المستخدَم والمستخدِم بامتثالهما للقوانين والأعراف السّائدة الّتي  تنظّم عملهما، يجب أن يتّخذا من الأمانة والصّدق والنّزاهة نبراسًا لهما في جميع الأمور.  ولكن، في مستوى آخر، إذا أردنا اكتساب فهم للمضامين الأعمق للعدالة، ينبغي إيلاء الاهتمام بالشّرطين الآخرين المذكورين سابقًا لممدوحيّة الثّروة وشرعيّة الحصول عليها، وإعادة تقييم الأعراف والمعايير الحاليّة في ضوئهما.  فعلى سبيل المثال، تستحقّ العلاقة القائمة بين معدّل الأجور القانونيّة اليوم وتكاليف المعيشة، وقيمة ما يجنيه العمّال من عملهم والّذين كما يتفضّل حضرة عبد البهاء يستحقّون المشاركة في الأرباح المكتسبة من تعبّهم وكدِّهم، تستحق اهتمامًا ودراسة خاصة.  إن التّباين الفاحش وغير المبرّر في كثير من الأحيان بين تكلفة إنتاج سلعةٍ وسعرها في السّوق يستحقّ الكثير من التّفكير أيضًا.  كما أنَّ كسب المال بتدابير يتحقّق فيها حصول الجمهور على الثّروة و"بلوغهم الغنى الكامل" هو موضوع أساسيّ أيضًا ويستحق دراسة وتأمّلًا جدّيَّين.  بالإضافة إلى ذلك، ومن خلال هذا التّفكير والتّقييم والبحث لا بدّ وأن يتكشّف أكثر فأكثر أنّ جمع الثّروة بطرق مثل استغلال الآخرين، والمضاربة والاحتكار، أو إنتاج سلع مدمّرة وما يروّج العنف والفسق والفجور بين جمهور النّاس، هو أمر مذموم وغير مقبول على الإطلاق. 

إنّ العالم البشريّ واقع اليوم في قبضة قوى مدمّرة مؤذية.  فالمدرسة المادّيّة الّتي تجذّرت في الغرب قد انتشرت الآن في جميع أنحاء العالم مولّدة تحت شعار إيجاد اقتصاد عالميّ قويّ وتوفير الرّخاء للجنس البشريّ، ثقافة الاستهلاك، وهي ثقافة تروّج وتُعزّز بكلّ حذق وبراعة عادة الاستهلاك الّتي تسعى بمهارة لإشباع أكثر الرّغبات أنانيّة ودناءة في الإنسان، وتُشجّع صرف الأموال حتّى ينتشر ويتفاقم النّزاع في المجتمع.  تفكّروا في مدى سخف هذه النّظرة العالميّة.  وفي الوقت نفسه يستمرّ مدّ متصاعد من الفلسفة الدّينيّة الأصوليّة بإدراكها الضّيّق إلى أبعد الحدود للدّين والرّوحانيّة في كسب الزّخم لتُهدّد بغمر العالم بفلسفة دوغماتيّة متصلّبة.  فهي تروّج معتقدات دينيّة جوفاء، وفي أقصى تطرّف لأشكالها تشترط خلاص العالم من المشاكل القائمة بوقوع أحداث خرافيّة وغير معقولة.  فهي من ناحية تروج التّقوى ظاهريًّا، ومن ناحية أخرى تشيع الجشع والابتزاز والظّلم والإجحاف في المجتمع عمليًّا.  ومن النّتائج والآثار المؤسفة لهذه القوى المدمّرة الارتباك الشّديد الّذي يشعر به الشّباب، والحسّ باليأس الّذي يعمّ صفوف أولئك الّذين يعوّل على قواهم الفاعلة تقدّم المجتمع، وبروز الأمراض الاجتماعيّة الخارجة عن حدّ الإحصاء.  إنَّ مفتاح النّجاة من هذه المصائب الاجتماعيّة في يد جيل الشّباب الّذي يؤمن بنبل وشرف نوع الإنسان ويتوق إلى فهم الهدف الحقيقيّ لعالم الوجود، ويفرّق بين التّديُّن الحقيقيّ والخرافات الدّينيّة المحضّة، ويعتبر العلم والدّين نظامَين مستقلّين للمعرفة ولكنّهما متكاملان ومحفِّزان لتقدّم البشريّة، ويتقبّل بكلّ ترحاب مبدأ الوحدة في التّنوّع والتّعدّد لإدراكه جماله وقوّته.  ويرى سعادته وعزّته في خدمة إخوانه المواطنين وغيرهم من أهل العالم، ويشترط لأن تكون الثّروة ممدوحة ومقبولة أن يكون كسبها عادلًا وأن يتمّ إنفاقها في وجوه الخير وفي سبيل ترويج المعارف والعلوم وخدمة الصّالح العام.  هكذا ينبغي على الشّباب الأعزّاء أن يهيئوا أنفسهم لتحمّل المسؤوليّات الجسام القادمة، وهكذا يضمنون سلامتهم وحصانتهم ضدّ أضرار الطّمع والجشع الّذي يحيط بهم، وفي الوقت نفسه، يسعون بجدّ وشوق لتحقيق أهدافهم السّامية المجيدة. 

نأمل أن تكون مداولاتكم ومشاوراتكم مع الأصدقاء والجيران والأقارب وزملاء العمل حول النّقاط المذكورة أعلاه سببًا في ازدياد قدرتكم على المساعدة في تحسين الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة في وطنكم العزيز وتوفير أسباب الرّاحة والرّفاه العامّ.  نتوجّه بالدّعاء في العتبات المقدّسة العليا من أجل تقدّم ورقيّ شعب إيران الشّريف والمزيد من النّجاح والتّوفيق لكم أيّها الأعزّاء.

[التّوقيع:  بيت العدل الأعظم]