[ترجمة]

23 كانون الأوّل/ ديسمبر 2008

[إلى أحد الأحبّاء]

أيّها الحبيب العزيز،

استلم بيت العدل الأعظم رسالتك بالبريد الإلكترونيّ المؤرّخة 26 حزيران/يونيو 2008، والّتي تستفسر فيها عن المدى الّذي يمكن للفرد البهائيّ، خاصّة عالم الاجتماع أو الأكاديميّ، من التّحدّث علنًا عن القضايا الاجتماعيّة والسّياسيّة.  وقد طُلب منّا أن ننقل إليك الرّد التّالي.

أنت بطبيعة الحال تدرك جيّدًا مبدأ عدم التّدخّل في السّياسة الّذي ذكره حضرة شوقي أفندي.  على البهائيّين "أن ينأوا بأنفسهم قولًا وفعلًا عن المشاركة في العمل السّياسيّ في بلدانهم، والتّدخّل في سياسة حكوماتهم وفي خطط وبرامج الأحزاب أو الفصائل."  ثمّ أنّ عليهم "عدم توجيه أيّ لوم أو الانحياز إلى أيّ طرف أو تأييد أيّ هدف عدائيّ، أو الانتماء لأيّ نظام يضرّ بمصالح أمر الله.  عليهم أن يتجنّبوا الوقوع في التّورّطات والخصومات الّتي تلازم عمل السّياسيّ".  كما ينبغي عليهم أن "يترفّعوا عن جميع أشكال الاهتمام الحصريّ بفريق ما والتّحزّب، والمجادلات العقيمة، والحسابات التّافهة، والشّغف العابر وهي برمّتها تهيج وجه عالم دائم التّغيير وتشغل اهتمامه."  لا بدّ من التّمسّك التّامّ بهذا المبدأ الّذي يتطلّب الابتعاد التّامّ عن أيّ نوع من النّشاط السّياسيّ الحزبيّ.  ومع ذلك، وبينما يتطوّر المجتمع وعملياته السّياسيّة، وينمو الأمر المبارك، سوف يزداد التّفاعل بينهما تعقيدًا.  وسوف يقدّم بيت العدل على مدى الأيّام التّوجيهات الضّروريّة لتطبيق هذا المبدأ بالنّسبة للأوضاع السّائدة في حينه. 

إنّ مصطلح "السّياسة" قد يحمل معنى واسعًا، وبالتّالي فإنّه من الضّروريّ التّمييز بين النّشاط السّياسيّ الحزبيّ والحوار والعمل اللّذيْن يهدفان إلى إحداث تغيير اجتماعيّ بنّاء.  ففي حين تمّ تحريم الأوّل، أُمر العمل بالآخر؛ في الواقع، إنّ الهدف الأساسيّ للجامعة البهائيّة هو التّحوّل الاجتماعيّ.  في "الرّسالة المدنيّة" يبرهن حضرة عبد البهاء بشكل كامل التزام الأمر المبارك بترويج التّغيير الاجتماعيّ دون الدّخول في ميدان السّياسة الحزبيّة.  وهناك كذلك فقرات لا تعدّ ولا تحصى في الآثار البهائيّة تحثّ المؤمنين على المساهمة في إصلاح العالم.  يتفضّل حضرة بهاء الله "اهتمُّوا اهتمامًا عظيمًا بمقتضيات زمنكم، وركِّزوا مداولاتكم حول مطالبه وحاجاته الملحَّة".  كما يحثّ حضرة عبد البهاء الأحبّاء على أن "يمتازوا في جميع فضائل العالم الإنسانيّ–بإخلاصهم وصدقهم، بأمانتهم وولائهم، بثباتهم واستقامتهم، بأعمالهم الخيريّة وخدمتهم للعالم الإنسانيّ، بمحبّتهم لجميع البشر، باتّحادهم ووفاقهم مع جميع النّاس وبمحوهم للتّعصبات وترويجهم للسّلام العامّ."  علاوة على ذلك، يوضّح حضرة شوقي أفندي في رسالة كتبت بالنّيابة عنه، "بقدر ما على الأحبّاء أن يحترسوا من كلّ ما قد يبدو تماثلًا لهم أو للأمر المبارك مع أيّ حزب سياسيّ، بقدر ما عليهم أيضًا الاحتراس من الوقوع في التّطرّف الآخر أيّ الامتناع كليًّا عن المساهمة مع مجموعات تقدّميّة أخرى في المؤتمرات أو اللّجان الّتي تقام لتعزيز بعض الأنشطة الّتي تتّفق اتّفاقًا تامًا مع تعاليمنا."  وفي رسالة أخرى كُتبت بالنّيابة عن حضرته في 1948، عندما كان التّفاوت العنصريّ مشروعًا في قوانين العديد من الولايات الأمريكيّة المتّحدة، يشير حضرته بأنّه ليس هناك "مانع من اشتراك الطّلّاب في كلّ ما يتوافق بكلّ وضوح مع تعاليمنا من قبيل المظاهرات الجامعيّة ضدّ التّعصّبات العرقيّة."  وبناء على ذلك، ينبغي على البهائيّين ألّا يكلّوا قولًا وفعلًا من التّصدّي لطيف من القضايا الاجتماعيّة.

عندما كانت الجامعة البهائيّة صغيرة في الحجم، كانت مساهمتها إزاء الرّفاه الاجتماعيّ بطبيعة الحال محدودة.  وفي عام 1983 أعلن بيت العدل الأعظم بأنّ نموّ أمر الله قد أدّى إلى انخراط أكبر في حياة المجتمع.  فبدأ البهائيّون بالانهماك بشكلّ أكثر منهجيّ في أعمال التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة من خلال نشاطات متفاوتة في التّعقيد.  فالجهود الرّامية إلى المساهمة في التّحوّل الاجتماعيّ تشتمل أيضًا على المشاركة في الحوار العامّ حول قضايا تهمّ البشريّة من قبيل السّلام، محو التّعصّبات بكافّة أشكالها، تمكين الشّباب روحانيًّا وأخلاقيًّا، وترويج العدالة.  وهذان النّوعان من النّشاط أخذا في الازدياد تدريجيًّا على مدى الربع قرن الماضي وسينموان في مداهما ونفوذهما مستقبلًا.

إنّ الجهود المنظّمة للجامعة البهائيّة في هذين المجاليْن قد تعزّزت بمبادرات متنوّعة من قِبَل أفراد الأحبّاء الّذين يعملون في ميادين مختلفة، كمتطوّعين ومهنيّين وخبراء، ليساهمون في إحداث تحوّل اجتماعيّ.  إنّ الطّبيعة المميّزة للمقاربة الّتي ينتهجونها هي تجنّب الصّراع والتّنافس على السّلطة بينما يجهدون في توحيد النّاس في البحث عن المبادئ الأخلاقيّة والرّوحانيّة والتّدابير العمليّة الّتي قد تؤدّي إلى الحلّ العادل للمشاكل الّتي يعاني منها المجتمع.  فالبهائيّون ينظرون إلى البشريّة ككيان واحد لا ينفصل عن بعضه البعض.  فنظام اجتماعيّ مبني على تلبية احتياجات جماعة على حساب جماعة أخرى يؤدّي إلى الظّلم والاجحاف.  وبدلًا عن ذلك، يتمّ تحقيق المصلحة الفُضلى لكلّ جزء من خلال النّظر إلى احتياجاته في سياق خير ورفاه الكلّ.

المشاركة في الحوار والعمل الاجتماعيّ سيتطلّب من البهائيّين في بعض الأحيان أن يكون لهم علاقة بتطوير السّياسة العامّة.  في هذا الصّدد، فإنّ مصطلح "سياسة" بمعنى نهج العمل له معنى واسع كمصطلح "السّياسة".  في حين يمتنع البهائيّون من مناقشة السّياسة المتعلّقة بالعلاقات بين الدّول أو السّياسة الحزبيّة داخل بلدٍ ما، فإنّهم بلا شكّ يساهمون في صياغة السّياسات الّتي تعالج هموم اجتماعيّة محدّدة من قبيل الحفاظ على حقوق المرأة، توسيع نطاق التّعليم الفاعل لجميع الأطفال، والحدّ من انتشار الأمراض السّارية، الحفاظ على البيئة، والقضاء على الغنى الفاحش والفقر المدقع.

من الواضح إذًا كونك بهائيّ ومؤهّل في العلوم السّياسيّة، لديك مجال أوسع لإبداء الرّأي في القضايا الاجتماعيّة.  إلّا أنّه الممكن أيضًا أن تشارك في توليد وتطبيق المعرفة في مجال مؤهّلك بتناول مواضيع سياسيّة الطّابع على نحو أكثر مباشرة.  لا شكّ أنّك مطّلع على التّوجيه العامّ الّذي كُتِبَ بالنّيابة عن حضرة وليّ الأمر، بأنَّ إحدى الطّرق لانتقاد النّظام الاجتماعيّ والسّياسيّ القائم اليوم دون أخذ موقف مؤيّد أو مخالف نظام حكم حاليّ ما هو تقديم تحليل أكثر عمقًا على مستوى النّظريّة السّياسية بدلًا من السّياسة العمليّة.  ثمّ هناك مقاربة أخرى ممكنة وهي أن تساهم في بحث علميّ وبذلك تلقي الأضواء على أوجه النّظر المتباينة للسّعي إلى الوصول إلى فهم مشترك وحلول فعليّة دون الوقوع في متاهات التّأييد والتّعتيم الحزّبي.  يتفضّل حضرة بهاء الله:  "...كلّ أمرٍ سياسيٍّ أنتٌمْ تتكلَّمونَ به كانَ تحتَ كلمةٍ من الكلماتِ الّتي نُزِّلت من جبروتِ بيانهِ العزيزِ المنيع."  لديك الفرصة لأن تستخرج الكنوز من رسالة حضرة بهاء الله ثمّ تعدّها وتقدّمها بطريقة ينجذب لها من يبحثون عن رؤى جديدة.  عليك أن تتعلّم مع الوقت كيف تصل إلى توازن بين المبادئ والأفكار المتأتّية من تعاليم الأمر الّتي تؤمن بأحقيّتها وتلك المتأتّية من ميدان معرفتك.

ستبرز تحدّيات لا محالة.  قد تجد، على سبيل المثال، أنَّ موضوعًا يتعلّق بفعاليّة اجتماعيّة قد تناولته فئات متنافسة في مناظرة سياسيّة، ممّا يتطلب الحكمة لتحديد إمّا تعديل مقاربتك أو ترك الموضوع جانبًا لبعض الوقت.  كما أنَّ هناك حالات قد تقتضي الإمساك عن انتهاز الفرص الّتي قد تدفع بك إلى مناظرة سياسيّة أو انتقاد سياسات حزبيّة للحكومات.  وفي حالات أخرى قد يكون هناك حسّاسيات معينة، كمواضيع تخص بلدان تتعرّض فيها الجامعات البهائيّة إلى شدّة أو الظّلم، عندها قد يخلق التّعليق على هذه المواضيع انطباعًا بأنّ الأحبّاء منشغلون بنشاط سياسيّ ضدّ مصالح حكومة معيّنة.  تبرز نفس هذه الاعتبارات عند تقييم الدّعوات الواردة من وسائل الإعلام للتّعليق على الأمور السّياسيّة القائمة أو الاشتراك في النّقاش حولها.  إنّ محفلك الرّوحانيّ المركزي جاهز لمساعدتك في توضيح مسائل محدّدة إذا لزم الأمر.

كن واثقًا من دعوات بيت العدل الأعظم في العتبات المقدّسة بأن تجذب جهودك المبذولة لعكس مبادىء الأمر المبارك في نشاطاتك المهنيّة بركات وتأيّيدات جمال القدم.

مع التّحيات الحبيّة البهائيّة،

دائرة السكرتارية