[ترجمة]
العمل الاجتماعيّ
ورقة أعدّها مكتب التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة
في المركز البهائيّ العالميّ
26 تشرين الثّاني/نوفمبر 2012
في رسالة الرّضوان لعام 2010 دعا بيت العدل الأعظم البهائيّين في العالم للتّأمّل في ما ستقدّمه جامعاتهم النّامية النّبّاضة بالنّشاط من مساهمات من أجل التّقدّم المادّيّ والرّوحانيّ للمجتمع. وبهذا الصّدد أشار بيت العدل الأعظم إلى عمليّة بناء الجامعة الجارية في العديد من المجموعات الجغرافيّة في أنحاء المعمورة عن طريق النّشاطات الرّئيسيّة المرتبطة بالسّلسلة الحاليّة من الخطط العالميّة. فقد أشارت الرّسالة إلى أنّه "يبدأ نسيج غنيّ لحياة الجامعة في البروز في كلّ مجموعةٍ جغرافيّة عندما تحاك نشاطات العبادة الجماعيّة الّتي تتخلّلها نقاشات تجري في جوّ منزليّ حميم، مع أنشطة توفّر تربية روحانيّة لجميع السّكّان، بالغين، وشبابًا وأطفالًا." واستطردت الرّسالة في شرحها بأنّ "الوعي الاجتماعيّ يزداد بشكل طبيعيّ حينما تتضاعف، على سبيل المثال، النّقاشات المفعمة بالحياة بين الوالدّين بخصوص طموحات أبنائهم وتنبثق مشاريع الخدمة بمبادرةٍ من الشّباب النّاشئ." ثم أدلى بيت العدل الأعظم بالبيان التّالي: " وما إن تصبح الموارد البشريّة متوفّرة بشكل كافٍ في المجموعة الجغرافيّة، ويترسّخ نمط النّموّ فيها، حتّى يصبح بمقدور الجامعة، بل يجب عليها، زيادة انخراطها في المجتمع." وفي وقت لاحق يحدّد بيت العدل الأعظم في الرّسالة نفسها مجال العمل الاجتماعيّ بهذه العبارات:
أنسب تصوّر للعمل الاجتماعيّ هو تشبيهه بطيف يمكن أن يشتمل في مداه على جهود غير رسميّة إلى نوعٍ ما ومحدودة المدّة يقوم بها أفراد أو مجموعات صغيرة من الأحبّاء، إلى برامج تنمية اجتماعيّة واقتصاديّة على درجة عالية من التّعقيد والتّطوّر تنفّذها منظّمات تعمل بهدي من التّعاليم البهائيّة. وبغضّ النّظر عن نطاقه ومستواه، فإنّ العمل الاجتماعيّ برمّته يسعى إلى تطبيق تعاليم الأمر المبارك ومبادئه لتحسين بعض جوانب الحياة الاجتماعيّة أو الاقتصاديّة لسّكّان منطقة ما، ولكن على نحوٍ متواضع.
للإسهام في المناقشات الجارية على كافّة المستويات في الجامعة البهائيّة حول طبيعة الانخراط في العمل الاجتماعيّ، أعددنا هذه الورقة استنادًا على الخبرة المكتسبة على مدى سنوات في ميدان التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة. إنّ البصائر المعروضة هنا مستخلصة من مساعٍ تنمويّة معقّدة نسبيًّا، إلّا أنّها تلقي الضّوء على خصائص المبادرات عبر طيف العمل بأكمله، حيث إنّ جميع مبادرات العمل الاجتماعيّ بأنواعها إنّما تعتمد على مجموعة مشتركة من المفاهيم والمبادئ والأساليب والمقاربات بغضّ النّظر عن حجمها.
القسم الأوّل: انخراط العالم البهائيّ في التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة
إنّ المساعي الّتي تقوم بها الجامعة البهائيّة في أنحاء العالم، والّتي يمكن رؤيتها من منطلق عددٍ من عمليّات متفاعلة، كإثراء الجانب الرّوحيّ لدى الفرد، وتطوير الجامعات المحلّيّة والمركزيّة، وإنضاج المؤسسات الإداريّة، على سبيل المثال لا الحصر، إنّما ترجع في أصولها إلى أيّام حضرة بهاء اللّه نفسه، واستجمعت قوّة خلال ولايتي حضرة عبد البهاء وحضرة شوقي أفندي. ومضت هذه العمليّات مستمرّة في تقدّمها بثبات في ظلّ هداية بيت العدل الأعظم: اتّسع مدى تأثيرها بالتّدريج وأضيفت إلى عملها أبعادٌ جديدة؛ من ضمنها التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة. هذه العمليّة الخاصّة والّتي تمّت متابعتها بشكلٍ ملحوظ من خلال أنشطة تعليميّة متنوّعة على مدار السّنين قد تلقّت زخمًا كبيرًا عام 1983 عندما طلب بيت العدل الأعظم في رسالة مؤرّخة 20 تشرين الأوّل/أكتوبر إيلاء "اهتمام منهجيّ" بهذا المجال من النّشاط عقب التّوسّع السّريع للجامعة البهائيّة خلال سبعينيّات القرن الماضي.
أكّدت رسالة عام 1983 على أنّ التّقدّم في ميدان التّنمية يعتمد إلى حدٍّ كبير على البوادر الطّبيعيّة في مستوى القاعدة للجامعة. كما أعلنت عن تأسيس مكتب التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة في المركز البهائيّ العالميّ "لتعزيز وتنسيق نشاطات الأحبّاء" في هذا الميدان. سعى البهائيّون في جميع القارّات لتلبية النّداء الّذي أطلقته الرّسالة بطرق شتّى، وشكّلت السّنوات العشر التّالية فترة من التّجربة والاختبار اتّسمت بالحماس والتّردّد، والتّخطيط المدروس والعمل العشوائيّ، والإنجازات والانتكاسات في آنٍ معًا. وبينما وجدت معظم المشاريع أنّ من الصّعب تجنّب أنماط التّنمية السّائدة في العالم، إلّا أنّ بعضها قدّم لمحات من نماذج واعدة للعمل. إذن، خرجت الجامعة البهائيّة من هذا العقد الأوّليّ من النّشاط المتنوّع وقد ترسّخ عملها في مجال التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة باعتباره أحد سمات حياتها العضويّة وتعزّزت قدرتها على تشكيل مقاربة بهائيّة واضحة المعالم بمرور الوقت.
وفي أيلول/سبتمبر 1993، أُعدّت في المركز البهائيّ العالميّ وثيقة بعنوان "التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة البهائيّة: آفاق المستقبل"، واعتمدها بيت العدل الأعظم لاستخدامها من قبل مكتب التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة في توجيه وهداية العمل في هذا الميدان. وقد مهّدت هذه الوثيقة الطّريق لنشاطات الأعوام العشرة التّالية وما بعدها. وشرحت بإسهاب العديد من المظاهر المشتركة بين كافّة هذه الجهود، استنادًا إلى الكمّ الكبير من الخبرات الّتي تراكمت على مدى السّنوات العشر الماضية. نتيجة لذلك نما وعيٌ عالميّ بطبيعة التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة البهائيّة على نحوٍ ملحوظ خلال هذه الفترة، كما بدأت بالتّشكّل مقاربةٌ على درجة عالية من التّناغم وأكثر منهجيّة. واستدعت الرّؤية الّتي برزت في ذلك الوقت تعزيز أنشطة تنمويّة على مستويات مختلفة من التّعقيد. وكانت أكثر المسائل أهمّيّة بالنّسبة لهذه الرّؤية مسألة بناء القدرة. إنّ المفهوم المتمثّل في أنّ الأنشطة يجب أن تبدأ على نطاق متواضع، وتزداد تعقيدًا فقط تماشيًا مع الموارد البشريّة المتاحة، قد أخذ يؤثّر بالتّدريج على الأفكار والممارسات المتعلّقة بالتّنمية.
في عام 2001 قدّم بيت العدل الأعظم للعالم البهائيّ مفهوم المجموعة الجغرافيّة، وهي بنية جغرافيّة تُعرف عمومًا بأنّها مجموعة من القرى أو مدينة مع ضواحيها، تهدف إلى المساعدة في التّخطيط وتنفيذ الأنشطة المرتبطة بحياة الجامعة. إنّ ما مكّن من القيام بهذه الخطوة تأسيس المعاهد التّدريبيّة في المستويين القطريّ والإقليميّ خلال تسعينيّات القرن الماضي، والّتي استَخدمت نظامًا للتّعليم عن بُعد للوصول إلى أعداد غفيرة، وسلسلة من الدّورات صُمّمت لزيادة القدرة على الخدمة. وقد شجّع بيت العدل الأعظم العالم البهائيّ على توسيع نطاق هذا النّظام تدريجيًّا ليشمل مجموعات جغرافيّة أكثر فأكثر من أجل تعزيز تقدّمها الثّابت، واضعًا أوّلًا الأُسس الرّوحانيّة القويّة الّتي تُبنى عليها جامعة نابضة بالحياة. فالجهود المبذولة في المجموعة الجغرافيّة يجب أن تركِّز بدايةً على مضاعفة نشاطات أساسيّة محدّدة ومفتوحة لجميع السّكّان، ولكن من أجل تنمية القدرة الجماعيّة اللّازمة للتّصدّي، في الوقت المناسب، لمختلف جوانب الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة للسّكّان أيضًا.
في العقد التّالي، أصبح تصوّر العمل الاجتماعيّ يتمّ على نحوٍ متزايدٍ إذًا ضمن سياق المجموعة الجغرافيّة. وهكذا فإنّ مفهوم العمل الاجتماعيّ في مستوى القاعدة، الّذي أخذ بالبروز، قد أصبح قادرًا على اتخاذ بُعدٍ جماعيّ أكثر وضوحًا ممّا مضى. وخلال الفترة نفسها أحرز مكتب التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة تقدّمًا ملحوظًا في محاولاته للمساعدة في منهجة الخبرة المتأتّية عن برامج خاصّة واعدة، وتعلُّم الهياكل والأساليب اللّازمة لتمكين الجامعات في العالم ليس للاستفادة منها فحسب، بل للمساهمة في تقدّمها إلى مدًى أبعد أيضًا. واليوم، بتأسيس مكاتب قاريّة وشبه قاريّة، يخدم كلٌّ منها إمّا؛ شبكةً من المواقع لنشر التّعلّم عن برنامج تمكين الشّباب النّاشئ، أو مجموعة من المنظّمات الّتي تعمل بهَدْيِ من التّعاليم البهائيّة والمكرَّسة لتعزيز بعض البرامج التّربويّة المعيّنة الأخرى، يمكن رؤية الثّمار الأولى لجهود مكتب التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة في إنشاء هياكل في أنحاء العالم لتعزيز القدرة الجماعيّة من أجل هذه الغاية. وتأكيدًا على أهمّيّة ما تمّ إنجازه حتّى الآن، كتب بيت العدل الأعظم في رسالته المؤرّخة 28 كانون الأول/ديسمبر 2010:
وفي نهاية المطاف، فإنّ قوّة عمليّة المعهد في القرية، والقدرات المُحَسَّنة الّتي عزّزتها لدى الأفراد، قد تُمكّن الأحبّاء من الاستفادة من الأساليب والبرامج الّتي ثبُتت فاعليّتها، والّتي تمّ تطويرها من قِبَل أيٍّ من المنظّمات الّتي تعمل بهَدي من التّعاليم البهائيّة والّتي تمّ تقديمها في المجموعة الجغرافيّة باقتراحٍ ودعم من مكتبنا للتّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة.
وهكذا، فإنّ الانجازات الّتي أُحرزت في ميدان التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة على مدى العقود الثّلاثة الماضية، المقرونة بالارتفاع الثّابت في الموارد البشريّة في المجموعة الجغرافيّة في كلّ مكان، قد أوصلت العالم البهائيّ إلى مرحلة جديدة في مجهوداته الرّامية للانخراط في العمل الاجتماعيّ على مستوى القاعدة.
القسم الثّاني: إطارٌ للتّعلّم الجماعيّ
إنّ نمط العمل الّذي تمّ تبنّيه في مجال التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة، على غرار ميادين أخرى من النّشاط البهائيّ، إنّما هو التّعلّم بالعمل. فعندما تُبذل الجهود بنهجٍ تعلّميّ، متّسم بعمليّة مستمرّة من العمل، والمراجعة والتّقييم، والمشورة، والدّراسة، يُعاد فحص الرُّؤَى والاستراتيجيّات مرارًا وتكرارًا. وبينما يتمّ إنجاز المهام، وإزالة العوائق، ومضاعفة الموارد، واستخلاص العِبَر والدّروس، يجري تعديل الأهداف والأساليب. إنّ عمليّة التّعلُّم الّتي توجّهها تدابير مؤسّسيّة مناسبة، تتكشّف بطريقة تشبه نموّ وتمايُز الكائن الحيّ. إذ يتمّ تجنّب التّغيير العشوائيّ، والحفاظ على استمراريّة العمل.
بيّن بيت العدل الأعظم في عدّة مناسبات، في إشارته إلى الطّريقة الّتي سينخرط بها أولئك الخادمون في مستوى المجموعة الجغرافيّة أكثر فأكثر في حياة المجتمع، بأنّه: "في جميع المقاربات الّتي تنتهجونها والأساليب الّتي تتبنّونها والأدوات الّتي تستخدمونها، عليكم أن تُحرِزوا نفس الدّرجة من الاتّساق الّذي يميّز نمط النّموّ الّذي يأخذ طريقه الآن." كيفية ظهور البوادر الأولى في ميدان العمل الاجتماعيّ في مجموعة جغرافيّة تلو الأخرى حيث العمليّة المزدوجة من التّوسّع والاستحكام نشِطة وقويّة، ومدى الرّعاية والتّوجيه المطلوبة من قبل المؤسّسات، والطّرق الّتي ستقوّي بها مساعي العمل الاجتماعيّ نسيج حياة الجامعة، هذه كلّها من جملة القضايا الّتي ستخضع لعمليّة تعلُّمٍ مكثّفة أكثر فأكثر في السّنوات القادمة.
من الواضح أنّ تحقيق درجات أعلى من الاتّساق تدريجيًّا، داخل المجالات الواسعة المترابطة الّتي تنخرط فيها الجامعة البهائيّة وفيما بينها، يعتبر شاغلًا هامًّا. فهو يوحي بأنّ مجالات النّشاط يجب أن تكون متمّمة لبعضها البعض ومتكاملة ويدعم كلّ منها الآخر. علاوة على ذلك، يقتضي ضمنًا وجود إطار مشترك شامل يعطي للأنشطة شكلًا ويتطوّر ليصبح أكثر تفصيلًا مع تراكم الخبرة. وبالطّبع، لن يكون لعناصر الإطار المتعدّدة تعبيرٌ موحّد في جميع مجالات العمل. وفيما يتعلّق بأيّ مجالٍ معيّن من مجالات النّشاط، تتقدّم بعض العناصر لتحتلّ الواجهة بينما يعمل البعض الآخر في الخلفيّة فقط. تصف الأقسام الثّلاثة التّالية من هذه الوثيقة بعضًا من هذه العناصر، الّتي تمّ تحديدها على مدى سنوات عديدة من الخبرة، وقد وجدت لها تعبيرًا في العمل الاجتماعيّ.
من العناصر الأوثق صلة بالعمل الاجتماعيّ بياناتٌ تحدّد خصائص التّقدّم، بأنّ للمدنيّة بُعدين ماديّ وروحانيّ في آنٍ معًا، وأنّ البشريّة تقف على عتبة بلوغها الجماعيّ، وأنّ هناك قوًى هدّامة وأخرى بنّاءة تعمل في العالم من شأنها أن تدفع الإنسانيّة في طريقها نحو بلوغها الكامل، وأنّ العلاقات الضّروريّة لاستدامة المجتمع يجب أن يُعاد تشكيلها على ضوء ظهور حضرة بهاء اللّه، وأنّ التّغيير المطلوب يجب أن يحدث في الوعي الإنسانيّ وفي هيكل المؤسّسات الاجتماعيّة في آنٍ معًا. إنّ بيانات كهذه تلقي الضّوء على طبيعة الجهود البهائيّة في التّنمية، وهو موضوع سيتمّ تناوله في القسم الثّالث من هذه الوثيقة.
وهناك عناصر أخرى تتناول طبيعة العمل الاجتماعيّ مستمدّةٌ من منظورٍ خاصّ يتعلّق بدور المعرفة في تنمية المجتمع. ومن بين القضايا ذات الصّلة: تكامل العلم والدّين، وإلزاميّة التّربية الرّوحانيّة والمادّيّة، وتأثير القيم المُلازمة للتّكنولوجيا في تنظيم المجتمع، وعلاقة التّكنولوجيا المناسِبة بالتّقدّم الاجتماعيّ. إنّ لوجهات النّظر المتعلّقة بتوليد المعرفة وتطبيقها آثارًا لا تتعلّق بطبيعة التّنمية فحسب، بل بمسألة المنهجيّة المتّبعة أيضًا. وهو موضوع القسم الرّابع. إنّ مناقشات القسمين الثّالث والرّابع تحوي ضمنًا أيضًا مجموعة أخرى من عناصر الإطار، أي تلك البيانات الّتي تعمل على تحليل مفاهيم من قبيل: الفرديّة، والقوّة، والسّلطة، والرّاحة الشّخصيّة، والخدمة الخالصة، والعمل، والامتياز.
وختامًا، هناك عناصر تقع في صُلب الإطار المفاهيميّ للعمل الاجتماعيّ تصف معتقدات تتعلّق بقضايا أساسيّة حول الوجود من قبيل: طبيعة الإنسان، والغاية من الحياة، ووحدة الجنس البشريّ، والمساواة بين الرّجل والمرأة. وبينما تمسّ هذه القضايا قناعات راسخة غير قابلة للتّغيير بالنّسبة للبهائيّين، إلّا أنّها غير جامدة، أي أنّ طريقة فهمها والتّعبير عنها في سياقات مختلفة تتطوّر مع مرور الوقت. إنّ العديد من هذه القناعات الرّاسخة تشكّل أساس المناقشات الواردة بالتّفصيل في هذه الوثيقة؛ وقد تمّ تناول بعضها بشكلٍ صريح في القسم الخامس من أجل توضيح آثارها على أعمال التّنمية.
القسم الثّالث: طبيعة التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة البهائيّة
يسعى النّشاط البهائيّ في مجال التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة إلى تعزيز كلّ ما فيه خير وصلاح النّاس من مختلف المشارب والمنابت بغضّ النّظر عن معتقداتهم وأصولهم. إنّه يمثّل الجهود الّتي تبذلها الجامعة البهائيّة لإحداث تغيير اجتماعيّ بنّاء، بينما تتعلّم تطبيق تعاليم أمر الله، بالإضافة إلى المعرفة المتراكمة المكتسبة في مختلف ميادين المساعي الإنسانيّة، على الواقع الاجتماعيّ. فليس هدفها الإعلان عن دين اللّه، ولا أن تكون أداةً للتّحوُّل الدّيني. والفقرات المُدرجة تاليًا هي مناقشة لبعض عناصر الإطار المفاهيميّ الّتي تساعد على تحديد طبيعته.
- الاتّساق بين الرّوحانيّات والمادّيّات
إنّ استكشاف طبيعة العمل الاجتماعيّ من منظور بهائيّ، لا بدّ وأن يضعه بالضّرورة في السّياق الواسع لتقدّم المدنيّة. فمدنيّة عالميّة مزدهرة مادّيًّا وروحانيًّا في آنٍ معًا، والّتي تمثّل المرحلة المُقبلة من عمليّة نشوءٍ وتطوّرٍ اجتماعيّ تستغرق آلاف السّنين، تمنحنا مفهومًا للتّاريخ يهب كلّ بادرة من بوادر العمل الاجتماعيّ هدفًا مميّزًا: تعزيز الرّخاء الحقيقيّ ببعديه الرّوحانيّ والمادّيّ بين سكّان الكوكب على اختلاف أنواعهم وتعدُّدها. فهناك إذًا مفهوم ذو أهمّيّة حيويّة وهو ضرورة تحقيق اتّساق ديناميكيّ بين المتطلّبات العمليّة والرّوحانيّة للحياة. يذكر حضرة عبد البهاء أنّه بينما "المدنيّة المادّيّة هي إحدى وسائل ترقّي العالم الإنسانيّ" إلّا أنّه ما لم "تنضمّ إليها المدنيّة الإلهيّة، لن تتحقّق النّتيجة المرجوّة الّتي هي سعادة البشريّة". ويتابع حضرته:
المدنيّة المادّيّة بمثابة الزّجاج والمدنيّة الإلهيّة بمثابة السّراج، والزّجاج دون السّراج مظلم. المدنيّة المادّيّة بمثابة الجسم، فمهما كان هذا الجسم في غاية الطّراوة واللّطافة والجمال إلّا إنّه ميّت، والمدنيّة الإلهيّة بمثابة الرّوح. وهذا الجسم حيّ بهذه الرّوح وإلّا سيكون جثّة هامدة. إذن أصبح معلومًا أنّ العالم الإنسانيّ بحاجة إلى نفثات الرّوح القدس، ومن دون هذه الرّوح يكون العالم الإنسانيّ ميّتًا. ومن دون هذا النّور يكون العالم الإنسانيّ ظلامًا حالكًا.
إنّ تحقيق الاتّساق بين الرّوحانيّات والمادّيّات لا يعني التّقليل من شأن الأهداف المادّيّة للتّنمية، ومع ذلك فإنّه يتطلّب رفض مقاربات التّنمية الّتي تعرّفها على أنّها نقل القناعات الأيديولوجيّة، والهياكل الاجتماعيّة، والممارسات الاقتصاديّة، وأنماط الحُكم، وفي المحصّلة النّهائيّة، أنماط الحياة نفسها، السّائدة في مناطق صناعيّة كبرى معيّنة في العالم، إلى جميع المجتمعات. وعندما يؤخَذُ في الاعتبار البُعدان المادّيّ والرّوحانيّ لحياة الجامعة، ويوجَّهُ الاهتمام اللّازم للمعرفة العلميّة والرّوحانيّة، يتمّ تجنّب الميل إلى تقليص التّنمية لتصبح مجرّد استهلاكٍ للسّلع والخدمات واستخدامٍ ساذجٍ لحُزم تكنولوجيّة. فالمعرفة العلميّة، إذا أخذناها فقط كمثالٍ بسيط، إنّما تساعد أعضاء الجامعة على تحليل الآثار المادّيّة والاجتماعيّة المترتّبة على عرض تكنولوجيّ، فلنقُل مثلًا تأثيره على البيئة، والبصيرة الرّوحانيّة تؤدّي إلى بروز أمور أخلاقيّة أساسيّة تدعم التّناغم الاجتماعيّ وتضمن تسخير التّكنولوجيا لخدمة الصّالح العام. هذان المصدران للمعرفة معًا يُطلِقان جذور الحوافز لدى الأفراد والجامعات وهو أمرٌ ضروريّ للغاية للتّحرّر من ربقة السّلبّية، ويجعلان بمقدورهم كشف فِخاخ النّزعة الاستهلاكيّة.
ومع اعتراف العالم بأسره الآن بتلك الصّلة الوثيقة بين المعرفة العلميّة وجهود التّنمية، يبدو أنّ هناك قدرًا أقلّ من الاتّفاق على الدّور الّذي يجب أن يلعبه الدّين. فغالبًا ما تحمل وجهاتُ النّظر حول الدّين معها أفكار الانقسام، والنّزاع، والقمع، مولّدةً بذلك إحجامًا عن اللّجوء إلى الدّين كمصدر للمعرفة – حتّى بين أولئك الّذين يشكّكون في مدى كفاية المقاربات المادّيّة البحتة. ومن المثير للاهتمام، أنّ التّقدير الكبير الّذي يتمتّع به العلم لا يعني بالضّرورة أن تكون ممارسته وغايته مفهومتان فهمًا جيّدًا. كما أنّ معناه الضّمنيّ مشوبٌ بسوء الفهم أيضًا. وغالبًا ما يتمّ تصوّره على أنّه استخدام لتقنيات وصيغ معيّنة كما لو أنّها تُفضي بطريقة سحريّة إلى هذه النّتيجة أو تلك. فلا غرابة إذًا في أنّ ما يُعتبر معرفةً دينيّة لا يتوافق مع العلم، كما أنّ الكثير ممّا يُنشر باسم العلم ينكر القدرات الرّوحانيّة الّتي يتعهّدها الدّين.
فالعمل الاجتماعيّ، مهما كان حجمه أو درجة تعقيده، يجب أن يسعى جاهدًا ليبقى خاليًا من المفاهيم المبسّطة والمشوّهة للعلم والدّين. وتحقيقًا لهذه الغاية، يجب تجنّب ثنائيّة وهميّة بين العقل والإيمان، ثنائيّة تحصر العقل بعالم الأدلّة التّجريبيّة والحجج المنطقيّة وتربط الإيمان بالخرافات والفكر غير العقلانيّ. إنّ عمليّة التّنمية يجب أن تكون منطقيّة ومنهجيّة، وتشمل على سبيل المثال، المقدرة العلميّة على الملاحظة، والقياس، واختبار الأفكار بدقّة، وفي الوقت نفسه تكون على درجة كبيرة من الوعي بالإيمان والمعتقدات الرّوحانيّة. وبكلمات حضرة عبد البهاء "يشتمل الإيمان على المعرفة والقيام بالأعمال الصّالحة." ويمكن فهم الإيمان والعقل على أفضل وجه باعتبارهما صفتين للرّوح الإنسانيّ يمكن بواسطتهما اكتساب البصائر والمعرفة عن البعدين المادّيّ والروحانيّ للوجود، ويجعلان من الممكن إدراك القوى والقدرات الكامنة في الأفراد والبشريّة جمعاء، وتمكّنان النّاس من العمل على إطلاق هذه الطّاقات والإمكانات.
- المشاركة
إنّ مدنيّةً تليق بإنسانيّةٍ بلغت سنّ الرّشد، بعد أن اجتازت المراحل السّابقة من التّطوّر الاجتماعيّ، لن تنشأ بجهود مجموعة مختارة من الأمم أو حتّى بفضل شبكة من الوكالات القطريّة والعالميّة، بل حريٌّ بالبشريّة جمعاء أن تواجه هذا التّحدّي. فليس لكلّ فرد من الأسرة البشريّة الحقّ في الانتفاع من مدنيّة مزدهرة ماديًّا وروحانيًّا فحسب، بل يترتّب عليه واجب الإسهام في بنائها أيضًا. فالعمل الاجتماعيّ إذن يجب أن يقوم على مبدأ المشاركة العموميّة.
إنّ القضايا المتعلّقة بالمشاركة قد نوقشت مطوّلًا في أدبيّات التّنمية، إلّا أنّه من النّاحيتين النّظريّة والعمليّة غالبًا ما تمّت مقاربة هذا المبدأ الحيويّ على المستوى التّقني، مثال على ذلك، من خلال استخدام المسوحات ومجموعات التّركيز. مثل هذه الأدوات لها بالطّبع مزاياها، كما هو الحال مع الجهود الأكثر طموحًا والّتي تهدف إلى زيادة المشاركة في العمليّات السّياسيّة أو تقديم التّدريب للمستفيدين من الخدمات الّتي تقدّمها أيٌّ من المنظّمات الحكوميّة أو غير الحكوميّة. مع ذلك، تبدو هذه التّدابير قاصرة عن تحقيق نوعيّة المشاركة الّتي تمّ تصوّرها أعلاه. ويظهر أنّ المطلوب في أيّ إقليم أو منطقة أو مجموعة جغرافيّة هو انخراط عددٍ متنامٍ من السّكّان في عمليّة تعلُّمٍ جماعيّة، عمليّةٍ تركّز على طبيعة وديناميكيّة طريقٍ يُفضي إلى التّقدّم المادّيّ والرّوحانيّ لقراهم أو أحيائهم. وستسمح مثل هذه العمليّة لمشاركيها بالانخراط في توليد المعرفة وتطبيقها ونشرها، وهي القوّة الأكثر فعاليّة، ولا غنًى عنها في تقدّم المدنيّة.
في هذا الصّدد، من المهم إدراك أنّ تطبيق المعرفة الموجودة ونشرها يرافقهما دائمًا توليد معرفة جديدة، يتّخذ الكثير منها شكل بصائر ورؤى تُكتسب من خلال التّجربة. وهنا فإنّ منهجة التّعلّم تغدو أمرًا بالغ الأهمّيّة. عندما تبدأ مجموعة من النّاس يعملون على مستوى القاعدة باكتساب الخبرة في العمل الاجتماعيّ، فإنّ الدّروس الأولى المُستقاة قد تشمل أكثر بقليل من مجرّد قصص عرضيّة وحكايات وروايات شخصيّة. وستبرز بمرور الوقت أنماطٌ يمكن توثيقها وتحليلها بدقّة. ولتسهيل منهجة المعرفة، يجب وضع هياكل مناسبة على المستوى المحلّيّ، ومن بينها مؤسّسات ووكالات مُنحت السّلطة لحماية سلامة عمليّة التّعلّم، وضمان عدم تقليصها إلى رأي أو مجرّد مجموعة من التّجارب المتنوّعة، وباختصار، ضمان أنّ معرفة حقيقيّة قد تولّدت. وبهذا الخصوص فإنّ السّلطة الممنوحة لمؤسّسات النّظام الإداريّ العاملة على مستوى القاعدة للتّوفيق بين الإرادة الفرديّة والإرادة الجماعيّة ستَمنح الجامعة البهائيّة قدرة فائقة لرعاية المشاركة.
ومهما كانت عمليّة التّعلّم على المستوى المحلّيّ مهمّة وأساسيّة، ستبقى محدودة في تأثيرها ما لم ترتبط بعمليّة عالميّة تُعنى وتهتمّ بالازدهار المادّيّ والرّوحانيّ للبشريّة ككلّ. فالهياكل مطلوبة إذًا على جميع المستويات من المحلّيّ وحتى العالميّ لتّسهيل التّعلّم عن موضوع التّنمية. وعلى المستوى العالميّ فإنّ تعلّمًا كهذا يستدعي درجة من التّصوّر المفاهيميّ تأخذ بالحسبان تلك العمليّات الأوسع من التّغيير العالميّ الجارية حاليًّا، وتعمل على ضبط الاتّجاه العام للأنشطة التّنمويّة وفقًا لذلك. وبهذا الصّدد يرى مكتب التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة نفسَه ككيانٍ تعلّميّ مكرّس لمنهجة خبرة متنامية عالميّة النّطاق توفّرت عن طريق مشاركة أعداد متزايدة من الأفراد والوكالات والجامعات. وبينما تأخذ هذه المشاركة بالاتّساع، يسعى المكتب جاهدًا لتنمية قدرته من أجل مراقبة النّشاط على مستوى القاعدة، وتحديد وتحليل أنماط تبرز في ظلّ مجموعة أو أكثر من الظّروف، ونشر المعرفة الّتي توّلدت، عاملًا على تقوية الهياكل لهذه الغاية، ومضيفًا زخمًا لعمليّة التّعلّم على جميع المستويات. فمقاربة التّنمية الّتي تظهر في حيّز التّركيز إذن، لا تقبل التّصنيف "من القمّة إلى القاعدة" أو "من القاعدة إلى القمّة"؛ بل هي بالأحرى مقاربة تتّسم بالتّبادل والتّرابط.
- بناء القدرة
عندما يُنظر إلى التّنمية من منطلق مشاركة أعداد أكبر فأكبر من النّاس في عمليّة تعلّم جماعيّة، فإنّ مفهوم بناء القدرة سيتّخذ أهمّيّة خاصّة. وبالتّالي، فبينما تهدف أيّ بادرة من بوادر العمل الاجتماعيّ إلى تحسين أحد جوانب حياة السّكّان بشكلٍ طبيعيّ، فلا يمكنها أن تركّز على مجرّد توفير السّلع والخدمات، وهي مقاربة للتّنمية نراها سائدة في عالم اليوم، مقاربة غالبًا ما تتّسم بالمواقف الأبويّة وتستخدم أساليب تُضعِف من قدرة الّذين يجب أن يكونوا أنصار التّغيير. مع أنّ وضع أهداف محدّدة وتحقيقها من أجل تحسين أوضاع معيّنة هو شاغلٌ مشروعٌ للعمل الاجتماعيّ؛ إلّا أنّ ما يفوقه أهمّيّة هو ما يرافقه من ارتفاع في مستوى قدرة المشاركين في سعيهم من أجل المساهمة في التّقدّم. وبالطّبع فإنّ وجوب بناء القدرة لا يخصّ الفرد فقط، رغم أهمّيّته؛ بل ينطبق بالمثل على المؤسّسات والجامعة النّصيريْن الآخريْن في تقدّم المدنيّة.
على مستوى الفرد، يُعتبر تأثير المعهد التّدريبيّ أمرًا حيويًّا. حيث يزوّد الأفراد بالبصائر الرّوحانيّة والمعرفة، والصّفات والمواقف، والمهارات والقدرات اللّازمة للقيام بأعمال الخدمة الّتي تُعتبر جزءًا لا يتجزّأ من حياة الجامعة البهائيّة، فالمعهد يولّد مخزونًا من الموارد البشريّة الّتي تمكّن مساعي التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة من الازدهار. ويكون بمقدور المشاركين في مثل هذه المساعي بدورهم اكتساب المعرفة والمهارات ذات الصّلة بمجالات محدّدة من العمل الّذي ينخرطون فيه، مثل الصّحّة، والإنتاج الزّراعيّ، والتّربية والتّعليم على سبيل المثال لا الحصر، بينما هم يواصلون تقوية تلك القدرات الّتي سبق أن رعاها المعهد. ومثال ذلك تعزيز الوحدة في التّنوّع والتّعدّد، ودعم العدل، والمشاركة بفعاليّة في المشورة، ومرافقة الآخرين في جهودهم لخدمة البشريّة.
وبالمثل فإنّ مسألة القدرة المؤسّسيّة تستلزم اهتمامًا وافيًا. فبينما تكتسب مؤسّسات أمر الله الخبرة، خاصّة في سياق جهودها الرّامية إلى ضمان تنفيذ بنود الخطط العالميّة، فإنّها تصبح وبشكلٍ متزايد بارعةً في تقديم المساعدة، والموارد، والتّشجيع، والتّوجيه الحُبّيّ لمبادرات مناسبة؛ وفي إجراء المشورة بكلّ حرّيّة وانسجام فيما بينها ومع النّاس الّذين تقوم على خدمتهم؛ وفي توجيه الطّاقات الفرديّة والجماعيّة نحو تغيير المجتمع. وهكذا، فإنّ كلّ جهد يُبذل في ميدان العمل الاجتماعيّ يجدر به أن يأخذ بالاعتبار مسألة القدرة المؤسّسيّة. وبالرّغم من كلّ شيء، يجب حتّى على أصغر مجموعة من الأفراد الّذين يعملون على مستوى القاعدة أن يكونوا قادرين على الحفاظ على بيئة تشاوريّة تسودها صفات: الأمانة والإنصاف والصّبر والتّسامح والأدب. وفي مستوى أعلى من التّعقيد، تحتاج منظّمة مكرّسة للعمل الاجتماعيّ إلى تنمية قدرتها على قراءة المجتمع وتحديد القوى العاملة فيه، وعلى ترجمة رؤية التّقدّم والرّقيّ إلى مشاريع وخطوط عمل مختلفة ومترابطة، وعلى إدارة الموارد الماليّة، وعلى التّفاعل مع المنظّمات الحكوميّة وغير الحكوميّة.
إنّ بناء القدرة لدى الأفراد والمؤسّسات يسير جنبًا إلى جنب مع تنمية الجامعات. ففي قرى وأحياء حول العالم، ينهمك البهائيّون في الأنشطة الّتي تُثري السّمة التّعبديّة لجامعاتهم، وتُعنى بالتّربية الرّوحانيّة للأطفال، وتعزّز الإدراك الرّوحانيّ عند الشّباب النّاشئ وتقوّي قدراتهم على التّعبير، وتمكّن أعدادًا متزايدة من استكشاف تطبيق تعاليم أمر الله في حياتهم الفرديّة والجماعيّة. ومع ذلك فإنّ عمليّة تنمية الجامعة يجب أن تتجاوز مجرّد كونها نشاطًا وأن تهتمّ بأساليب التّعبير وأنماط التّفكير والسّلوك الّذي يجب أن يميّز بشريّة وصلت إلى سنّ بلوغها. وقصارى القول، عليها أن تدخل ميدان الثّقافة. فإذا ما نُظر إلى العمل الاجتماعيّ على ضوء هذا المفهوم، يمكنه أن يصبح مناسبةً لرفع مستوى الوعي الجماعيّ بمثل هذه المبادئ الحيويّة من قبيل الوحدة، والعدل، والمساواة بين الرّجل والمرأة؛ وتعزيز بيئة تتّسم بصفات مثل: الصّدق والإنصاف والأمانة والكرم؛ وتعزيز قدرة الجامعة على مقاومة تأثير القوى الاجتماعيّة الهدّامة؛ وإظهار قيمة التّعاون باعتباره مبدًا منظِّمًا للنّشاط؛ وتقوية الإرادة الجماعيّة؛ وغرس البصيرة المكتسبة من التّعاليم في الممارسة العمليّة، لأنّه في المحصّلة النّهائيّة، فإنّ العديد من المسائل الأكثر أهمّيّة لبروز مدنيّة عالميّة مزدهرة يجب التّصدّي لها على مستوى الثّقافة.
إنّ ما يبدو من الضّروريّ الإقرار به هنا أنّ زيادة القدرة لدى كلّ من هؤلاء الأنصار الثّلاثة لا يحدث في معزِلِ عن الآخر؛ فتقدُّم أيّ منها مرتبط على نحو لا ينفصم بتقدّم الآخريْن. والبيان التّالي لحضرة شوقي أفندي يتناول هذه النّقطة:
لا يمكننا أن نفصل قلب الإنسان عن البيئة الّتي تحيط به ونقول إذا صلُح أحدهما فكلّ شيءٍ سوف يتحسّن. والإنسان جزءٌ لا يتجزّأ من العالم، وحياته الوجدانيّة تؤثّر على البيئة وتتأثّر بها بشدّة أيضًا. فكلٌّ منهما يؤثّر في الآخر، وكلّ تغييرٍ ثابتٍ في حياة الإنسان هو نتيجة تلك التّفاعلات المتبادلة.
درجات التّعقيد
لا يمكن إنكار أنّ عمليّة التّنمية هي معقّدة بطبيعتها. فقد تتضمّن نشاطات في مجالات من قبيل: الزّراعة وتربية الحيوانات، والتّصنيع والتّسويق، وإدارة الأموال والموارد الطّبيعيّة، والصّحّة والصّرف الصّحّيّ، والتّربية والتّعليم والتّثقيف الاجتماعيّ، والاتّصال وتنظيم المجتمع المحلّيّ. لذا، فإن المعرفة الّتي يجب استخدامها في شواغل التّنمية المتعلّقة بالمجتمعات المحلّيّة في العالم لا تندرج ضمن مجال أو تخصّص واحد. من الواضح أنّ المطلوب إذًا عمل متداخل التّخصّصات ومتعدّد القطاعات. مع ذلك، فإنّ القدرة على القيام بعمل منظّم كهذا لن تظهر للعيان في الجامعة البهائيّة إلّا على مدى عقودٍ من الزّمن، وكذا الأمر مع القدرة على معالجة القضايا التّنمويّة على مستويات أعلى فأعلى من التّعقيد والفعّالية.
يمكن للعمل الاجتماعيّ أن يتراوح ما بين جهود غير رسميّة نوعًا ما ومحدودة المدّة تقوم بها مجموعة صغيرة من الأفراد، إلى برامج تنمية اجتماعيّة واقتصاديّة على قدرٍ من التّعقيد والتّطوّر من جانب منظّمات تعمل بهَدْي من التّعاليم البهائيّة. أظهرت التّجربة بوضوح أنّ التّفاعل بين العمليّات الّتي تدفع بالعمل الاجتماعيّ قُدُمًا لا يمكن وصفه بصيغة واحدة. ومع ذلك، وبغضّ النّظر عن الظّروف، فإنّ نطاق العمل الاجتماعيّ ودرجة تعقيده في أيّ وقت يجب أن يتناسبا مع الموارد البشريّة المتوفّرة في الجامعة للمضيّ بالعمل قُدُمًا. والأكثر من ذلك، أنّ مُلكيّة العمل تكون بيد الجامعة نفسها، الأمر الّذي يدلّ على وجود درجة معيّنة من الإرادة الجماعيّة.
عادةً ما تبدأ الجهود، مهما كانت طبيعتها، بمستوى بسيط. وفي أغلب الأحيان، حيثما تكون النّشاطات التّعليميّة للمعهد التّدريبيّ في منطقة محلّيّة ما مؤسَّسة بإحكام ويكون هناك حسّ قويّ بالجامعة، يمكن ملاحظة البوادر الأولى لوعي اجتماعيّ عالٍ متمثّلة في ظهور مجموعة صغيرة تبدأ وهي تتصدّى لواقع اجتماعيّ واقتصاديّ محدّد، بمجموعة بسيطة من أعمال مناسبة. وبينما تتوقّف بعض الجهود من هذا النّوع بشكلٍ طبيعيّ عندما تُحقِّق أهدافها، إلّا أنّ بعضها الآخر يستمرّ. إنّ الإصرار على إدامة كلّ مبادرة أو حتى توسيع نطاقها، أكان ذلك من حيث عدد المشاركين أو الإنفاق الماليّ أو التّغطية الجغرافيّة أو تعقيد العمل، إنّما يأتي بنتائج عكسيّة. مع ذلك، قد تكون هناك ظروفٌ ستسفر فيها الجهود المبذولة إلى بروز مسعى ذي طابع أكثر استدامة، وذلك من خلال عمليّة مستمرّة من المشورة والعمل والمراجعة والتّقييم. ما هو المهمّ في مثل هذه الحالات هو السّماح لأولئك المنخرطين بأن يوسّعوا نطاق نشاطاتهم بطريقة عضويّة، دون ضغط لا لزوم له من آراء تكون في الغالب مستندة على مجرّد اعتباراتٍ نظريّة. فالعمليّة تسير قُدُمًا بشكلٍ مرن عندما يراجعون نتائج التّجربة ويقيّمونها. وبطبيعة الحال، بينما تسعى مجموعات صغيرة من الأفراد إلى تحسين الظّروف والأوضاع، يكون المحفل الرّوحاني المحلّيّ صوت السّلطة الأخلاقيّة لضمان أنّ نزاهة مجهوداتهم تبقى دون انتقاص. كما يظلّ يقظًا على الدّوام لضمان عدم تعارض الجهود مع الاتّجاه العام لمسار الجامعة.
قد يتمكّن أعضاء الجامعة في مرحلة ما، من الاستفادة من برامج تعليميّة تروّجها إحدى المنظّمات الّتي تعمل بهَدْي من التّعاليم البهائيّة في المنطقة ويدعمها مكتب التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة. إنّ التّوسّع المطّرد لبرنامج كهذا في الجامعة سيزيد من مواردها البشريّة ويُعزّز الهياكل التّنظيميّة الّتي تعمل على استدامة العمل الجاري. وفي نهاية المطاف، سيقوم العديد ممّن يستفيدون من مثل هذه البرامج بدورهم بتسخير طاقاتهم من أجل تنفيذ هذا النّوع من العمل الاجتماعيّ على مستوى القاعدة المذكور أعلاه. إلّا أنّه، مهما كانت الرّؤية النّهائيّة، يجب إيلاء الاهتمام هنا أيضًا للشّروع في مجال واحد من العمل ثمّ العمل على توسيع الأنشطة مع مرور الوقت بالتّدريج. فعلى سبيل المثال، يمكن لمدرسة مجتمعيّة، من حيث المبدأ، أن تصبح مركزًا لنشاطات من قبيل الإنتاج الزّراعيّ، والتّثقيف الصّحّيّ، والإرشاد الأُسريّ. بيد أنّه في معظم الحالات، من المستحسن أن تبدأ بكلّ بساطة كمَدرسة، مركِّزة جميع مواردها على الأطفال الّذين تعتزم خدمتهم.
وفي هذا الصّدد فإنّ جهود مكتب التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة الرّامية إلى تعزيز القدرة المؤسّسيّة للمنظّمات الّتي تعمل بهدي من التّعاليم البهائيّة لها أهميّتها. وينبغي هنا إضافة بعض الكلمات عن ظهور منظّمات كهذه في شتّى أنحاء العالم. إنّ البهائيّين قاطبة، سواء في ممارسة مهنهم، أو في الاضطلاع بمسؤوليّات وظائفهم، أو في معاملاتهم الأخرى، إنّما يستمدّون الإلهام من مبادئ وتعاليم أمر الله ويسعون إلى أن يعكسوا معاييرهم العالية في تعاملاتهم اليوميّة. علاوة على ذلك، ونظرًا لطبيعة ميدان التّنمية، سيختار عدد من البهائيّين المشاركة مع واحدة أو أكثر من المنظّمات الوطنيّة أو الدّوليّة الّتي تعمل لخير الجنس البشريّ، وسوف يستخدمون التّعاليم البهائيّة في أعمالهم إلى أبعد حدٍّ ممكن. من هذا المنطلق تكون جهودهم مستوحاة من أمر الله. إلّا أنّ هذا المصطلح قد أصبح مُستخدمًا بطريقة خاصّة جدًّا في سياق عمل الجامعة البهائيّة نفسها. فمنظّمة تعمل بهدي من التّعاليم البهائيّة أوجدتها عادةً مجموعة صغيرة من المؤمنين، بينما تبقى تحت التّوجيهات العامّة للمؤسّسات البهائيّة وضمن سلطتها الأخلاقيّة، يمكنها القيام بطيفٍ من المبادرات التّنمويّة في إحدى المناطق والتّمتّع بدرجة من الحرّيّة في إدارة شؤونها اليوميّة. فعندما تتأسّس منظّمة كهذه، يكون التّركيز بطبيعة الحال على نوعيّة أنشطتها. إنّ الوضوح بشأن الحجم الأمثل للنّشاط يتحقّق بالتّدريج عندما ننحّي جانبًا فكرة "الأكبر هو الأفضل". فالمؤسّسات والوكالات البهائيّة، بما في ذلك مكتب التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة إنّما تقدّم التّشجيع والإرشاد، وتوجّه الموارد إلى هذه المنظّمات حيثما لزم. على مدى سنوات عديدة، تطوّر عددٌ قليل منها إلى منظّمات تنمية ناضجة لديها القدرة على الانخراط في مجالات من النّشاط معقّدة نسبيًّا، إلى جانب إقامة علاقات عمل مع المنظّمات الحكوميّة والمجتمع المدنيّ.
ومهما كانت فكرة وجود منظّمة تعمل بهدي من التّعاليم البهائيّة مُجدية، فإنّ إخراجها إلى حيّز التّنفيذ في ظلّ ظروف متنوّعة يستلزم دراسة متأنّية. إنّ الطّريقة الّتي تنبثق فيها منظّمة كهذه من داخل حياة المنطقة وتسهم في تقدّمها لهو أمر بالغ الأهميّة. فلا يمكن أن يكون تأسيسها عشوائيًّا، أو أن ينبثق تشكيلها لمجرّد رغبة اثنين أو ثلاثة أفراد في تحقيق مأربٍ شخصيّ حتّى وإن كان يتّسم بالإيثار. إنّ المنظّمة الّتي تعمل بهَدْي من التّعاليم البهائيّة وتخدم منطقة معيّنة تستمدّ، وبشكلٍ جزئيّ، مغزًى لعملها من خلال علاقتها بالأنشطة الأخرى؛ فهي واحدة من جملة مساعي متفاعلة يتمّ من خلالها تحقيق تقدّم مطّرد. إنّ قيمة وقَدْر منظّمات كهذه لأعمال التّنمية في مختلف مناطق العالم واضحةٌ جليّة، إلّا أنّه يجب عدم التّقليل من شأن تلك القوّة المحوِّلة للآلاف تلو الآلاف من الأعمال البسيطة الّتي تجري على مستوى القاعدة والمرتبطة ببعضها البعض في إطار مشترك.
- تدفُّق الموارد
تجري الأنشطة البهائيّة برمّتها في ضوء الاعتقاد الأساسيّ بوحدة الجنس البشريّ. فالكلّ يسخّر مواهبه وموارده للتّقدّم في هدف مشترك، والكلّ يشترك بفرحة التّقدّم. فمن الواضح إذًا أنّ التّركيز على العمل المحلّيّ يجب ألّا يُفسّر بأنّه تفضيلٌ للعزلة.
إنّ التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة تتطلّب تدفّق الموارد المادّيّة والفكريّة على حدٍّ سواء. والجامعات البهائيّة إنّما تربطها معًا مؤسّسات ووكالات على المستويات المحلّيّة والإقليميّة والمركزيّة والقاريّة والعالميّة، وكلّ منها ملتزم بتعزيز مبدأ وحدة الجنس البشريّ. هذه التّرتيبات المؤسّساتيّة من شأنها أن تسمح بتدفّق الموارد بطريقة منظّمة ومنهجيّة، وتستفيد منها الجامعات في المناطق الرّيفيّة وفي المناطق الصّناعيّة الكبرى على السّواء. إنّ تقسيم العالم إلى مجموعات ثنائيّة: "متقدّمة" و "نامية"، و "متطوّرة" و "متأخّرة" يُعتبر أمرًا دخيلًا على جهود البهائيّين في مجال التّنمية، بل في واقع الأمر على جميع المساعي البهائيّة.
ومع ذلك، ينبغي الاعتراف بصراحة أنّه لا يمكن التّخفيف من حدّة الفقر دون توزيع عادل للثّروة المادّيّة بين شعوب العالم. وفي الواقع، إنّ مؤسّسة حقوق اللّه هي وسيلة قويّة لتعزيز ازدهار البشريّة. فالبهائيّون في شتّى بقاع العالم يدركون أنّ بإطاعتهم لحكم حقوق اللّه، الّذي يستدعي منهم تقديم نسبة من فائض ثروتهم ووضعها تحت تصرّف بيت العدل الأعظم، إنّما يسهّلون انتقال الموارد المادّيّة بطرق تعزّز رخاء المجتمع. وفي هذا الوقت، فإنّ المبالغ المتوفّرة أقل بكثير من احتياجات مناطق عديدة من العالم تفتقر للوسائل المادّيّة المطلوبة. ومع ذلك، فإطاعة هذا الحكم يمكّن بيت العدل الأعظم من توفير الأموال اللّازمة لمشاريع التّنمية الجارية في جميع القارّات.
وبمعزلٍ عن الأموال المُتاحة من خلال مؤسّسة حقوق اللّه والتّبرعات المنتظمة الّتي تقدّمها غيرها من المؤسّسات، بما في ذلك المخصّصة للعمل الاجتماعيّ تحديدًا، فإنّه يمكن للجهود المبذولة في مجال التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة الاستفادة من الموارد الّتي توفّرها الحكومات والوكالات المانحة. إلّا أنّ هذه الأموال، مهما كان مصدرها، لا تضع بأيّ حال من الأحوال أجندة جهود التّنمية في المجتمعات الّتي تتلقّى المساعدة. إنّ علاقة الاعتماد على الغير السّائدة بشكلٍ كبير في عالم اليوم، حيث تكون مناطق محدّدة مدينة لمناطق أخرى من أجل الوصول إلى الموارد، تُعدُّ أمرًا غير مقبول.
وضّح بيت العدل الأعظم في رسالة الرّضوان لعام 2010 بأنّ "التّغيير الاجتماعيّ ليس مشروعًا تنفّذه مجموعة من النّاس لصالح مجموعة أخرى"، وعمومًا فإنّ البهائيّين في منطقة معيّنة لا يُؤسّسون مشاريع تنمية للآخرين. إلّا أنّ هناك حركة لأفراد من جامعة إلى أخرى وعبر الحدود خارج بلدانهم. في هذه الحالة تُوجِّه البهائيّ كلماتُ حضرة بهاء اللّه: "غُضّوا الأعْيُنَ عن التّجانُبِ والابتِعادِ وانظُروا إِلى التّقارُبِ والاتّحادِ." عندما يَنقُل البهائيّون مكان إقامتهم أو يسافرون إلى مكان آخر في سياق العمل، فإنّهم يصبحون جزءًا من جامعاتهم المحلّيّة الجديدة ككلّ، ويَنظُر إليهم كلّ الآخرين على هذا النّحو. فهم الآن يخضعون لتوجيه مؤسّساتهم المحلّيّة المسؤولة عن تسهيل تدفّق المعرفة وتوجيه طاقات جميع أعضاء جامعاتها؛ بهذا يتمّ تجنّب فكرة السّماح لخبيرٍ قادمٍ من الخارج أن يفرض تطلّعاته المهنيّة على السّكّان المحلّيّين.
ففي جهود البهائيّين في كلّ مكان يمكن إذًا رؤية بروز جامعة عالميّة، متّصلة من خلال مؤسّساتها، تسعى جاهدة لتأسيس نمط من النّشاط يولي اهتمامًا كافيًا بالاستقلاليّة على المستوى المحلّيّ دون خلق شعورٍ بالعُزلة عن الكلّ، وتعلّق أهميّة على الوسائل المادّيّة دون السّماح لها أن تصبح أدواتٍ للسّيطرة، وتكفل تدفّق المعرفة دون فرض مواقف أبويّة، وتقوّي قدرة الأفراد دون اعتبارٍ لخلفيّاتهم الاقتصاديّة. وبينما ينهمكون بقوّة في الأنشطة الرّامية إلى تحسين محيطهم المباشر، يشعر البهائيّون بأنّهم جزءٌ من عمليّة تنمية عالميّة في نطاقها ونفوذها.
القسم الرّابع: منهجيّة التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة البهائيّة
بالإضافة إلى عناصر الإطار المفاهيميّ الّتي تُحدّد طبيعة جهود التّنمية البهائيّة، هناك عدد من المفاهيم الّتي تلقي الضّوء على الأساليب الواجب اعتمادها. أنّ التّحرّي الجماعيّ عن الحقيقة يمكن القيام به على نحو أفضل في جوّ يشجّع على نبذ وجهات النّظر الشّخصيّة، وأنّ تحرّيًا مستمرًّا كهذا ينبغي أن يولي اهتمامًا كافيًا بالمعلومات المستقاة من تجربة صحيحة، وأنّ مجرّد الرّأي يجب أن لا يرتقي إلى مرتبة الحقيقة، وأنّ الاستنتاجات يجب أن تتّفق ومستوى تعقيد القضايا المطروحة وعدم تجزئتها إلى سلسلة من نقاط مبسّطة، وأنّ صياغة الملاحظات والاستنتاجات ينبغي أن تُقدَّم بلغةٍ دقيقةٍ ومحايدة، وأنّ التّقدّم في كلّ مجال من مجالات المسعى يتوقّف على إيجاد بيئة تتضاعف فيها القوى وتظهر بوضوح في عمل موحّد، فمفاهيم عامّة كهذه، مستمدّة من العلم والدّين، تشكّل المنظور المنهجيّ المحدّد الموضّح أدناه.
- قراءة المجتمع وتشكيل رؤية
كما ذُكر آنفًا، فإنّ المساعي في مجال العمل الاجتماعيّ تأخذ في كثير من الأحيان شكل أعمال متواضعة تقوم بها مجموعات صغيرة من الأفراد يقيمون في إحدى المناطق المحلّيّة. يمكن إلى حدّ ما اعتبار هذه البوادر في مستوى القاعدة استجابة لقراءات الواقع الاجتماعيّ، مع أنّه من النّادر أن يتمّ التّعبير عنها بوضوح على هذا النّحو في هذا المستوى. ومن أجل مساعٍ أكثر تفصيلًا في مجال التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة، يجب أن تصبح قراءة المجتمع، بدرجة أعلى وأعلى من الدّقة، عنصرًا واضحًا من عناصر منهجيّة التّعلّم.
يمكن القول بأنّ كلّ جهد في التّنمية يمثّل استجابة لشيء من الفهم لطبيعة المجتمع وحالته، والتّحدّيات الّتي يواجهها، والمؤسّسات العاملة فيه، والقوى المؤثّرة عليه، والقدرات الّتي يتمتّع بها أهله. وقراءة المجتمع على هذا النّحو لا تعني استكشاف كافّة تفاصيل الواقع الاجتماعيّ، كما أنّها لا تنطوي بالضّرورة على دراسات رسميّة. يجب فهم أحوال المجتمع بالتّدريج، وذلك من منظور الهدف من مسعًى معيّن، وفي سياق رؤيةٍ للوجود الجماعيّ للبشريّة في آنٍ معًا. في الواقع، من الأهميّة بمكان أن تتّفق قراءة المجتمع مع تعاليم أمر الله؛ بأنّ الطّبيعة الحقيقيّة للإنسان روحانيّة، وأنّ كلّ إنسان بمثابة "معدِن يحوي أحجارًا كريمة" من القدرات اللّامحدودة، وأنّ قوى الهدم والبناء تدفع البشريّة، كلًّا بطريقتها الخاصّة، نحو قَدَرها المحتوم، ليست سوى أمثلة قليلة للتّعاليم الّتي ستشكّل فهم المرء للواقع الاجتماعيّ. إنّ المنظّمات الّتي تعمل بهدي من التّعاليم البهائيّة والّتي تدعم خطوط عمل معقّدة نسبيًّا تحتاج إلى صقل قراءتها للمجتمع باستمرار مستخدمة الأساليب العلميّة بكلّ ما لديها من إمكانيّات.
من المهمّ أن نلاحظ أنّ قراءة الواقع الاجتماعيّ لمجموعة من السّكّان من شخصٍ في الدّاخل تختلف عن دراسته من قِبَل شخصٍ من الخارج. ففي الحالات الّتي يكون فيها السّكّان، موضوع الدّراسة، فقراء نسبيًّا من حيث الموارد المادّيّة، فإنّ الأشخاص من الخارج الّذين يتمتّعون بموارد أكبر لا يرون سوى الحرمان في كثير من الأحيان. فقد يغفلون عن أمورٌ أخرى من قبيل وفرة المواهب الّتي تزخر بها مجموعة السّكّان، وتطلّعات أفرادها، وقدرتهم على النّهوض حتّى يصبحوا أنصار التّغيير. وعلاوة على ذلك، فإنّ جميع الّذين يراقبون الفقر من الخارج، غالبًا ما يكونون جميعًا غير واعين لتلك النّزعة الّتي تسمح لمشاعرهم في الشّفقة، أو الخوف، أو السّخط، أو التّناقض بالتّأثير على قراءتهم للمجتمع وبناء حلولهم المقترحة على ما لديهم من تقدير لخبراتهم الشّخصيّة. ومع ذلك، عندما يكون الجهد تشاركيًّا، بمعنى أنّه يسعى إلى إشراك النّاس أنفسهم في توليد المعرفة وتطبيقها، بينما هم يتقدّمون معًا في طريق التّقدّم، تختفي بسرعة ثنائيّات من قبيل: "من الدّاخل-من الخارج" و"عالِم-جاهل".
إنّ المنخرطين في العمل الاجتماعيّ إنّما يشكّلون رؤية لعملهم ويصقلونها داخل الفضاء الاجتماعيّ المتاح لهم وفقًا لقراءتهم للمجتمع. فكلمة "رؤية" هنا لا تعني مجرّد مجموعة من الأهداف أو وصف وضع مستقبلي مثاليّ. وعلى وجه الخصوص، عندما يتعلّق الأمر بمنظّمة تعمل بهدي من التّعاليم البهائيّة، فإنّ الرّؤية يجب أن تعطي فكرة عامّة عن كيفيّة تحقيق الأهداف: طبيعة الاستراتيجيّات الّتي يتعيّن وضعها، والمقاربات الّتي يجب اتّباعها، والمواقف الواجب تبنّيها، وحتّى الخطوط العريضة لبعض الأساليب الّتي سوف تُستخدم. إنّ رؤية العمل الّتي تصيغها مثل هذه المنظّمة لن تكون كاملة على الإطلاق؛ ويجب أن تصبح أكثر فأكثر دقّة، وقادرة على استيعاب عمل دائم التّطوّر وأكثر تعقيدًا من ذي قبل، والوصول إلى مستويات عالية من الدّقّة في عملها باطّراد.
- المشورة
إذا ما أريد للتّعلّم بالعمل أن يكون الأسلوب الأساسيّ للعمل في مجال التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة، ينبغي إدراك وتقدير مبدأ المشورة البهائيّة بالكامل. يمكن النّظر إلى المشورة كعمليّة جماعيّة من البحث عن الحقيقة، أكانت معنيّة بتحليل مشكلة ما، أو إحراز درجات أعلى من الفهم بمسألة معيّنة، أو استكشاف مسارات عمل محتملة. فالمشاركون في عمليّة المشورة يرون الواقع من وجهات نظر مختلفة، وبينما يتمّ تفحّص تلك الآراء وفهمها، تتحقّق وضوح الرّؤية. في هذا المفهوم من التّحرّي الجماعيّ عن الواقع، فإنّ الحقيقة ليست التّوفيق بين المصالح المتعارضة للجماعات، ولا الرّغبة في فرض السّيطرة من جانب على الآخر هو ما يصبو إليه المشاركون في العمليّة التّشاوريّة. بل بالأحرى هم يطمحون إلى قوّة الرّأي والعمل الموحّد.
وفي سياق العمل الاجتماعيّ، فإنّ التّعبير عن مبدأ المشورة يتمّ بأشكال متعدّدة، يتناسب كلّ منها مع الفضاء الّذي تجري فيه. وفي كثير من الأحيان، عندما تشارك مجموعة صغيرة في مسعى ما، تكون كلّ مسألة تهمّهم موضوعًا للمشورة. إلّا أنّ مبدأ المشورة داخل المنظّمة سيجد له تعبيرًا بطرق مختلفة. ما تجدر الإشارة إليه في هذا الصّدد هو أنّه، في بعض الأحيان، تجري المشورة بين من يُعتَبَرون نُظراء بغية التّوصّل إلى قرار مشترك، كما هو الحال في مداولات المحفل الرّوحاني. وفي ظلّ ظروف أخرى، تأخذ المشورة شكل المناقشة حسبما تقتضيه الحاجة وذلك لاستخلاص الأفكار والمعلومات من أجل إثراء الفهم المشترك، بيد أنّ القرار يُتّخذ من قبل أصحاب السّلطة. إنّ هذا الشّكل الأخير هو ما يميّز عمل المنظّمات الّتي تعمل بهدي من التّعاليم البهائيّة، حيث تُمنح درجة من السّلطة لفرد أو لمجموعة من الأشخاص المخوّلين بالمسؤوليّة.
من الواضح إذًا أنّه لن يشارك كلّ شخص داخل المنظّمة على قدم المساواة في صنع كلّ قرار. يجب تنظيم وتحديد المسؤوليّة على نحو ملائم. فعلى سبيل المثال، سيكون هناك العديد من الفضاءات الّتي ستُتاح فيها الفرصة للأفراد المنخرطين في جزء محدّد من العمل المشاركة بالبصائر، والوصول إلى مستوى أعلى من الفهم، واتّخاذ قرارات معيّنة تتعلّق بمجال عملهم. وفي حالة منظّمة لها هيئة مديرين ومدير تنفيذيّ، فإنّهم غالبًا ما سيتّخذون القرارات دون الحاجة إلى التّشاور مع كلّ عضو من أعضاء المنظّمة. ولكن تقع على عاتقهم أيضًا مسؤوليّة خلق جوّ تتدفّق فيه المعلومات والمعرفة ذات الصّلة بكلّ صراحة، وفيه تُنقل نتائج المشاورات في جميع فضاءات المنظّمة بطريقة تعزّز الفهم وتَوافُقَ الآراء بين أعضائها.
وإلى جانب اعتبارات كهذه، تسري روح المشورة في تفاعلات المنخرطين في العمل الاجتماعيّ مهما كان حجمه ودرجة تعقيده وعدد السّكّان الّذين يخدمهم. وهذا لا يقتضي ضمنًا وجود آليّات رسميّة تعمل بالضّرورة لخدمة هذا الغرض. بل يوحي بالأحرى بأنّ تطلّعات النّاس وملاحظاتهم وأفكارهم حاضرة دومًا ومُندمجة بكلّ وعي وإدراك في الخطط والبرامج.
- العمل ومراجعته وتقييمه
في صلب كلّ مسعى للتّنمية هناك عمل متّسق ومنهجي. بيد أنّ العمل يحتاج لأن يكون مقرونًا بعمليّة متواصلة من المراجعة والتّقييم لضمان استمراره في خدمة أهداف المسعى. إنّ استراتيجيّات التّنمية الّتي وضعت ببساطة على شكل مشاريع ذات أهداف محدّدة جيّدًا، تلاها تقييم حول كيف ولماذا حَقّقت أو لم تُحقّق أهدافها، هي استراتيجيّات لها محدوديّتها. إنّ مقاربة لتنمية موضوعة استنادًا إلى التّعلّم تجيز في بعض الأحيان التّقييم الرّسميّ، إلّا أنّها تعتمد أكثر بكثير على عمليّة تقييم ومراجعة منظّمة منسوجة في نمط من العمل، يمكن من خلاله أن تبرز أسئلة وتُعدّل الأساليب والمقاربات.
ونظرًا لكثرة احتياجات البشريّة والحماس الّذي تلقاه باستمرار تلك البرامج المستوحاة من التّعاليم البهائيّة، قد يكون مغريًا لمنظّمة تعمل بهدي من التّعاليم البهائيّة أن تسعى لاغتنام كلّ فرصة تُتاح وتنهمك في عمل محموم. إنّ التّحدّي الّذي يجب أن يتصدّى له جميع المنخرطين في جهود التّنمية، من مجموعة صغيرة إلى الجامعة نفسها، هو تعلّم أن يكونوا منهجيّين ومركّزين في عملهم.
إنّ الفكرة الّتي أثبتت جدواها في هذا الصّدد هي فكرة خطّ العمل. وخطّ العمل تمّ تصوّره على أنّه سلسلة من نشاطات، كلّ منها يبني على ما قبله ويمهّد الطّريق لما يليه. وغالبًا ما تبدأ المساعي بخطّ واحد من العمل، ولكن يبرز بالتّدريج عدد من الخطوط المترابطة، مشكّلة بذلك مجالًا كاملًا للعمل. فعلى سبيل المثال، لكي نكون مؤثّرين، فإنّ جهدًا على مستوى القاعدة يركّز فقط على مجال تعليم الأطفال، يحتاج أن يتّبع في نفس الوقت خطوط عمل من قبيل تدريب المعلّمين وزيادة وعي الجامعة حيال التّعليم، وكذلك إيلاء الاهتمام بتجربة التّعليم-التّعلّم.
إنّ التّفكير المركّز والمنهجيّ والعمل المتواصل الدّقيق لا ينتقص، بالطّبع، من روح الخدمة الّتي تحرّك العمل الاجتماعيّ. فبينما يولي المرء اهتمامًا بأدقّ التّفاصيل العمليّة، يمكن له أن يكون منهمكًا بأعمق المسائل روحانيّة أيضًا. إنّ السّمة المميّزة لأيّ مسعًى بهائي يجب أن تكون ذلك التّأكيد الّذي تضعه على الرّوح الّذي يجري فيه تنفيذ العمل. وهذا يتطلّب من المشاركين خلوص الدّافع، واستقامة السّلوك، والتّواضع، ونكران الذّات، واحترام كرامة الإنسان. يتفضّل حضرة بهاء اللّه:
إنّ عملًا طاهرًا واحدًا له من القدرة ما يرفع التّراب إلى أوج الأفلاك ويحطّم كلّ قيدٍ ويبعث كلّ قوةٍ من جديد.
- استخدام الوسائل المادّيّة
لتحقيق أهدافها، تحتاج المساعي في مجال العمل الاجتماعيّ إلى وسائل مادّيّة. هناك نزعة بين العديد من المنظّمات في العالم، بما في ذلك تلك الّتي أحرزت نتائج جديرة بالثّناء، لقياس نجاحها بالدّرجة الأولى من منطلق مقدار المال الّذي استلمته وما أنفقته منه. من المُتوقّع من جهود التّنمية البهائيّة أن تضع جانبًا هذا المعيار. ففي الحالات المتواضعة من العمل الاجتماعيّ، تساهم الجامعة بالموارد من النّاحية الإجمالية. أمّا الجهود الأكثر تعقيدًا فإنّها ستستلزم قدرة أكبر على الحصول على الأموال واستخدامها. ففي حالة المنظّمات الّتي تعمل بهدي من التّعاليم البهائيّة قد يطال ذلك تلقّي مِنَح من وكالات مانحة كما ذُكر سابقًا. وهنا يتطلّب الأمر عناية فائقة في ألّا تحيد المنظّمة، وهي تحاول تأمين الأموال، عن هدفها الرّئيس: بناء القدرة لدى السّكّان المعنيّين.
مهما تكن المبالغ المصروفة متواضعة، من الأهمّيّة بمكان وضع نظام للإشراف على الإدارة السّليمة للموارد الماليّة. إنّ نزاهة أيّ مجهود مرهونة بطبيعة الحال بأمانة المشاركين فيه وما يتمتّعون به من ثقة. مع ذلك، فإنّ نظام إدارة ماليّة ثبُتت فعاليّته داخل المنظّمة إنّما يقيها من محيط يسوده الإهمال وعدم الدّقّة والّذي يفسح المجال للإغواء.
وإلى جانب نظام ماليّ سليم، تحتاج مسألة الكفاءة كلّ الاهتمام. وينبغي تجنّب التّصوّرات الضّيّقة عن الكفاءة. مثال ذلك تلك الّتي تأخذ في الاعتبار فقط علاقة المنتجات بالمدخلات المادّيّة، حتّى عندما تتضمّن الأخيرة شيئًا من المقياس الكمّيّ للجهد. يبدو أنّ الأمر يتطلّب فهمًا للكفاءة أكثر تطوّرًا. وفيما يتعلّق بالمدخلات، على سبيل المثال، من الواضح أنّ العمل الّذي تدفعه روح الخدمة ورغبة داخليّة في التّميّز له قيمة مغايرة للعمل الّذي يُستَخدم وسيلةً لتقديم المصالح الشّخصيّة. وما يتعلّق بالنّتائج، كمثالٍ آخر؛ قد يكون إنجاز مهمّة محدّدة، لنقُل بناء منشأة صغيرة لمدرسة، أقلّ أهميّة بكثير من تنمية قدرة المشاركين في التّعاون والانخراط في عمل موحّد.
هناك أيضًا ثروة من الموارد الرّوحانيّة والفكريّة الّتي بمقدور المساعي الاعتماد عليها، بغضّ النّظر عن الموارد المادّيّة المتوفّرة. وقد ورد ذكر عدد منها في الكتابات البهائيّة من قبيل "عزم لا يفتر وتعاون متّسق"، و"النّشاط، والإخلاص والحُنكة"، و "العزيمة"، و "روح من التّكريس المطلق"، و "القدرة على التّنظيم"، و "الحماسة"، و "المثابرة، والحصافة، والوفاء"، و "ولاء يتّسم بالإخلاص"، و "تكريس مطلق"، و "استقامة"، و "همّة"، و "شجاعة"، و "جرأة"، و "يقظة وانتباه شديدين". فما أنجزته الجامعة البهائيّة حتّى الآن بوسائل مادّيّة محدودة في أعمال التّوسّع والاستحكام، ما هو إلّا شاهد على كفاءة الموارد الرّوحانيّة هذه، والّتي يجب أن تتّسع على نحو متزايد لتطال مجال العمل الاجتماعيّ.
وأولئك المنخرطون في العمل الاجتماعيّ بحاجة أيضًا إلى وعي مستمرّ بالمسؤوليّة الجليلة حيال الأموال الموضوعة تحت تصرّفهم. وفي هذا الصّدد، من المفيد أن نأخذ بالاعتبار السّلوك الّذي يُظهره البهائيّون حيال أموال أمر الله المقدّسة، تُقدَّم التّبرعات بسخاء، وسرور وتضحية، والمؤسّسات بدورها تراعي الحرص والتّدبير ودرجة عالية من الاقتصاد في الصّرف من تلك الأموال.
القسم الخامس: المبادئ الإرشاديّة
إنّ العمل الاجتماعيّ الّذي تم عرضه في هذه الورقة ينبغي تنفيذه في سياق مشروع أكبر بكثير، تقدّم مدنيّة تكفل الازدهار المادّيّ والرّوحانيّ للجنس البشري قاطبةً. إنّ التّعاليم الأساسيّة لأمر الله الّتي ستُلهم هذه المدنيّة، والّتي جاء ذكر بعضها في هذه الصّفحات، بحاجة إلى إيجاد تعبير عنها في مجال العمل الاجتماعيّ. من الواضح أنّ تطبيق المبادئ اللّازمة للتّرقي الاجتماعيّ والمادّي للجامعات ينطوي على عمليّة واسعة من التّعلّم.
إنّ أحد التّحدّيات الماثلة أمام أيّ بادرة من بوادر العمل الاجتماعيّ بشكلٍ عام هو ضمان التّوافق، بين القناعات الواضحة والضّمنيّة الّتي تقوم عليها أيّ مبادرة، والقِيَم الّتي تروّجها، والسّلوكيّات الّتي يتبنّاها المشاركون، والأساليب الّتي يستخدمونها، والغايات الّتي يسعون إلى تحقيقها. إنّ إحراز التّوافق بين المعتقد والممارسة ليس بالمهمّة البسيطة؛ فالاعتراف الرّاسخ بوحدة الجنس البشريّ من شأنه أن يمنع كافّة الجهود من تعزيز الخلاف، أو العزلة، أو التّباعد، أو المنافسة؛ واعتقاد لا يتزعزع بنُبل الجنس البشريّ، قادر على كبح جماح الأهواء النّفسية وإظهار الصّفات السّماويّة، من شأنه أن يقيَ من التّعصّب والسّلوك الأبويّ اللّذين ينتهكان كرامة الإنسان؛ والاعتقاد الثّابت بالعدالة من شأنه أن يهدي المسعى لتخصيص الموارد وفقًا للاحتياجات الحقيقيّة وتطلّعات الجامعة بدلًا من نزوات ورغبات قلّة ذات حظوة؛ ومبدأ المساواة بين الرّجل والمرأة من شأنه أن يمهّد الطّريق ليس لتقوم المرأة بدورها كنصيرة للتّنمية والانتفاع من ثمارها فحسب، بل للتّركيز أكثر وأكثر على خبرة هذا النّصف من سكّان العالم في الأفكار التّنمويّة. إنّ هذه الأمثلة القليلة توضّح كيف أنّ المبادئ الرّوحانيّة تهدي ممارسات التّنمية عن كثب.
إذا ما أُريد تجنّب التّناقضات، يتعيّن على المشاركين في أيّ مسعى أن يصبحوا على وعي متزايد بالبيئة الّتي يتقدّم فيها عملهم. فمن ناحية، لهم مطلق الحرّيّة باستقاء البصائر من مجموعة الفلسفات والنّظريّات الأكاديميّة وبرامج المجتمع والحركات الاجتماعيّة من داخل تلك البيئة، وأن يواكبوا الاتّجاهات التّكنولوجيّة الّتي تؤثّر في التّقدّم. ومن ناحية أخرى، عليهم أن يبقوا يقظين فلا يسمحوا بتطويع التّعاليم لتتوافق مع هذه الأيديولوجيّة أو تلك، أو أيّ بدعة فكريّة، أو ممارسة دارجة. في هذا الصّدد، فإنّ القدرة على قياس قيمة المقاربات السّائدة، والأفكار، والمواقف، والأساليب بميزان أمر الله هو أمر حيويّ. هذه القدرة تمكّن المرء، على سبيل المثال، من كشف تعظيم الذّات الّذي غالبًا ما يكون وراء المبادرات الّتي تتعلّق اسميًّا بالتّمكين، ومن تمييز ميل جهود تنمويّة معيّنة إلى دسّ نظرة ماديّة بحتة عن العالم على الفقراء، ومن إدراك الطّرق الخفيّة الّتي يتمّ فيها التّرويج للتّنافسيّة والجشع باسم العدالة والازدهار. والتّخلّي، في نهاية المطاف، عن الفكرة القائلة بأنّ هناك أيّ نظريّة أو حركة تكتسب في المجتمع الأوسع بعض الشّهرة سريعة الأفول، بإمكانها أن تقدّم طريقًا مختصرًا نحو تغييرٍ هادف. الفقرة التّالية الّتي كتبها بيت العدل الأعظم تزوّدنا بالهداية في هذا الصّدد:
إنّ رسالة حضرة بهاء الله رحبة واسعة، لا تدعو إلى تغيير عميق في مستوى الفرد فحسب، بل في هيكل المجتمع أيضًا. ألم يُعلن حضرته بأنّ: "المقصود من كلّ ظهور التّغيير والتّبديل في أركان العالم سرًّا وجهرًا وظاهرًا وباطنًا"؟ إنّ العمل الجاري في كلّ زاوية من أكناف الأرض اليوم يمثّل المرحلة الأحدث من المساعي البهائيّة الجارية لخلق نواة المدنيّة العظيمة المكنوزة في تعاليم حضرته والتي يُعتبر بناؤها مشروعًا لامتناهٍ في تعقيده ومداه، مشروعًا يتطلّب قرونًا من جهد الإنسانيّة ليعطي أُكُلَه. ليست هناك طرق مختصرة ولا صِيَغ محدّدة، بل عندما تُبذل الجهود لاستخلاص البصيرة من آثاره المباركة، والاستفادة من المعرفة المتراكمة للجنس البشريّ، وتطبيق تعاليمه بذكاء وفطنة في حياة البشر، والمشورة حول المسائل الّتي تبرز، عندها فقط يتحقّق التّعلّم الضّروريّ وتنمو القدرة اللّازمة.