[ترجمة]
28 تشرين الثّاني/نوفمبر 2023
إلى البهائيّين في العالم،
أحبّتنا الأعزّاء،
في السّابع والعشرين من تشرين الثّاني/نوفمبر 2021، في سكون منتصف اللّيل الحالك، الْتَأم جمعٌ ضمّ ما يقربُ من السّتّمائة من ممثّلي المحافل الرّوحانيّة المركزيّة والمجالس البهائيّة الإقليميّة، إلى جانب أعضاء بيت العدل الأعظم ودار التّبليغ العالميّة وكذلك العاملين في المركز البهائيّ العالميّ، لإحياء الذّكرى المئويّة لصعود حضرة عبد البهاء في جوار مقامه المنوّر، وبما تقتضيه من إجلالٍ ووقار. خلال تلك اللّيلة ومع دوران الكرة الأرضيّة اجتمعت الجامعات البهائيّة في شتّى أنحاء العالم أيضًا بكلّ تبتّل وابتهال، في الأحياء والقرى، والبلدات والمدن، لتكريم شخصيّةٍ فريدةٍ لا مثيل لها في تاريخ الأديان، وللتّأمّل في إنجازات قرنٍ من الزّمان استهلّها حضرته بنفسه.
إنّ هذه الجامعة، أهل البهاء، وعشّاق حضرة عبد البهاء، تضمّ الآن ملايين النّفوس وتنتشر اليومَ في نحو مائة ألف منطقة محلّيّة في 235 دولةً وأرضًا، وخرجت من المجهوليّة لتتبوّأ مكانتها على السّاحة الدّوليّة، وأنشأت شبكة من آلاف المؤسّسات بدءًا من مستوى القاعدة وحتّى المستوى العالميّ، موحِّدة مختلف الشّعوب في الهدف المشترك المتمثّل في تطبيق تعاليم حضرة بهاء الله من أجل تحقيق التّحوّل الرّوحانيّ والتّقدّم الاجتماعيّ. وفي العديد من المناطق، احتضن النّموذج الّذي انتهجته في بناء جامعات محلّيّة نابضة بالحياة الآلاف، بل وفي بعضها عشرات الآلاف من النّفوس. وفي بيئات كهذه يتشكّل نهجٌ جديدٌ للحياة، نهج يتميّز بسِمَتِه التّعبّديّة، والتزام الشّباب بالتّعليم والخدمة، وبحديثٍ هادفٍ يدور بين العائلات والأصدقاء والمعارف في مواضيعَ ذاتِ أهمّيّةٍ روحانيّةٍ واجتماعيّةٍ، ومساعٍ جماعيّةٍ من أجلِ إحراز تقدّم مادّيّ واجتماعيّ. لقد تُرجمت الكتابات البهائيّة المقدّسة إلى ما ينوف عن ثمانمائة لغة. إنّ تشييد مشارق أذكارٍ مركزيّة ومحلّيّة يبشّر بظهور آلافٍ من هذه المراكز المكرّسة للعبادة والخدمة في المستقبل. لقد تمّ تأسيس المركز الرّوحانيّ والإداريّ العالميّ للدّين البهائيّ في المدينتيْن المقدّستيْن، عكّاء وحيفا. ورغم ما يواجه الجامعة الآن من معوّقات واضحة، إذا ما قورنت بمُثُلها العليا وتطلّعاتها الأسمى، إلى جانب البَوْن الّذي يفصلها عن هدفها النّهائيّ وهو تحقيق وحدة الجنس البشريّ، فإنّ مواردها وقدرتها المؤسّسيّة، ومقدرتها على استدامة النّموّ والتّطوّر المنهجيّيْن، وعملها مع مؤسّسات مشابهة لها في الفكر، وانخراطها في المجتمع وتأثيرها البنّاء عليه، كلّ ذلك يقف في قمّة إنجاز تاريخيّ لا سابق له.
كم كانت هائلة أشواط التّقدّم الّتي قطعها دين الله منذ تلك اللّحظة، قبل قرنٍ مضى، عندما رحل حضرة عبد البهاء عن هذا العالم الفاني! ففي فجر ذلك اليوم الحزين، انتشرت أخبار صعوده في أرجاء مدينة حيفا، وانفطرت القلوب حزنًا وأسى. تجمّع الآلاف لتشييع جثمانه الطّاهر؛ من الصّغير والكبير، الشّريف والوضيع، مسؤولين بارزين وحشود من المسلمين والمسيحيّين، اليهود والدّروز، إلى جانب البهائيّين، حشد لم تشهد المدينة مثله من قبل. لقد كان حضرة عبد البهاء في نظر العالم نصيرًا للسّلام العالميّ ووحدة الجنس البشريّ، ومدافعًا عن المظلومين ومروّجًا للعدالة. ولأهل عكّاء وحيفا كان أبًا حنونًا وصديقًا عطوفًا، وناصحًا حكيمًا، وملجأً وملاذًا للمحتاجين. وفي تأبينه تدفّقت كلمات الرّثاء معبّرة عن بالغ الحزن والأسى ومشاعر المحبّة الخالصة.
لكن بطبيعة الحال، فإنّ البهائيّين هم أكثر الّذين شعروا بفداحة فقدانه. لقد كان العطيّة النّفيسة الّتي وهبهم إيّاها المظهر الإلهيّ لهدايتهم وحمايتهم؛ فهو مركز ومحور عهد وميثاق حضرة بهاء الله الشّامل الفريد، والمثل الأعلى لتعاليمه، والمبيّن المعصوم لآياته، مظهر كلّ الصّفات والفضائل البهائيّة. لقد عمل حضرة عبد البهاء طيلةَ فترة حياته دون كللٍ أو مللٍ في خدمة مكرّسة تمامًا لحضرة بهاء الله، وأدّى الأمانة المقدّسة الّتي أوكلها إليه والده الجليل. لقد رعى البذرة النّفيسة الّتي زُرعت وصانها بكلّ أمانة وإخلاص. وحَمَى حِمَى أمر الله في مهد مولده، وبتوجيه انتشاره في الغرب، أسّس مهد إدارته في تلك الدّيار. فثبّت بإحكام خطى المؤمنين، وأنشأ عصبةً من الأبطال والأولياء. وبيديه المباركتيْن وارى رفات حضرة الباب المقدّسة في الضّريح الّذي شيّده على جبل الكرمل، وتولّى العناية بكلّ تفانٍ بالمقاميْن المقدّسيْن، وأرسى قواعد المركز الإداريّ العالميّ لأمر الله، وصان الأمر المبارك من أعدائه الألدّاء في الدّاخل والخارج، وأنزل الدّستور النّفيس الّذي يقضي بنشر تعاليم حضرة بهاء الله بين كلِّ الشّعوب في شتّى أرجاء الأرض، وكذلك الدّستور الّذي أوجد عمليّات النّظم الإداريّ ووضَعَها قيد التّنفيذ. امتدّت سِنِيُّ حياته الحافلة طوال فترة العصر الرّسوليّ الّذي دشّنه إعلان دعوة حضرة الباب، وبصعوده ابتدأ عصر جديد لم تكن سماته معروفة بعد للبهائيّين. فما الّذي كان سيحلّ بأحبّائه؟ فمِن دونه ومن دون هدايته المستمرّة بدا المستقبل غامضًا ومظلمًا.
سارع حفيده شوقي أفندي وقد فجعه نبأ صعود حضرة عبد البهاء بالقدوم إلى الأرض الأقدس مغادرًا إنجلترا حيث كان يدرس، وهناك تلقّى لطمة صادمةً ثانية. فقد عيّنه حضرة عبد البهاء وليًّا ومرجعًا لأمر الله، واضعًا العالم البهائيّ في كنف رعايته. وفي غمرة حزنه وكَربه، ولكن بفضل العناية البالغة الّتي تلقّاها من الورقة المباركة العُليا، بهيّة خانم ابنة حضرة بهاء الله المحبوبة، نهض حضرة شوقي أفندي بأعباء مسؤوليّة وظيفته الثّقيلة، وبدأ في تقييم الأوضاع والإمكانيّات الماثلة أمام الجامعة الوليدة.
لقد قوبل الإعلان بتعيين حضرة شوقي أفندي وليًّا لأمر الله بارتياح جموع المؤمنين وامتنانهم وإبداء مشاعر الولاء والإخلاص. والّذي خفّف من حرقة فراقهم للمولى وعده القاطع في ألواح وصاياه بأنّه لن يتركهم وحيدين. إلّا أنّ قلّة قليلة ممّن خانوا العهد تحدَّوْا وريث حضرة عبد البهاء المختار، خالفوه وشقّوا عصا الطّاعة بدافع مطامعهم ونفوسهم الأمّارة. لقد أدّت خيانتهم في تلك الفترة الانتقاليّة الحرجة، إلى جانب المكائد الجديدة الّتي حاكها الخصوم المجاهرون لحضرة المولى إلى زيادة الأوضاع وخامةً. وعلى الرّغم من الضّغط الشّديد الّذي ولّده همٌّ وغمٌّ ومحنةٌ كهذه، وفي مواجهةِ عقبات أخرى هائلة، أخذ حضرة شوقي أفندي يحشد أفراد الجامعات البهائيّة المنتشرين على نطاق واسع، ويهيّئهم للشّروع في تنفيذ المهمّة العظيمة المتمثّلة في إرساء أُسس النّظم الإداريّ. فبدأ الأفراد، الّذين سبق أن انجذبوا لشخصيّة حضرة عبد البهاء الفريدة، بتنسيق جهودهم تدريجيًّا في مشروع عموميّ بهداية حضرة وليّ أمر الله المتّسمة بالصّبر والأناة والمقرونة بالحزم والثّبات أيضًا.
وعندما أخذ البهائيّون يضطلعون بمسؤوليّاتهم الجديدة، أكّد لهم حضرة شوقي أفندي كم كان فهمهم للآثار المقدّسة الّتي يؤمنون بها بسيطًا جدًّا حتّى ذلك الوقت، وكم هي شاقّة تلك التّحدّيات الّتي تواجههم. كتب حضرته "كم هي رحبةٌ رسالة حضرة بهاء الله! وكم هي عميمةٌ عناياتُه المنهمرةُ على البشريّة في هذا اليوم! ومع هذا فما أقلّ وما أعجز إدراكنا لعظمتها وجلالها! إنّ هذا الجيل يقف قريبًا جدًّا من ظهورٍ إلهيٍّ على هذا القدْر من العظمة بحيث لا يمكنه أن يقدّر تمام التّقدير إمكانيّات دينه اللّامتناهية، وطبيعة أمره غير المسبوقة، وتدابير عنايته الغيبيّة." وكتب سكرتيره بالنّيابة عن حضرته "إنّ محتويات ألواح وصايا حضرة المولى تستعصي على أفهام الجيل الحاليّ، إنّها تحتاج إلى ما لا يقلّ عن قرنٍ من العمل الفعليّ قبل أن يُمكن الكشف عن كنوز الحكمة المكنونة فيها." ولفهم طبيعة رؤى حضرة بهاء الله للنّظم العالميّ الجديد وأبعادها، أوضح حضرته، "يجب أن نترك الأمر لعامل الوقت، ولهداية بيت العدل الأعظم الإلهيّ للحصول على فهم أوضح وأكمل لبنود النّظم البديع ومضامينه."
إنّ الوقت الحاليّ الّذي يلي انتهاء قرن كامل من "العمل الفعليّ"، كما هو الحال الآن، يوفّر لنا منظورًا مبشّرًا بالخير يمنحنا بصائر جديدة. ولذلك اخترنا مناسبة هذه المئويّة لنتوقّف قليلًا ونتفكّر معًا في الحكمة المكنونة في بنود ألواح الوصايا، ونتتبّع مسارَ تكشُّفِ أمر الله، ونلاحظ اتّساق مراحل تطوّره العضويّ، ونتبيّن الإمكانات الكامنة في العمليّات الّتي تقود تقدّمه، وندرك وعده للعقود القادمة بينما تزداد قدرته تجلّيًا وظهورًا في إعادة تشكيل المجتمع الإنسانيّ بفضل التّأثير المتنامي لظهور حضرة بهاء الله المذهل.
تحويل الكلمة الإلهيّة من عالم الألفاظ والأقوال إلى عرصة الشّهود والعيان
إنّ غاية حضرة بهاء الله ومُرادَه هو الإعلان عن مرحلة جديدة في تطوّر البشريّة، الوحدة العضويّة والرّوحانيّة لشعوب العالم وأممه، مشيرةً بذلك إلى بلوغ الجنس البشريّ، ومتّسمة ببروز مدنيّة وثقافة عالميّة عند تمام الوقت. ولتحقيق هذه الغاية أنزل حضرته تعاليمه من أجل تحويل حياة البشر ظاهرًا وباطنًا. فذكر حضرته، "إنّ كلَّ آيةٍ من آياتِه المُنزلة هي بابٌ مبينٌ لظهور الأَخلاق الرّوحانيّة والأعمال المُقدّسة." وفي ألواحٍ لا تُحصى شخّص حضرته، وهو الطّبيب الإلهيّ، تلك الأمراض الّتي تصيب البشريّة، ووصف علاجه الشّافي "لعلوِّ من على الأرض ورفعتِهم وتربيتِهم وحفظِهم وتهذيبِهم." وشرح حضرة بهاء الله، "ولا يختصّ هذا النّداء وهذا الذِّكر بمملكةٍ أو مدينة." وكتب حضرته، "فعلى كلّ ذي بصر وسمع أن يَجْهَدَ كلّ الجهد حتّى تتحوّل الوسائل المذكورة جميعها من عالم الألفاظ والأقوال إلى عرصة الشّهود والعيان ... طوبى لمنْ أصْبح قائمًا على خدمة الأمم."
إنّ مهمّة بناء عالم بالغ الرّشد يسوده السّلام والعدل والاتّحاد لهي مشروع ضخم يجب أن يكون بمقدور كلّ شعب وكلّ أمّة المشاركة فيه. والجامعة البهائيّة ترحّب بالجميع للانضمام إلى هذا المسعى كنصراء في مشروع روحانيّ يمكنه التّغلّب على قوى الهدم الّتي تنخر في النّظام الاجتماعيّ القديم، ويعطي شكلًا ملموسًا لعمليّة بناء تكامليّة ستؤدّي إلى تكشّف نظمٍ جديدٍ بدلًا عنه. إنّ عصر التّكوين هو تلك الفترة الحاسمة من تطوّر أمر الله والّتي سيزداد فيها إدراك الأحبّاء للمهمّة الّتي ائتمنهم عليها حضرة بهاء الله، وتعميق فهمهم لمعاني ومضامين كلمته المنزلة، ورعاية القدرة وتنميتها بأسلوبٍ منهجيّ، قدرتهم وقدرة الآخرين، حتّى يضعوا تعاليم حضرته قيد التّطبيق العمليّ من أجلِ إصلاح العالم.
لقد قام حضرة شوقي أفندي منذ بداية ولايته بهدايةِ البهائيّين في جهودهم الرّامية إلى اكتساب فهمٍ أعمق لرسالتهم الّتي من شأنها أن تحدّد هويّتهم وغايتهم. فأوضح لهم القصد من مجيء حضرة بهاء الله، ورؤيته للإنسانيّة، وتاريخ الأمر المبارك، والعمليّات الّتي تعيد تشكيل المجتمع، والدّور الّذي يجب أن يقوم به البهائيّون في المساهمة في تقدّم الجنس البشريّ. وشرح حضرته طبيعة تطوّر الجامعة البهائيّة حتّى يُدرك الأحبّاء أنّها ستخضع على مرّ العقود والقرون لعدّة تحوّلات غير متوقّعة في الغالب. كما وصف حضرته جدليّة الأزمات والانتصارات، مهيّئًا إيّاهم للطّريق الشّاقّ المتعرّج الّذي عليهم اجتيازه. ودعا البهائيّين لأن يهذّبوا أخلاقهم ويشحذوا أذهانهم لمواجهة تحدّيات بناء عالم جديد. وحثّهم على ألّا ييأسوا عند التّصدّي لمشاكل جامعةٍ وليدةٍ سريعة التّطوّر، أو للحرمان والأوضاع المتردّيّة لعصر مضطرب، مذكّرًا إيّاهم بأنّ التّجلّي الكامل لوعود حضرة بهاء الله يكمن في المستقبل. وشرح حضرته أنّ على البهائيّين أن يكونوا بمثابة الخميرة، ذوي تأثيرٍ نافذٍ مُحيٍ بحيث يُمكنهم إلهام الآخرين للنّهوض والتّغلّب على النّماذج المترسِّخة للانقسام والفرقة والنّزاع والصّراع تعطُّشًا للسُّلطة والنّفوذ، حتّى تتحقّق في النّهاية أسمى تطلّعات الإنسانيّة وأمانيها.
وبينما كان يقوم بتعزيز هذه المجالات الواسعة من الفهم والإدراك، عمل حضرة وليّ أمر الله أيضًا على توجيه المؤمنين خطوة بخطوة لأن يتعلّموا كيف يؤسّسون القاعدة الهيكليّة للنّظمِ الإداريّ بشكل فعّال، إلى جانب قيامهم بمشاركة الآخرين بتعاليم حضرة بهاء الله بأسلوبٍ منهجيّ. فوجّه جهودهم بكلّ صبرٍ وأناة من خلال التّوضيح التّدريجيّ للطّبيعة والمبادئ والإجراءات الّتي تميّز هذا النّظم، مع قيامه برفع قدرتهم على تبليغ الأمر المبارك فرديًّا وجماعيًّا. وفي كلّ مسألة حيويّة كان يمدّ المؤمنين بالهدايات، فيقومون بالمشورة فيما بينهم ويسعَون جاهدين لتطبيقها، ويشاركونه بتجاربهم ويسألونه فيما يواجهونه من مشاكل وصعوبات معقّدة. عندئذٍ، يُبادر حضرته، آخذًا بالاعتبار الخبرة المتراكمة، إلى إرسال توجيهات إضافيّة ويوضّح الأفكار والمبادئ الّتي ستمكّن الأحبّاء من تعديل مسار عملهم عند الاقتضاء، إلى أن تُبرهِن جهودهم فعّاليّتها ويكون بالإمكان تطبيقها على نطاقٍ أوسع. وفي استجابتهم لتوجيهات حضرته أظهر الأحبّاء إيمانًا راسخًا بحقيقة الكلمة الإلهيّة المُنزَلة، وثقة تامّة برؤيته وحكمته المعصومة، وعزمًا لا يلين لتحويل حياتهم بمختلف جوانبها لتتواءم والنّموذج الّذي ورد في التّعاليم الإلهيّة. وبهذه الطّريقة تمّ بالتّدريج رعاية وتنمية القدرة على تعلّم كيفيّة تطبيق التّعاليم الإلهيّة داخل الجامعة. هذا، وقد تجلّت فعّاليّة هذه المقاربة بغاية الوضوح في أوج ولايته حينما وحّد العالمُ البهائيّ قواه وسخّرها لتحقيق الإنجازات غير المسبوقة لمشروع السّنوات العشر الرّوحانيّ.
إنّ الجهود الّتي بذلها حضرة شوقي أفندي في وضع المؤمنين على دربٍ من التّعلّم قد توسّعت أكثر بعد صعوده بفضل توجيهات بيت العدل الأعظم. ففي السّنوات الأخيرة من القرن الأوّل من عصر التّكوين أدرك الأحبّاء في أنحاء العالم بكلّ وعي تلك الجوانب الأساسيّة لعمليّة التّعلّم الّتي كانت في مهدها في مستهلّ ذلك القرن، وأخذ البهائيّون يطبّقونها منهجيًّا على كامل نطاق مساعيهم.
واليوم، تتميّز الجامعة البهائيّة بأسلوب من العمل يتّسم بالدّراسة والمشورة والعمل والمراجعة والتّقييم. وهو ما يزيد من قدرتها بشكل مطّرد على تطبيق التّعاليم الإلهيّة في فضاءات اجتماعيّة متنوّعة، والتّعاون مع الأفراد في المجتمع الأوسع الّذين يشاركونهم التّوق لبعث الحيويّة والنّشاط في الأسس المادّيّة والرّوحانيّة للنّظام الاجتماعيّ. وفي هذه الفضاءات الّتي يجري فيها التّحوّل والتّغيير، يصبح الأفراد والجامعات، إلى أبعد مدى ممكن، أنصارَ تطوّرهم الذّاتيّ، ويعمل الإيمان بمبدأ وحدة الجنس البشريّ على محو التّعصّب وعدم قبول الآخر المختلف، ويتعزّز البُعد الرّوحانيّ لحياة البشر بالالتزام بالمبدأ وتقوية السّمة التّعبّديّة للجامعة، وتتطوّر القدرة على التّعلّم وتُوجَّه نحو التّحوّل الشّخصيّ والاجتماعيّ. والآن غدا الجهد المبذول لفهم مضامين ما أنزله حضرة بهاء الله وتطبيق علاجه الشّافي واضحًا ومدروسًا بشكل أكبر، وجزءًا لا يُمحى من الثّقافة البهائيّة. إنّ الإدراك الواعي لعمليّة التّعلّم، وامتدادها إلى شتّى أنحاء العالم، من مستوى القاعدة وصولًا إلى السّاحة العالميّة، هما من بين أبدع ثمرات القرن الأوّل من عصر التّكوين. وستُسهم هذه العمليّة بشكل متزايد في توجيه عمل كلّ مؤسّسة وجامعة وفرد في السّنوات القادمة، بينما يتولّى العالم البهائيّ معالجة تحدّيات تزداد تعقيدًا، ويُطلق قوّة بناء المجتمع الكامنة في الأمر المبارك بدرجات متعاظمة.
في معرض جهوده لمساعدة الأحبّاء على فهمهم لتطوّر أمر الله وإدراكهم لمسؤوليّاتهم المرتبطة بذلك، أشار حضرة شوقي أفندي إلى تأثيرات "القوى الثّلاثيّة الّتي تولّدت من نزول لوح الكرمل من يراعة حضرة بهاء الله وألواح الوصايا وألواح الخطّة الإلهيّة الّتي خلّفها مركز العهد والميثاق – الدّساتير الثّلاثة الّتي وَضعت قيد التّنفيذ ثلاث عمليّات واضحة المعالم، الأولى تعمل في الأرض الأقدس على تطوير مؤسّسات أمر الله في مركزه العالميّ، والاثنتان الأخريان تعملان على نشر نفحات الله وتأسيس نظمه الإداريّ في بقيّة أنحاء العالم البهائيّ." والعمليّات المرتبطة بكلّ واحدة من هذه الدّساتير الإلهيّة تعتمد على بعضها البعض وتُعزّز الواحدة منها الأخرى. إنّ النّظم الإداريّ هو الأداة الأساسيّة لتنفيذ الخطّة الإلهيّة، في حين أنّ الخطّة الإلهيّة هي الواسطة الأكثر قوّة وفعّاليّة لتطوير الهيكل الإداريّ لأمر الله. فالتّقدّم في المركز العالميّ، القلب والمركز العصبيّ للنّظم الإداريّ، له تأثير بارز على جسم الجامعة حول العالم، ويتأثّر بدوره بحيويّتها ونشاطها. إنّ العالم البهائيّ في تطوُّر مستمرّ وينمو عضويًّا مع قيام الأفراد والجامعات والمؤسّسات ببذل كلّ الجهد حتّى تتحوّل حقائق أمر حضرة بهاء الله إلى واقع فعليّ. الآن، وفي نهاية القرن الأوّل من عصر التّكوين، فإنّ العالم البهائيّ قادر بشكل أوفى على استيعاب المفاهيم المكنونة في هذه الدّساتير الخالدة الرّامية إلى تطوّر أمر الله. ولأنّه قد ازداد إدراكًا للعمليّة الّتي ينهمك فيها، فإنّ بمقدوره أن يتفهّم تجربته الخاصّة على مدار القرن الماضي بشكل أفضل، وأن يعمل بشكل أكثر فعّاليّة لتحقيق هدف حضرة بهاء الله المنشود للإنسانيّة في العقود والقرون القادمة.
ديمومة العهد والميثاق
في سبيل الحفاظ على وحدة دينه، والمحافظة على سلامة وكمال تعاليمه ومرونتها، وضمان تقدّم البشريّة جمعاء، أبرم حضرة بهاء الله مع أتباعه ميثاقًا يقف فريدًا في سجلّات التّاريخ الدّينيّ نظرًا لسلطته ووضوحه وطبيعته الشّاملة. ففي كتابه الأقدس وكتاب عهده بالإضافة إلى ألواح مباركة أخرى، أمر حضرة بهاء الله الأحبّاء بالتّوجّه بعد صعوده إلى حضرة عبد البهاء، مركز ذلك العهد والميثاق، ليقوم بهداية شؤون أمر الله. وفي ألواح وصاياه أدام حضرة عبد البهاء هذا الميثاق بوضعه التّدابير الخاصّة بالنّظم الإداريّ الّذي قضى به حضرة بهاء الله في كتاباته المقدّسة، ضامنًا بذلك استمرار السّلطة والقيادة من خلال المؤسّستيْن التّوأم، ولاية الأمر وبيت العدل الأعظم، بالإضافة إلى علاقة سليمة بين الأفراد ومؤسّسات الأمر المبارك.
لقد أظهر التّاريخ بجلاء أنّ بإمكان الدّين إمّا أن يكون أداة قويّة فعّالة للتّعاون من أجل دفع عجلة تقدّم المدنيّة وتطوّرها، أو مصدرًا للخلاف لا يثمر إلّا أضرارًا لا حصر لها. فقوّة الدّين الموحِّدة والدّافعة نحو التّمدّن والحضارة إنّما تبدأ بالتّداعي عندما ينتهي الأمر بالأتباع إلى الاختلاف حول معنى التّعاليم الإلهيّة وتطبيقها، وتصبح جامعة المؤمنين منقسمة إلى طوائف ومذاهب متخاصمة. إنّ هدف ظهور حضرة بهاء الله هو تأسيس وحدة الجنس البشريّ واتّحاد جميع الشّعوب، ولا يمكن أن تتحقّق هذه المرحلة الأخيرة والأعلى في تطوّر المجتمع إذا ابتلي الدّين البهائيّ بداء الطّائفيّة وبتوهين الرّسالة الإلهيّة الّذي شهدناه في الأدوار السّابقة. يتفضّل حضرة عبد البهاء: "إذا لم يتمكّن البهائيّون من التّجمّع حول نقطة واحدة، فكيف يمكنهم تحقيق وحدة الجنس البشريّ؟" ويؤكّد حضرته بأنّ "القوّة المحرّكة لعالم الوجود اليوم هي قوّة الميثاق فهي كالشّريان الّذي ينبض في جسم عالم الإمكان ويُحافظ على الوحدة البهائيّة."
من أبرز إنجازات القرن الماضي غَلَبة العهد والميثاق الّذي حمى أمر الله من الانقسام ودفعه لاحتضان كافّة الشّعوب والأمم والمساهمة في تمكينهم. إنّ سؤال حضرة بهاء الله الهامّ والعميق والّذي يكمن في صُلب الدّين وكنهه، "بأيّ شيء تشدّ عروةَ دينك وحبلَ طاعتك؟"، إنّما يتّخذ مغزًى وأهمّيّة جوهريّة بالنّسبة للّذين يعترفون بحضرته كمظهر إلهيّ لهذا اليوم. إنّه دعوة للثّبات على العهد والميثاق. كانت إجابة الجامعة البهائيّة عن هذا السّؤال في تمسّكها التّامّ ببنود ألواح وصايا حضرة عبد البهاء. وخلافًا لعلاقات السّلطة الدّنيويّة الّتي يفرض فيها كيان ذو سيادة سلطويّة الطّاعةَ بالقوّة، فإنّ العلاقة بين المظهر الإلهيّ والمؤمنين وبين السّلطة المُعيَّنة بموجب الميثاق والجامعة، إنّما تحكمها معرفة واعية ومَحَبّة صادقة. وبالإيمان بحضرة بهاء الله يدخل المؤمن طواعية في ميثاقه كفعلٍ نابع من ضميرٍ حرّ، وبدافع من محبّته لحضرته يبقى ثابتًا في تمسّكه بمتطلّباته. ومع ختام القرن الأوّل من عصر التّكوين، توصّل العالم البهائيّ إلى فهمٍ أكمل لمضامين عهد وميثاق حضرة بهاء الله والعمل وفقها. ونشأت مجموعة من العلاقات المتميّزة بين المؤمنين الّتي من شأنها أن توحّدهم وتوجّه طاقاتهم سعيًا لتحقيق رسالتهم المقدّسة. وكان هذا الإنجاز، مثل العديد من الإنجازات الأخرى، ثمرة التّغلُّب على الأزمات.
إنّ وجود العهد والميثاق لا يعني أنّ أحدًا لن يحاول أن يُحدث شرخًا في أمر الله ويتسبّب في ضَرّه والإساءة إليه أو إعاقة تقدّمه. ولكنّه يضمن أنّ كلّ محاولة كهذه مآلُها الفشل. فبعد صعود حضرة بهاء الله، حاول بعض الأفراد الطّامعين، ومن ضمنهم إخوة حضرة عبد البهاء، اغتصاب السّلطة الّتي منحها حضرة بهاء الله لحضرة عبد البهاء ونثروا بذور الشّكّ داخل الجامعة، وأوقعوا المتزلزلين في الامتحان وأضلّوهم في بعض الأحيان. وقد تعرّض حضرة شوقي أفندي إبّان ولايته لهجومٍ ليس من قِبَل أولئك الّذين نقضوا العهد والميثاق وعارضوا حضرة عبد البهاء فحسب، بل من بضعة أفراد من الجامعة نفسها ممّن أنكروا شرعيّة النّظم الإداريّ وشكّكوا في سلطة ولاية الأمر. وبعد سنوات، حينما صعد حضرة شوقي أفندي برز هجوم جديد على العهد والميثاق عندما قام شخصٌ مُضلَّل تمامًا، رغم أنّه قد خدم سنوات عديدة في وظيفة أيادي أمر الله، بمحاولة عقيمة لا أساس لها تتمثّل في الادّعاء بولاية الأمر لنفسه رغم الشّروط الواضحة المذكورة في ألواح الوصايا. وبعد انتخاب بيت العدل الأعظم، أصبح هو الآخر هدفًا للمعارضين النّاشطين لأمر الله. وفي العقود الأخيرة سعت عبثًا قلّة قليلة من الأفراد من داخل الجامعة ممّن اعتبروا أنفسهم أكثر معرفةً من الباقين، لإعادة تفسير التّعاليم البهائيّة فيما يتعلّق ببنود العهد والميثاق من أجلِ التّشكيك في سلطة بيت العدل الأعظم والمطالبة بامتيازات معيّنة تمكّنهم، في ظلّ عدم وجود وليّ أمرٍ على قيد الحياة، من قيادة شؤون أمر الله في الاتّجاه الّذي يختارونه.
وعليه، وعلى مدى قرن من الزّمان، تعرّض العهد والميثاق، الّذي أسّسه حضرة بهاء الله وأدامه حضرة عبد البهاء، للهجوم بطرق مختلفة من قِبَل معارضين من الدّاخل والخارج، ولكن دون جدوى في نهاية المطاف. ففي كلّ مرّة، بينما تمّ تضليل بعض الأفراد أو أصبحوا غير موالين، إلّا أنّ الهجمات فشلت في تحويل الأمر المبارك عن مساره أو تحريف مقاصده أو إحداث شرخ دائم في الجامعة. وفي كلّ حالة، وبفضل التّوجّه إلى المرجع المعيّن في ذلك الوقت، حضرة عبد البهاء، أو حضرة وليّ أمر الله، أو بيت العدل الأعظم، كانت هناك إجابة عن الأسئلة وحلّ للمُشكلات. ومع تنامي فهم جموع المؤمنين للعهد والميثاق واستقامتهم وثباتهم عليه، تعلّموا كيف يقفون سدًّا منيعًا في وجه جميع أنواع الهجمات وتحريف وتشويه الحقائق الّتي عرّضت في عصرٍ سابق وجود أمر الله وغايته للخطر. وهكذا، تبقى نزاهة وسلامة أمر حضرة بهاء الله محفوظة ومصانة إلى الأبد.
إنّ كلّ جيل من البهائيّين مهما كان إدراكُه الرّوحانيّ عظيمًا، فمن المحتّم أن يكون فهمه واستيعابه لكامل مضامين تعاليم حضرة بهاء الله محدودًا، نظرًا لتقييدات ظروفه التّاريخيّة والمرحلة الخاصّة الّتي يمرّ بها التّطوّر العضويّ لأمر الله. ففي العصر الرّسوليّ للدّين البهائيّ، على سبيل المثال، كان على المؤمنين أن يتلمّسوا طريقهم عبر ما كان بالتّأكيد في بعض الأحيان بمثابة سلسلة من التّحوّلات الثّوريّة المضطربة لمراحل الانتقال من دورة حضرة الباب إلى دورة حضرة بهاء الله، ومن ثمّ إلى ولاية حضرة عبد البهاء – والآن عندما ننظر إلى الوراء، بفضل أنوار تبيين وتفسير حضرة شوقي أفندي، يمكننا إدراك كلّ هذه الأحداث بسهولة على أنّها مشاهد متسلسلة في ملحمة إلهيّة تتكشّف للعيان. وكذا الحال اليوم أيضًا، فبعد انقضاء قرنٍ كامل من المساعي الدّؤوبة للجامعة طيلة القرن الأوّل من عصر التّكوين، من الممكن أن نُدرك على نحوٍ أكمل أهمّيّة ومغزى العهد والميثاق وغايته ومَنعته، ذلك الإرث النّفيس الّذي تركه حضرة بهاء الله لأتباعه. إنّ الفهم الّذي تمّ اكتسابه بشقّ الأنفس لطبيعة العهد والميثاق والرّسوخ والثّبات الّذي تُولّده وتستديمه تلك البصيرة، سيبقى أمرًا أساسيًّا وضروريًّا للوحدة والتّقدّم على مدى هذا الدّور البهائيّ.
من الواضح والمؤكّد الآن أنّ عهد وميثاق حضرة بهاء الله يشمل مرجعيْن للسّلطة، الأوّل هو الكتاب؛ الآثار الكتابيّة لحضرة بهاء الله، مضافًا إليها كتابات حضرة عبد البهاء وحضرة شوقي أفندي الّتي تشكّل التّبيين والتّفسير المعتمد للكلمة الإلهيّة الخلّاقة. وبصعود حضرة شوقي أفندي انتهى هذا المرجع الّذي امتدّ لقرن ونيّف. لكنّ وجود الكتاب يضمن بقاء الكلمة الإلهيّة نقيّةً منزّهة عن تفسيرات بشريّة خاطئة أو إضافات، ومتاحة لكلّ مؤمن، لا بل للإنسانيّة قاطبةً في واقع الأمر.
والمرجع الثّاني للسّلطة هو بيت العدل الأعظم الّذي، كما تؤكّده الكتابات المقدّسة، هو تحت حفظ وصون الجمال الأبهى وحضرة الأعلى والعصمة الفائضة عنهما. يوضّح حضرة عبد البهاء "لا ينبغي التّصوّر أنّ بيت العدل الأعظم يتّخذ أيّ قرار وفقًا لفكره ورأيه الخاصّ، استغفر الله! فبيت العدل الأعظم يتّخذ القرار ويجري الأحكام بإلهام وتأييد روح القدس، لأنّه في صون جمال القدم وفي ظلّ حفظه ووقايته." ويصرّح حضرة بهاء الله "إنَّه يلهمهم ما يشاء." ويبيّن حضرة شوقي أفندي بأنّهم "الّذين جُعلوا مهبطًا للهداية الإلهيّة الّتي هي دم الحياة لهذه الرّسالة المباركة ودرعها الأوقى."
إنّ السّلطات والواجبات الّتي أُوكلت إلى بيت العدل الأعظم تشمل كلّ ما يلزم لضمان تحقيق غاية حضرة بهاء الله للإنسانيّة. وبما يزيد عن نصف قرن، شهد العالم البهائيّ بأمّ عينه مدى نطاقها وتعبيراتها، بما في ذلك نشر أحكام الله، والحفاظ على الكتابات البهائيّة المقدّسة ونشرها، وتقوية دعائم النّظم الإداريّ، وإيجاد مؤسّسات جديدة، ووضع خطط لمراحلَ متعاقبةٍ في تكشّف الخطّة الإلهيّة، وحماية أمر الله وصون وحدته، بالإضافة إلى جهود تؤدّي إلى رفعة الإنسان وسموّه وتقدُّم العالم واستنارة شعوبه. إنّ شروحات وتوضيحات بيت العدل الأعظم من شأنها أن تحلّ جميع المسائل المُشكِلة، والمسائل المُبهمة، وكلّ ما وقع فيه اختلاف، والأمور غير المنصوصة في الكتاب. وسينعم الجميع بهداية بيت العدل الأعظم طوال هذا الدّور البهائيّ وفقًا لمقتضيات الزّمان، وفي ذلك ضمانٌ بأنّ الأمر الإلهيّ، كالكائن الحيّ، قادر على التّكيّف وفق احتياجات ومتطلّبات مجتمع دائم التّغيير. وهذا المرجع يضمن أنّ أحدًا لا يمكنه تبديل أو تعديل طبيعة رسالة حضرة بهاء الله أو تغيير الخصائص الجوهريّة للأمر المبارك.
في كتاب الإيقان يتساءَل حضرة بهاء الله، "أيّ ضيق وشدّة أشدّ من هذه المراتب المذكورة، فإنّه إذا أراد شخص أن يطلب حقًّا أو يلتمس معرفة، فلا يدري إلى من يذهب وممّن يطلب؟" إنّ عالمًا غافلًا إلى حدّ بعيد عن نور ظهور حضرة بهاء الله يجد نفسه منقسمًا ومشوّشًا بشكلٍ متزايدٍ في أمور تخصّ الحقيقة والأخلاق والهويّة والهدف، ويقف حائرًا تجاه التّأثير المتسارع والمدمّر لقوى الهدم والانحلال. بيد أنّ العهد والميثاق يوفّر للجامعة البهائيّة مصدرًا للوضوح والأمان والحرّيّة والقوّة. فلكلّ مؤمن الحرّيّة ليستكشف بحر ظهور حضرة بهاء الله، ويتوصّل إلى استنتاجاتٍ شخصيّة، ويُشارك البصائر مع الآخرين بكلّ تواضع، ويسعى جاهدًا يومًا بعد يوم في تطبيق التّعاليم الإلهيّة. كما أنّ المساعي الجماعيّة يجري تنسيقها وتركيزها من خلال المشورة وتوجيه المؤسّسات فتعمل على تحويل الرّوابط بين الأفراد وداخل العائلات وبين الجامعات، وتعزيز التّقدّم الاجتماعيّ.
بدافع من محبّتهم لحضرة بهاء الله وشعورهم بالاطمئنان إزاء أحكامه وأوامره الواضحة، يجد الأفراد والجامعات والمؤسّسات في مركزيّ العهد والميثاق الهداية الضّروريّة لتكشّف دين الله والحفاظ على سلامة ونزاهة التّعاليم الإلهيّة. وبهذه الطّريقة، فإنّ العهد والميثاق يحمي ويصون عمليّة الحوار والتّعلّم عن معاني الكلمات الإلهيّة وتنفيذ توصياتها للبشريّة طوال فترة هذا الدّور البهائيّ، ويعمل على تجنّب التّأثيرات الضّارة لاختلافات لا نهاية لها حول معنى التّعاليم وكيفيّة تطبيقها. ونتيجة لذلك، تُصان العلاقة المتوازنة بين الأفراد والجامعات والمؤسّسات وتتطوّر في مسارها الصّحيح، في الوقت الّذي يستطيع فيه الجميع تحقيق إمكاناتهم الكاملة وممارسة امتيازاتهم وصلاحيّاتهم. وبالتّالي يمكن للجامعة البهائيّة أن تتقدّم متّحدةً وتُحقّق غايتها الجوهريّة بشكلٍ متزايد من خلال قراءة الواقع وتوليد المعرفة، وتوسيع نطاق مساعيها، والإسهام في تقدّم المدنيّة. وبعد انقضاء ما يزيد عن قرن، فإنّ صدق بيان حضرة عبد البهاء بأنّ "قوّة الميثاق دون سواها هي محور وحدة العالم الإنسانيّ" يبدو أكثر وضوحًا وجلاءً من أيّ وقت مضى.
تكشّف النّظم الإداريّ
علاوة على إدامتها للعهد والميثاق، أرست ألواح وصايا حضرة عبد البهاء الأساس لإنجاز آخر من أهمّ إنجازات القرن الأوّل لعصر التّكوين: تأسيس وتطوّر النّظم الإداريّ، وليد الميثاق. ففي قرنٍ واحدٍ فقط، نما النّظم الإداريّ، الّذي بدأ بالتّركيز على تأسيس المؤسّسات المُنتخَبة، وازداد اتّساعًا وتعقيدًا، وانتشر في أنحاء العالم إلى أن ربط بين جميع الشّعوب والبلدان والأقاليم. كما أنّ الكتابات المقدّسة لحضرة بهاء الله وحضرة عبد البهاء الّتي أوجدت هذه المؤسّسات قد حدّدت أيضًا الرّؤية والصّلاحيّات الرّوحانيّة لهذه المؤسّسات لمساعدة البشريّة في بناء عالم يسوده العدل والسّلام.
من خلال النّظم الإداريّ لأمره المنيع، فإنّ حضرة بهاء الله قد ربط الأفراد والجامعات والمؤسّسات معًا كأنصار في نظم لم يسبق له مثيل ولا نظير. ووفقًا لاحتياجات عصر البلوغ الإنسانيّ، نسخ حضرته الممارسة التّاريخيّة التّقليديّة الّتي كان يمسك رجال الدّين بموجبها بزمام السّلطة الدّينيّة، يأمرون وينهَوْن جماعة المؤمنين ويديرون شؤونهم. ومن أجل الحيلولة دون وقوع تحدٍّ بين العقائد الفكريّة المُتنافسة، حدّد حضرته وسائل التّعاون في البحث عن الحقيقة والسّعي لتحقيق خير الإنسانيّة ورفاهها. فبدل البحث عن سلطة تُمارَس على الآخرين، وضع تدابير من شأنها أن ترعى وتُعزّز القوى الكامنة في الفرد والتّعبير عنها في خدمة الصّالح العام. فالأمانة والصّدق واستقامة السّلوك والصّبر والتّحمّل والمحبّة والوحدة والاتّحاد هي من بين الصّفات الرّوحانيّة الّتي تشكّل أساس الرّابطة بين الأنصار الثّلاثة لأسلوب جديد للحياة، في حين تتشكّل كافّة الجهود المبذولة لتحقيق التّقدّم الاجتماعيّ من خلال رؤيا حضرة بهاء الله لوحدة العالم الإنسانيّ.
في الوقت الّذي صعد فيه حضرة عبد البهاء، كانت مؤسّسات أمر الله تتألّف من عددٍ قليلٍ من المحافل المحلّيّة الّتي تعمل بطرق متباينة. وكان هناك عدد ضئيل فقط من الوكالات تعمل خارج المستوى المحلّيّ، ولم تكن هناك محافل روحانيّة مركزيّة. وكان حضرة بهاء الله قد عيّن أربعة من أيادي أمر الله في إيران، وجّه حضرة عبد البهاء أنشطتهم لتقدّم الأمر المبارك وحمايته، لكنّه لم يُضف إلى عددهم سوى أربعة أيادي عُيّنوا بعد صعودهم. وهكذا، فحتّى ذلك الوقت، لم يكن أمر حضرة بهاء الله، الزّاخر بالرّوح والإمكانات، قد شكّل بعد آليّة النّظم الإداريّ الّتي ستمكّنه من تنظيم جهوده.
في الأشهر الأولى من ولايته، اتّجهت نيّة حضرة شوقي أفندي إلى تأسيس بيت العدل الأعظم على الفور. إلّا أنّه، بعد إعادة النّظر في وضع أمر الله في جميع أنحاء العالم، سرعان ما خلُص إلى أنّ الشّروط اللّازمة لتشكيل بيت العدل الأعظم لم تكن قد استُوفيت بعد. وبدلًا من ذلك، شجّع البهائيّين في كلّ مكان على تركيز طاقاتهم على تشكيل المحافل الرّوحانيّة المحلّيّة والمركزيّة. وذكر بأنّه "ستتأسّس وتترسّخ أعمدة المحافل الرّوحانيّة المركزيّة لأهل البهاء تدريجيًّا في كلّ بلد على الأسس المتينة والمنيعة للمحافل الرّوحانيّة المحلّيّة. وعلى هذه الأعمدة سيرتفع بنيان القصر المشيد لبيت عدله الأعظم عاليًا فوق عالم الوجود."
في مساعدة الأحبّاء على فهم عملهم المتمثّل بإرساء أُسس جامعتهم، أكّد حضرة شوقي أفندي أنّ النّظم الإداريّ ليس غاية في حدّ ذاته، بل وسيلة لجريان وتوجيه روح الأمر المبارك. وأبرز حضرته الطّابع العضويّ للنّظم الإداريّ البهائيّ موضّحًا بأنّه "الشّكل الأوّليّ لما ستؤول إليه الحياة والقوانين الاجتماعيّة في المستقبل" وأنّ "المؤمنين ما زالوا في بداية فهمه وممارسته بالشّكل الصّحيح". كما أوضح أيضًا أنّ النّظم الإداريّ كان "النّواة والنّموذج" لما سيصبح في نهاية المطاف نظمًا جديدًا تصوّره حضرة بهاء الله لتنظيم شؤون الإنسانيّة. وهكذا، عندما بدأ الأحبّاء برفع صرح النّظم الإداريّ، صار بمقدورهم أن يُدركوا أنّ العلاقات بين الأفراد والجامعات والمؤسّسات الّتي يتمّ تأسيسها ستتطوّر من حيث التّعقيد، لتفضي إلى نماء في القدرة بمرور الوقت مع توسّع أمر الله واستحداثه نموذجًا جديدًا من الحياة قادرًا على إشراك شعوب العالم على نطاق أوسع.
من خلال تبادل مستمرّ للمراسلات، أرشد حضرة شوقي أفندي الأحبّاء خطوة بخطوة في جهودهم لتعلّم تطبيق التّعاليم الخاصّة بالنّظم الإداريّ، وتعميق فهمهم لهدفه وضرورته وأساليبه وهيكله ومبادئه ومرونته وطريقة عمله، مع تأكيده وإثباته لهم أسّ أساس هذه المسائل في الكتابات البهائيّة المقدّسة. كما ساعدهم في تطوير عمليّة الانتخابات البهائيّة، وتأسيس الصّناديق الخيريّة البهائيّة وإدارتها، والتّرتيب لعقد مؤتمر الوكلاء المركزيّ، وبناء العلاقة بين المحافل المركزيّة والمحلّيّة، ومجموعة من المسائل الأخرى. وقد بدّد حضرة شوقي أفندي شكوك وتردّد أولئك الّذين ناضلوا من أجل إدراك الاستمراريّة اللّازمة بين ثقافة وممارسات الحياة البهائيّة في زمن حضرة عبد البهاء والخطوات الّتي كان يتّخذها، بصفته وليًّا لأمر الله، لإرساء أُسس النّظم الإداريّ للمرحلة التّالية من تطوّر الأمر المُبارك. وبينما كان المؤمنون يديرون شؤونهم الإداريّة، كان يجيب عن أسئلتهم بكلّ صبر وأناة، ويعمل على حلّ مشاكلهم، وتعزيز الحياة الجماعيّة للجامعة البهائيّة حول العالم. وبالتّدريج، تعلّم الأحبّاء أن يعملوا بانسجام، ويلتزموا بقرارات مؤسّساتهم ويدعموا تقدّمها، ويدركوا أنّ الفهم والقدرة على العمل سيزدادان بمرور الوقت. وشرعت المحافل المحلّيّة في العمل وفق إجراءات ثابتة للانتخابات والمشورة والشّؤون الماليّة وإدارة حياة الجامعة. تمّ تشكيل المحافل المركزيّة بدايةً في الجزر البريطانيّة، وألمانيا والنّمسا، والهند وبورما، ومصر والسّودان، والقوقاز، وتركستان، والولايات المتّحدة وكندا. وتمشّيًا مع الطّبيعة العضويّة للنّظم الإداريّ، غالبًا ما كانت المحافل المركزيّة تُشكَّل أوّلًا في المستوى الإقليميّ، وتضمّ أكثر من دولة واحدة، وفي وقت لاحق، ومع تضاعف أعداد المؤمنين والمحافل المحلّيّة، أصبحت تتشكّل في مستوى البلد أو الأرض. وفي أعقاب هذه المؤسّسات، تمّ تشكيل مجموعة من اللّجان المختلفة على المستوىيْن المحلّيّ والمركزيّ، وذلك من أجل تعزيز الجهود الجماعيّة في طيفٍ واسع من المجالات بما في ذلك نشر نفحات الله والتّرجمة والطّبع والنّشر والتّربية والتّعليم والهجرة وتنظيم الضّيافات التّسع عشريّة والأيّام المحرّمة.
بعد ثلاثة عقود كُرّست لتشييد صرح النّظم الإداريّ على المستوييْن المحلّيّ والمركزيّ، افتتح حضرة شوقي أفندي في السّنوات الأخيرة من حياته مرحلة جديدة من تطوّر النّظم الإداريّ بإيجاد مؤسّسات على المستوييْن العالميّ والقارّيّ. بدأت "بتشييد وتأسيس المركز الإداريّ العالميّ لدين حضرة بهاء الله الّذي طال انتظاره في الأرض الأقدس". وفي عام 1951 أعلن حضرته عن تشكيل المجلس البهائيّ العالميّ. وأوضح أن هذه المؤسّسة الجديدة ستتطوّر عبر مراحل مختلفة تمهيدًا لتحوّلها وإزهارها النّهائيّ إلى بيت العدل الأعظم.
سرعان ما أعقب هذا التّطوّر الهائل في نهاية العام نفسه تعيين حضرة شوقي أفندي اثني عشر أيادي لأمر الله، ممثَّلين بالتّساوي في ثلاث قارّات وفي الأرض الأقدس – وهم أوّل كوكبة من أيادي أمر الله عُيّنت طبقًا لنصّ ألواح وصايا حضرة عبد البهاء. إنّ هذه الزّمرة الرّفيعة الشّأن قد عيّنت من أجل تقدّم عمل نشر نفحات أمر الله وحفظه وحمايته. إنّ وجود مؤسّسة تقوم بمثل هذا الدّور الحيويّ في تعزيز مصالح الأمر المبارك، ولكنّها لا تملك سلطة تشريعيّة أو تنفيذيّة أو قضائيّة، ومجرّدة تمامًا من الوظائف الكهنوتيّة أو الحقّ في تقديم تبيينٍ معتمد، هي سمة من سمات النّظم الإداريّ البهائيّ لا مثيل لها ولا نظير في الأديان السّابقة. بعد سنوات عديدة من رعاية نظام المحافل المُنتخبة والوكالات المرتبطة بها، بدأ حضرة شوقي أفندي في تشكيل هذه المؤسّسة المُعيّنة، وتوجيه الأحبّاء لفهمها، والاحتفاء بها، ودعم وظائفها الفريدة. وأدّى تعيين كوكبة ثانية من الأيادي في عام 1952 إلى رفع عددهم إلى تسعة عشر. في عام 1954، تأسّست هيئات معاوني الأيادي الّتي خدم أعضاؤها ممثّلين عن أيادي أمر الله في كلّ قارّة. استمرّ حضرة وليّ أمر الله في توسيع هذه المؤسّسة حتّى الأيّام الأخيرة من حياته، مُعيّنًا كوكبة أخيرة من الأيادي ليرفع عددهم إلى سبعة وعشرين، ومؤسّسًا هيئة معاوني الأيادي لحماية أمر الله لتكون مكمّلة لهيئة نشر النّفحات.
لدى التّأمّل في جهودهم لبناء الشّكل النّاشئ للإدارة، وضّح حضرة شوقي أفندي للمؤمنين أنّ كثيرًا ممّا تمّ تأسيسُه في ظلّ توجيهاته هو تدابيرُ مؤقّتة، وأنّ وظيفة بيت العدل الأعظم "أن يضع بشكل أكثر تحديدًا ووضوحًا تلك الخطوط العريضة الّتي يجب أن توجّه الأنشطة والأمور الإداريّة المستقبليّة" لأمر الله. وفي مناسبة أخرى، كتب بأنّه "عندما تتأسّس هذه الهيئة العُليا كما ينبغي ويليق، سيتعيّن عليها أن تنظر في الوضع برمّته من جديد وتضع المبدأ الّذي سوف تُدار بموجبه شؤون أمر الله في كلّ زمان حسبما تراه مستصوبًا."
بعد صعود حضرة شوقي أفندي المفاجئ في تشرين الثّاني/نوفمبر 1957، وقعت مسؤوليّة إدارة شؤون أمر الله لفترة وجيزة على كاهل أيادي أمر الله. وقبل شهر واحد فقط، كان حضرة وليّ أمر الله قد عيّنهم ليكونوا "الحماة الرّئيسيّين للنّظم العالميّ البديع لحضرة بهاء الله الّذي لا زال في طور الجنين، الّذين أوكل إليهم قلم مركز العهد والميثاق المعصوم الوظيفة المزدوجة المتمثّلة في حماية دين والده وضمان انتشاره". وقد التزم أيادي أمر الله بكلّ أمانة وتصميم بالمسار الّذي خطّه حضرة وليّ أمر الله. وتحت إشرافهم وإدارتهم، ارتفع عدد المحافل المركزيّة من ستّة وعشرين إلى ستّة وخمسين، وبحلول عام 1961 كانت الخطوات الّتي وصفها حضرته لانتقال المجلس البهائيّ العالميّ من هيئة معيّنة إلى هيئة مُنتخبة قد نُفِّذت، ممهِّدةً الطّريق لانتخاب بيت العدل الأعظم في عام 1963.
إنّ التّفتّح العضويّ للنّظم الإداريّ، الّذي رعاه حضرة وليّ أمر الله بعناية فائقة، تمّت رعايته وتوسيع نطاقه بشكلٍ منهجيّ تحت إشراف بيت العدل الأعظم. شهدت الفترة اللّاحقة الّتي امتدت لأكثر من نصف قرن مجموعة من الإنجازات، أبرزها وضع دستور بيت العدل الأعظم، الّذي أشاد به حضرة وليّ أمر الله واصفًا إيّاه بأنّه "النّاموس الأعظم"، وتمّ اعتماده في عام 1972. وبعد التّشاور مع حضرات أيادي أمر الله، امتدّت وظائف ومهام تلك المؤسّسة إلى المستقبل من خلال تأسيس هيئات المشاورين القارّيّة في عام 1968 ودار التّبليغ العالميّة في عام 1973. بالإضافة إلى ذلك، ولأوّل مرّة، تمّ السّماح لأعضاء هيئة المعاونين بتعيين مساعدين لتوسيع نطاق خدماتهم في مجال نشر نفحات أمر الله وحفظه وحمايته في مستوى القاعدة. وتضاعف عدد المحافل المركزيّة والمحلّيّة، وتطوّرت قدراتها على خدمة الجامعة البهائيّة واتّسع نفوذها بفضل الانخراط في المجتمع الأوسع. كما تمّ تأسيس المجالس البهائيّة الإقليميّة في عام 1997 للمساعدة في مواجهة التّعقيدات المُتزايدة للقضايا الّتي تواجه المحافل الرّوحانيّة المركزيّة مع الحفاظ على التّوازن بين المركزيّة واللّامركزيّة في الشّؤون الإداريّة للجامعة. كما أنّ نظام لجان التّبليغ الّذي أُنشئ في زمن حضرة وليّ أمر الله قد مهّد الطّريق لتحلّ محلّه تدريجيًّا هياكل بمقدورها أن تتحمّل مسؤوليّة التّخطيط وصنع القرار في عدد أكبر من المستويات البعيدة عن المركز، لتصل إلى الأحياء والقرى. وتأسّس أيضًا أكثر من ثلاثمائة معهد تدريبيّ، وأكثر من مائتيْ مجلس إقليميّ، ووُضعت ترتيبات إداريّة في أكثر من خمسة آلاف مجموعة جغرافيّة. وفي رضوان 1992 تمّ تطبيق حُكم حقوق الله عالميًّا في سائر أنحاء العالم البهائيّ واستُحكمت بنيته المؤسّسيّة لاحقًا من خلال تأسيس شبكة من "هيئات أمناء حقوق الله" و"الممثّلين" في المستويين الإقليميّ والمركزيّ، وتعيين "هيئة أمناء حقوق الله العالميّة" في عام 2005. وبعد صعود حضرة شوقي أفندي، اكتمل بناء مشارق الأذكار في كلّ من أوغندا وأستراليا وألمانيا وبنما، وشُيّدت مشارق أذكارٍ أخرى لاحقًا في ساموا والهند وتشيلي، وفي عام 2012 اتّسع نطاق عمليّة تشييد مشارق الأذكار لتطال المستويين المركزيّ والمحلّيّ.
وبالتّالي، وعلى مدار القرن، ومن خلال سلسلة من مراحل من التّطوّر، ارتقت العلاقات بين الأفراد والجامعات والمؤسّسات تدريجيًّا إلى أشكال أكثر تعقيدًا من أيّ وقت مضى، وتوسّعت أُسس النّظم الإداريّ وعُدّلت أساليبها باستمرار، وتوضّحت ترتيبات التّعاون وتمّ تحسينها باستمرار. فما بدأ في مستهلّ القرن الأوّل من عصر التّكوين كشبكة من الهيئات المُنتخَبة، قد أصبح بحلول نهاية ذلك القرن مجموعة واسعة من المؤسّسات والوكالات تمتدّ من مستوى القاعدة إلى المستوى العالميّ موحِّدة العالم البهائيّ في الفكر والعمل ضمن مشروع مشترك يجري تنفيذه عبر سياقات ثقافيّة وبيئات اجتماعيّة متنوّعة.
واليوم، مع أنّ الإدارة لم تصل بعد مرحلة بلوغها الكامل، إلّا أنّ النّظم الّذي دشّنه حضرة بهاء الله يكشف عن نموذج جديد من التّفاعلات وعن نشاط وفعّاليّة ملحوظة في العلاقات بين الأنصار الثّلاثة أثناء انخراطهم في تحقيق الهدف المشترك المتمثّل في العمل من أجل التّطوّر العضويّ لأمر الله وإصلاح العالم. فالأفراد وبرفقة زملائهم في العمل من ذوي الفكر المُماثل، وفي مختلف البيئات الدّراسيّة، والمراجعة والتّقييم، والتّفاعلات الاجتماعيّة المتعدّدة الأخرى، يعبّرون عن آرائهم ويبحثون عن الحقيقة من خلال عمليّة المشورة، ودون الإصرار على صحّة آرائهم. إنّهم يقرأون معًا واقع محيطهم، ويسبرون غور الهدايات المتاحة، ويستقون البصائر ذات الصّلة من التّعاليم الإلهيّة ومن التّجارب المتراكمة، ويوجدون بيئات تتّسم بالتّعاون والسّموّ الرّوحانيّ، ويبنون القدرة، ويباشرون بعمل يزداد فعّاليّة وتعقيدًا بمرور الوقت. وهم يحاولون التّمييز بين تلك المجالات من النّشاط الّتي من الأفضل للفرد أن يبادر للقيام بها، وتلك الّتي تقع على عاتق المؤسّسات وحدها، ويرحّبون قلبًا وروحًا بالهدايات والتّوجيهات الصّادرة عن مؤسّساتهم. وعلى امتداد المجموعات الجغرافيّة المتقدّمة وداخل القرى والأحياء الّتي تعتبر مراكز نشاط مكثّف، تبرز إلى حيّز الوجود جامعة تتمتّع بحسٍّ مشترك بالهويّة والإرادة والهدف، ممّا يوفّر بيئة تُفضي إلى رعاية وتعزيز قدرات الأفراد وتوحيدهم في طيفٍ من الأنشطة المتكاملة الّتي يدعم بعضها بعضًا وترّحب بالجميع وتسعى إلى النّهوض بكلّ فردٍ منهم. فجامعات كهذه أصبحت تمتاز بشكلٍ متزايد بحسّ الوحدة والاتّحاد بين أعضائها، وتحرّرها من التّعصّبات بجميع أنواعها، وسِمتها التّعبّديّة، والتزامها بالمساواة بين النّساء والرّجال، وخدمتها المتفانية للبشريّة، وعمليّاتها التّعليميّة وغرسها للفضائل، وقدرتها على التّعلّم بشكل منهجيّ والمساهمة في التّقدّم المادّيّ والاجتماعيّ والرّوحانيّ للمجتمع. إنّ أعضاء تلك الجامعة المدعوّين للخدمة في المؤسّسات يسعون جاهدين لأن يكونوا مدركين لواجبهم في التّخلّي عمّا يرغبون وما لا يرغبون، وألّا يعتبروا أنفسهم أبدًا طراز هيكل أمر الله أو أنّهم أفضل من الآخرين، وأن يتجنّبوا أيّ محاولة للسّيطرة على أفكار وأعمال المؤمنين. وفي الاضطلاع بمسؤوليّاتها، تقوم المؤسّسات بتيسير تبادلاتٍ خلّاقة وتعاونيّة بين جميع عناصر الجامعة وتسعى جاهدة لبناء توافق في الآراء، والتّغلّب على التّحدّيات، وتعزيز الصّحّة الرّوحانيّة والحيويّة والنّشاط، وتحديد أنجع الطّرق من خلال التّجربة لتحقيق أهداف الجامعة وغاياتها. ومن خلال مختلف الوسائل، بما في ذلك تأسيس الوكالات التّعليميّة، فهي تساعد على رعاية وتعزيز التّطوّر الرّوحانيّ والفكريّ لدى المؤمنين.
نتيجةً لهذه العلاقات والقدرات الجديدة لدى الأنصار الثّلاثة، توسّعت دائرة الأشخاص القادرين على التّفكير والعمل بشكلٍ استراتيجيّ، بينما يتمّ تقديم المساعدة والموارد والتّشجيع والتّوجيه الحبّيّ في كلّ مكان حيثما دعت الحاجة. كما تتمّ مشاركة التّجارب والبصائر المُستقاة على نطاق العالم، من مستوى القاعدة إلى المستوى العالميّ. يضمّ نموذج الحياة الّذي أوجدته هذه المشاركة الدّيناميكيّة ملايين النّفوس من جميع منابت ومشارب الحياة، نفوسٍ تحرّكها رؤيا حضرة بهاء الله لعالمٍ متّحد. وفي قطر تلو الآخر، لَفَتَ هذا النّموذج انتباه الوالدين والمربّين والزّعماء التّقليديّين والمسؤولين وقادة الفكر إلى قوّة النّظم الإداريّ لحضرة بهاء الله للتّصدّي لاحتياجات العالم المُلحّة. ومن الطّبيعيّ ألّا تُظهر كلُّ جامعة السّمات الخاصّة بتلك الأكثر تقدّمًا؛ وفي الواقع، هكذا كان الحال دومًا في التّاريخ البهائيّ. ومع ذلك، فإنّ ظهور قدرات جديدة في أيّ مكان يُشير إلى تقدّم واضح، ويكون بمثابة دليل يُبشّر بالخير على أنّ آخرين سيسيرون بالتّأكيد على الدّرب نفسه.
في العهود والقرون القادمة، سيواصل النّظم الإداريّ تطوّره العضويّ استجابة لنموّ الأمر المبارك ومقتضيات مجتمع متغيّر. توقّع حضرة شوقي أفندي أنَّه "مع بدء مكوّناته ومؤسّساته الحيويّة في العمل بكلّ كفاءةٍ وهمّةٍ"، سيشرع النّظم الإداريّ "في إثبات دعواه والبرهنة على أهليّته في ألّا يُعتبر نواة النّظم العالميّ الجديد فحسب، بل نموذجه المثاليّ أيضًا – ذلك النّظم المقدّر له، عند تمام الوقت، أن يحتضن الجنس البشريّ بأكمله." وهكذا، وبينما يتبلور نظم حضرة بهاء الله، سيقدّم للبشريّة طُرُقًا جديدة وأكثر إنتاجيّةً لتنظيم شؤونها. وفي غضون هذا التّطوّر العضويّ، ستتكشّف حتمًا العلاقات بين الأفراد والجامعات والمؤسّسات في اتّجاهات جديدة وأحيانًا بطرق غير متوقّعة. لكن الصّون الإلهيّ المستمرّ الّذي يشمل بيت العدل الأعظم سيضمن أنّ العالم البهائيّ، وهو يمخر عُباب أخطر فترات التّطوّر الاجتماعيّ للبشريّة وأكثرها اضطرابًا، سيتّبع المسار الّذي خطّته يد العناية الإلهيّة دون أن يحيد عنه قيد أُنملة.
انتشار وتطوّر أمر الله في جميع أنحاء العالم
منذ بدايات الجامعة البهائيّة الّتي أنشأها حضرة بهاء الله، مع أنّها كانت قليلة العدد ومحصورة جغرافيًّا، إلّا أنّ تعاليم حضرته السّامية قد حفّزتها وألهبت حماسها فنهضت لتشاركها بسخاء مع جميع أولئك الّذين يبحثون عن طريق روحانيّ يقودهم إلى تحوّل شخصيّ واجتماعيّ. وبمرور الوقت، تعلّم الأحبّاء العمل بشكلٍ وثيق مع أناس ومنظّمات تماثلهم في الفكر للسّموّ بروح الإنسان والمساهمة في إصلاح أوضاع العائلات والجامعات البهائيّة والمجتمع ككلّ. لقد كان هناك استعداد في كلّ بقعة من بقاع الأرض لقبول رسالة حضرة بهاء الله، وبفضل الجهود المخلصة والتّضحيات على مدى أجيال متعاقبة، برزت إلى الوجود جامعات بهائيّة في جميع أرجاء العالم، في المدن والقرى النّائية، لتكتنف الجنس البشريّ بمختلف أعراقه.
إبّان دورة حضرة الباب، تأسّس أمر الله في دولتيْن. وفي زمن حضرة بهاء الله ارتفع العدد إلى خمس عشرة دولة، وبحلول نهاية ولاية حضرة عبد البهاء وصل العدد إلى نحو خمس وثلاثين دولة. وخلال سنوات الحرب العالميّة المضطربة، أنزل حضرة عبد البهاء أحد إرثيه النّفيسيْن، وهو ألواح الخطّة الإلهيّة، خطّته الكبرى لبعث النّورانيّة الرّوحانيّة في الكرة الأرضيّة بنشر تعاليم حضرة بهاء الله. إنّ هذا الدّستور النّفيس قد أطلق نداءً لمسعى جماعيّ ومنهجيّ؛ بيد أنّه حتّى وقت صعود المولى، كان بالكاد قد تغلغل في فكر الجامعة وعملها، ولم ينهض لتلبية هذا النّداء سوى قلّة قليلة من فرسان أمر الله الاستثنائيّين، وفي مقدّمتهم مارثا روت.
بعد نزول الخطّة الإلهيّة من يراعة حضرة عبد البهاء، ظلّ تنفيذها معلّقًا لمدّة عشرين عامًا إلى أن حان الوقت الّذي تمكّن فيه الأحبّاء، بتوجيه من حضرة شوقي أفندي، من تأسيس الآليّة الإداريّة لأمر الله ورعاية وتعزيز أدائها على الوجه الصّحيح. ولم يتمكّن حضرة وليّ أمر الله من الشّروع في صياغة رؤية لتكشّف أمر الله بناءً على الخطّة الإلهيّة لحضرة عبد البهاء إلّا عندما استُحكمت أركان الهيكل الإداريّ الأوّليّ. وتمامًا كما تطوّر النّظم الإداريّ عبر مراحل متميّزة من التّعقيد المتزايد، فبالمثل تطوّر الجهد الرّامي إلى مشاركة وتطبيق تعاليم حضرة بهاء الله عضويًّا، مُفضيًا إلى ظهور نماذج جديدة من حياة الجامعة بمقدورها أن تحتضن أعدادًا تتنامى باستمرار، وتهيّئ الأحبّاء لمواجهة تحدّيات أعظم، وتساهم بدرجة متزايدة في التّحوّل الشّخصيّ والاجتماعيّ.
وللبدء في هذا المسعى المنهجيّ، دعا حضرة شوقي أفندي الجامعتين البهائيّتين في الولايات المتّحدة وكندا، اللّتين اختيرتا لتلقّي ألواح الخطّة الإلهيّة، واللّتين أشار إليهما حضرته تباعًا، على أنّهما المنفّذ الرّئيسيّ وحليفه، إلى وضع خطّة "منهجيّة ومدروسة ومُحكمة" والّتي كان ينبغي "تنفيذها بكلّ همّة ونشاط، وتوسعة نطاقها باستمرار". نتيجةً لهذه الدّعوة أُطلقت خطّة السّنوات السّبع الأولى في عام 1937، والّتي حملت تعاليم حضرة بهاء الله إلى أمريكا اللّاتينيّة، تلتها خطّة السّنوات السّبع الثّانية، الّتي بدأت في عام 1946، والّتي ركّزت على تطوّر أمر الله في أوروبّا. وبالمثل، شجّع حضرة شوقي أفندي عمل نشر نفحات الله في جامعات مركزيّة أخرى، والّتي تبنّت فيما بعد خططًا مركزيّة تحت إشرافه الدّقيق. هذا وقد اعتمد المحفل الرّوحانيّ المركزيّ في الهند وبورما خطّته الأولى في عام 1938؛ والجزر البريطانيّة في عام 1944؛ وإيران في عام 1946؛ وأستراليا ونيوزيلندا في عام 1947؛ والعراق في عام 1947؛ وكندا ومصر والسّودان وألمانيا والنّمسا في عام 1948؛ وأمريكا الوسطى في عام 1952. وكلّ واحدة من هذه الخطط اتّبعت النّموذج الأساسيّ نفسه: تبليغ الأفراد وتشكيل محفل محلّيّ وتأسيس جامعة محلّيّة وفتح مراكز جديدة داخل الوطن أو في أرض أخرى – ومن ثمّ تكرار هذا النّموذج مرّة أخرى. وعند بناء أساس متين في بلد أو أرض، كان يتمّ تأسيس محفل روحانيّ مركزيّ جديد.
خلال هذه السّنوات، دأب حضرة شوقي أفندي على تشجيع الأحبّاء على الاضطلاع بمسؤوليّة نشر نفحات الأمر المبارك ضمن سياق الخطط الّتي تبنّتها محافلهم المركزيّة. وبمرور الوقت، ظهرت أساليب من قبيل الهجرة والتّبليغ الجوّال وجلسات التّبليغ المنزليّة والمدارس الصّيفيّة، كما أثبتت المشاركة في أنشطة المنظّمات المماثلة في الفكر نجاعتها في أماكن معيّنة، فحثّ حضرته الأحبّاء في أجزاء أخرى من العالم على تبنّيها. واقترنت جهود التّوسّع بتركيز على التّطوير الدّاخليّ لترسيخ هويّة الدّين البهائيّ وطابعه كجامعة دينيّة مستقلّة. لقد تعهّد حضرة شوقي أفندي عمليّة التّحوّل هذه ورعاها بكلّ عناية، حيث شرح للمؤمنين تاريخ دينهم، ويسّر لهم استخدام التّقويم البهائيّ، وأكّد على المشاركة بانتظام في الضّيافات التّسع عشريّة وإحياء ذكرى الأيّام المحرّمة، ووجّههم بكلّ صبر وأناة إلى الالتزام بإطاعة الأحكام البهائيّة من قبيل أحكام الزّواج البهائيّ. وبرز الأمر المبارك بالتّدريج كدين عالميّ ليتبوّأ مكانته بين الأديان الإلهيّة الشّقيقة الأخرى.
وعلاوة على تأسيس المؤسّسات العالميّة، انتقلت المساعي الجماعيّة للأمر المبارك في مجال نشر النّفحات إلى ميدان التّعاون العالميّ. ففي عام 1951، تعاونت خمس جامعات مركزيّة في تنفيذ الحملة الأفريقيّة "الواعدة للغاية" و"البالغة الأهمّيّة" لتوسيع نطاق انتشار الأمر المبارك عبر تلك القارّة. وفي عام 1953، تمّ الشّروع بمشروع السّنوات العشر، الّذي وحّد للمرّة الأولى جهود جميع المحافل المركزيّة الاثني عشر القائمة في خطّة عالميّة مشتركة واحدة. في هذه المرحلة الّتي توّجت ولاية حضرة وليّ أمر الله، تمّت الاستفادة من شبكة الهيئات الإداريّة الّتي أنشأها الأحبّاء وأساليب نشر النّفحات النّاجعة الّتي طوّروها في مشروع روحانيّ جماعيّ لم تشهد الجامعة البهائيّة له مثيلًا من قبل.
وبينما كان المؤمنون يسافرون في أطراف وأكناف العالم لمشاركة الآخرين بنفحات دينهم النّفيس، وجدوا بين مختلف الشّعوب تقبّلًا عاليًا لمبادئه وتعاليمه، إذ اكتشف هؤلاء السّكّان في شريعة حضرة بهاء الله معنى وهدفًا أعمق لحياتهم، فضلًا عن بصائر جديدة من شأنها أن تمكّن جامعاتهم من التّغلّب على التّحدّيات والتّقدّم روحانيًّا واجتماعيًّا ومادّيًّا. في بادئ الأمر، انتشر النّور الإلهيّ تدريجيًّا من فرد إلى فرد، وسرعان ما سطع بين جموع البشر. وأصبحت بشائر ظاهرة الدّخول في دين الله أفواجًا الّتي تنبّأ بها حضرة عبد البهاء واضحةً في انضمام مئات المؤمنين إلى الأمر المبارك في أوغندا وغامبيا وجزر جيلبرت وإليس، ولاحقًا في إندونيسيا والكاميرون. وقبل أن تُشارف تلك الخطّة على نهايتها، كانت العمليّة قد بدأت في عددٍ من البلدان الأخرى، حيث وصل عدد الّذين اعتنقوا الأمر المبارك إلى مئات الآلاف بل وأكثر.
بعد صعود حضرة شوقي أفندي، عمل أيادي أمر الله على ضمان إتمام مشروع السّنوات العشر بنجاح باتّباع المسار الّذي رسمه حضرته دونما انحراف. ومن خلال تطبيق الدّروس المستقاة بتوجيه من حضرة وليّ أمر الله، تمّ تحقيق إنجازات في ميدان نشر النّفحات على مدى عقد واحد فاقت ما تمّ إحرازه في القرن الماضي. فقد انتشر الأمر المبارك في 131 دولة وأرضًا جديدةً، وتجاوز عدد المراكز الّتي يقيم فيها البهائيّون أحد عشر ألفًا، وبلغ عدد المحافل الرّوحانيّة المركزيّة ستّة وخمسين وعدد المحافل المحلّيّة أكثر من 500 3. وتكلّلت نهاية المشروع بقيام أعضاء تلك المحافل المركزيّة بانتخاب بيت العدل الأعظم، وفقًا للإجراءات الّتي وضعها حضرة عبد البهاء.
بعد تأسيسه، واصل بيت العدل الأعظم التّنفيذ المنهجيّ للخطّة الإلهيّة، مُفتتحًا عهدها الثّاني من خلال توسيع وزيادة نطاق الأنشطة الّتي تعهّدها حضرة وليّ أمر الله برعايته تدريجيًّا، وذلك بإضافة أو توسيع جوانب مختلفة من العمل، وتنسيق وتوحيد أنشطة سائر المحافل المركزيّة. ومن بين مجالات التّركيز الّتي برزت أو حظيت باهتمام متزايد تلك المشاركة العموميّة للأفراد في خدمة الأمر المبارك وتعميق فهمهم للأحكام والتّعاليم. علاوة على ذلك، فقد أكّدت عمليّة تقوية المؤسّسات على أهمّيّة التّعاون بين هيئات المشاورين المؤسّسة حديثًا والمحافل المركزيّة، وكذلك بين أعضاء هيئة المعاونين والمحافل الرّوحانيّة المحلّيّة. وتعزّزت حياة الجامعة من خلال التّركيز على صفوف الأطفال، وتقديم أنشطة للشّباب والنّساء، وعقد جلسات المحافل الرّوحانيّة بانتظام. كما اشتملت مبادرات أخرى على إعلان عموميّ واسع النّطاق عن الأمر المبارك ونشر نفحاته من خلال وسائل الإعلام، وتطوير مراكز التّعلّم بما في ذلك المدارس الصّيفيّة والمعاهد التّبليغيّة، ومشاركة أكبر في حياة المجتمع، وتعزيز المعارف البهائيّة.
نتيجة لكلّ هذه الجهود، انتشر الأمر المبارك بحلول تسعينيّات القرن الماضي في عشرات الآلاف من المراكز، وارتفع عدد المحافل المركزيّة إلى أكثر من ثلاثة أضعاف ليصل إلى حوالي 180 محفلًا. وخلال هذه الفترة، اتّبعت الجامعات المركزيّة نموذجين عامّين يتوقّفان إلى حدٍّ كبير على استجابة عموم السّكّان. النّموذج الأوّل ضمّ الجامعات المحلّيّة الصّغيرة الحجم، ونما البعض عدديًّا فقط ليصل إلى مائة مؤمن أو أكثر. وغالبًا ما اتّسمت هذه الجامعات بعمليّة قويّة من الاستحكام على شأن أفسحت المجال لطيفٍ واسع من الأنشطة وظهور حسٍّ قويٍّ بالهويّة البهائيّة. ومع ذلك، بات جليًّا أكثر فأكثر أنّه رغم كونها متّحدّة في معتقدات مشتركة، وتتميّز بمُثُل عليا، وتتقن إدارة شؤونها وتلبية احتياجاتها، فإنّ جامعة صغيرة العدد كهذه، مهما ازدهرت أو حاولت خدمة الآخرين بجهودها الإنسانيّة، لا يمكنها أن تأمل أبدًا في أن تكون نموذجًا لإعادة هيكلة المجتمع بأسره.
أمّا النّموذج الثّاني فقد تبلور في تلك البلدان الّتي بدأت فيها عمليّة الدّخول في دين الله أفواجًا، مفضية إلى زيادة هائلة في أعضاء الجامعة، وفي عدد الجامعات المحلّيّة والمؤسّسات الجديدة. وفي العديد من البلدان، نمت الجامعة البهائيّة لتضمّ أكثر من مائة ألف مؤمن، في حين بلغ عددهم في الهند نحو مليونين. في الواقع، إنّه خلال مدّة سنتين فقط في أواخر ثمانينيّات القرن الماضي، اعتنق الأمر المبارك ما ينوف عن مليون شخص في جميع أنحاء العالم. ولكن في مثل هذه الأماكن، ورغم الجهود المبتكرة والمتفانية الّتي بُذلت، لم تتمكّن عمليّة الاستحكام من مواكبة وتيرة التّوسّع السّريعة، إذ آمن الكثيرون بالأمر المبارك، ولكن لم تكن هناك وسيلة تمكّن كلّ هؤلاء المؤمنين الجدد من التّعمّق بقدرٍ كافٍ بالتّعاليم الأساسيّة للأمر المبارك أو تطوير جامعات نابضة بالحياة. ولم يكن بالإمكان تأسيس صفوف للتّعليم والتّربية البهائيّة بأعداد كبيرة تكفي لخدمة عدد يتزايد باستمرار من الأطفال والشّباب. تمّ تشكيل ما يزيد عن ثلاثين ألف محفلٍ محلّيّ، إلّا أنّ عددًا ضئيلًا منها فقط شرع بأداء وظائفه. لقد بات واضحًا من هذه التّجربة، أنّ الدّورات التّعليميّة العرضيّة وأنشطة الجامعة غير الرّسميّة، رغم أهمّيّتها، لم تكن كافية، لأنّها أسفرت فقط عن إيجاد مجموعة صغيرة نسبيًّا من المؤيّدين الفاعلين للأمر المبارك الّذين، مهما بلغ مدى إخلاصهم وتفانيهم، لم يكن باستطاعتهم تلبية احتياجات الألوف تلو الألوف من المؤمنين الجدد.
بحلول عام 1996، وصل العالم البهائيّ إلى تلك المرحلة الّتي أصبح فيها العديد من مجالات النّشاط الّتي ساهمت في إحراز تقدّم كبير على مرّ السّنين بحاجة إلى إعادة تقييم وتوجيه. كان يتعيّن على الأفراد والجامعات والمؤسّسات أن يتعلّموا كيفيّة الشّروع بأسلوب عمل يمكّنهم من الوصول إلى أعداد كبيرة، وفي الوقت نفسه كيف يرفعوا بسرعة عدد الأفراد القادرين على القيام بأعمال الخدمة حتّى تتمكّن عمليّة الاستحكام من مواكبة التّوسّع المتسارع. كان على الجهد المبذول في تقديم الأمر المبارك للعديد من سكّان العالم أن يصبح أكثر منهجيّة. إنّ النّداء الّذي أُطلق في خطّة السّنوات الأربع لـِ "إحراز تقدّم كبير في عمليّة الدّخول في دين الله أفواجًا" كان يُقصد منه التّنويه بأنّ ظروف الأمر المبارك، وكذلك أوضاع البشريّة، أتاحت، بل استلزمت نموًّا مستدامًا للجامعة البهائيّة العالميّة على نطاق واسع. عندها فقط تظهر بشكلٍ متزايد قوّة تعاليم حضرة بهاء الله في تحوّل العالم الإنسانيّ.
في مستهلّ خطّة السّنوات الأربع، تمّ تشجيع الأحبّاء في كلّ منطقة على تحديد المقاربات والأساليب الّتي تتماشى وظروفهم الخاصّة والبدء بعمليّة منهجيّة لتطوير الجامعة يقومون خلالها بمراجعة وتقييم نجاحاتهم وصعوباتهم، وتعديل أساليبهم وتحسينها وفقًا لذلك، والتّعلّم والمضي قُدُمًا دون تردّد. وعندما يكون مسار العمل غير واضح، يمكن اختبار مجموعة من المقاربات لمواجهة تحدّيات مُعيّنة حدّدتها الخطّة في أماكن مختلفة؛ وعندما تُثبِتُ مبادرة في مجالٍ معيّن نجاعَتَها من خلال التّجربة، يمكن مشاركة سماتها مع المؤسّسات في المستوى المركزيّ أو العالميّ ومن ثمّ نشرها في أماكن أخرى أو حتّى إنّها تصبح جزءًا من خطط مستقبليّة.
لأكثر من ربع قرنٍ من الزّمان، أدّت عمليّة التّعلّم عن النّموّ هذه إلى ظهور مجموعة من المفاهيم والأدوات والمقاربات الّتي عزّزت باستمرار تطوّر إطار عمل الجامعة. ومن أبرز هذه السّمات كان إنشاء شبكة من المعاهد التّدريبيّة، تقدّمُ برامجَ تعليميّةٍ للأطفال والشّباب النّاشئ والشّباب والرّاشدين، وذلك لتمكين الأحبّاء بأعداد كبيرة وتأهيلهم لتعزيز قدراتهم على الخدمة. وثمّة سمة أخرى تمثّلت في إنشاء مجموعات جغرافيّة، الأمر الّذي يسّر منهجة العمل التّبليغيّ في مناطق جغرافيّة تسهل إدارتها من خلال البدء ببرامج للنّموّ وتقويتها تدريجيًّا، وسرّع انتشار أمر الله وتطوّره داخل كلّ بلد وفي جميع أنحاء العالم. وضمن برامج النّموّ هذه، ظهر نموذجٌ جديد من حياة الجامعة، بدءًا بمضاعفة الأنشطة الأربعة الأساسيّة الّتي كانت بمثابة بوابات لدخول أعداد كبيرة، إلى جانب مجموعة من الجهود الأخرى، بما في ذلك التّبليغ الفرديّ والجماعيّ والزّيارات المنزليّة واستضافة اللّقاءات الاجتماعيّة والاحتفال بالضّيافة التّسع عشريّة وإحياء ذكرى الأيّام المحرّمة وإدارة شؤون الجامعة والتّرويج لأنشطة التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة – كلّها معًا أحدثت تغييرًا في الطّابع الرّوحانيّ للجامعة وعزّزت الرّوابط الاجتماعيّة بين الأفراد والعائلات.
عندما ننظر إلى الوراء لأكثر من قرنٍ حافلٍ بالجهود المبذولة لتنفيذ بنود الخطّة الإلهيّة، سيغدو واضحًا أنّ العالم البهائيّ قد شهد تقدّمًا كبيرًا على مستوى الثّقافة. فقد انخرطت أعداد أكبر من أيّ وقتٍ مضى في عمليّة من التّعلّم الواعي لتطبيق التّعاليم المتعلّقة بالنّموّ والتّطوّر ضمن إطار عمل يتطوّر من خلال تجربة الأحبّاء وهداية بيت العدل الأعظم. وتتّضح زيادة القدرة على الانخراط في عملية التّعلّم هذه في الصّفات المميّزة الّتي تظهر وتتجلّى بشكل متزايد في الجامعة البهائيّة: الحفاظ على موقف تعلّميّ يتّسم بالتّواضع، أكان ذلك احتفالًا بنجاحات أو مثابرة وثباتًا في مواجهة العوائق والنّكسات؛ وتعزيز الهويّة البهائيّة مع الحفاظ على بيئة مرحِّبة بالجميع؛ والعمل في مجالات أوسع من أيّ وقت مضى من المساعي، مع الاستمرار في تعزيز مقاربة منهجيّة ومتّسقة لعمل أمر الله. وفي الآلاف من المجموعات الجغرافيّة، فإنّ أعدادًا متزايدة من النّاس قد أصبحوا ينظرون إلى أنفسهم كأنصار في اكتساب المعرفة وتوليدها وتطبيقها من أجل تطوّرهم الشّخصيّ وتقدّمهم. إنّهم يُشاركون في مناقشات كعائلات وأصدقاء ومعارف حول مواضيع روحانيّة تسمو بالرّوح ومسائل ذات أهمّيّة اجتماعيّة؛ ويشرعون بالأنشطة الّتي تشكّل نموذج حياة يتميّز بسمته التّعبّديّة؛ ويوفّرون التّربية والتّعليم للشّباب ويزيدون من قدرتهم على الخدمة؛ ويُساهمون في التّقدّم المادّيّ والاجتماعيّ لجامعاتهم. لقد اكتسبوا القدرة على المساهمة في إصلاح جامعتهم المحلّيّة والعالم ككلّ. وبتفكيرهم وتصرّفهم بهذه الكيفيّة، اكتسبوا تقديرًا وإدراكًا أعمق للهدف من الدّين نفسه.
الانخراط في حياة المجتمع
هناك بُعد آخر لتكشّف الخطّة الإلهيّة لحضرة عبد البهاء وهو انخراط أكبر للجامعة البهائيّة في حياة المجتمع. فمنذ مستهلّ ولايته، لفت حضرة شوقي أفندي انتباه الأحبّاء مرارًا وتكرارًا إلى قوّة أمر حضرة بهاء الله على إحداث تغيير عضويّ في المجتمع – وهي عمليّة من شأنها أن تفضي في النّهاية إلى بروز مدنيّة روحانيّة. لذا، يتعيّن على البهائيّين أن يتعلّموا تطبيق تعاليم حضرة بهاء الله ليس من أجل التّحوّل الرّوحانيّ الشّخصيّ فحسب، بل من أجل التّغيير المادّيّ والاجتماعيّ أيضًا، بدءًا من جامعاتهم ومن ثمّ توسيع نطاق مجهوداتهم تدريجيًّا لتشمل المجتمع الأوسع.
في أيّام حضرة عبد البهاء، وصلت بعض الجامعات البهائيّة في إيران، إلى جانب قلّة قليلة من جامعات أخرى في أقطارٍ مجاورة، إلى حجم وأوضاع مكّنتها من متابعة مساعٍ منهجيّة في مجال التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة. عمل حضرة عبد البهاء بلا كلل مع الأحبّاء لهدايتهم ورعاية تقدّمهم. فعلى سبيل المثال، شجّع حضرته المؤمنين في إيران على تأسيس مدارس مفتوحة للبنات والبنين، من جميع شرائح المجتمع، توفّر التّربية الأخلاقيّة فضلًا عن تعليم الفنون والعلوم. أرسل حضرته مؤمنين من الغرب ليمدّوا يد العون في هذا العمل التّنمويّ. وقدّم حضرته الهداية للقرى البهائيّة من العدسيّة القريبة وحتّى دايداناو البعيدة، من أجلِ الازدهار الرّوحانيّ والمادّيّ لهذه الجامعات. وأمر حضرته بإيجاد ملحقات للتّربية والتّعليم وخدمات اجتماعيّة أخرى حول مشرق الأذكار في عشق آباد. وبتشجيع منه أُسّست مدارس في مصر والقوقاز. وبعد صعود حضرته قدّم حضرة شوقي أفندي الهداية لتوسيع نطاق هذه الجهود. فانتشرت نشاطات للنّهوض بالصّحّة ومحو الأمّيّة وتعليم وتربية النّساء والبنات بين مختلف أفراد الجامعة في إيران. واستمرّ فتح المدارس في المدن والقرى في أنحاء البلاد. وبتحفيز من الزّخم الأوّليّ الّذي أوجده حضرة عبد البهاء، ازدهرت هذه المدارس لفترة من الزّمن، وساهمت في جعل تلك الأُمّة مواكبةً للعصر حتّى عام 1934 عندما أجبرتها الحكومة على إغلاق أبوابها.
إلّا أنّه في أماكن أخرى، أوصى حضرة شوقي أفندي الأحبّاء بتركيز مواردهم البشريّة والماليّة المحدودة على نشر نفحات الله ورفع صرح النّظم الإداريّ. فوضّحت رسالة كُتبت بالنّيابة عن حضرته أنّ "تقديم تبرّعاتنا للأمر المبارك هي أضمن طريقة لنرفع مرّة وإلى الأبد عبء الجوع والشّقاء عن كاهل البشريّة، لأنّه فقط من خلالِ نظم حضرة بهاء الله، الإلهيّ المصدر، سيتمكّن العالم من الوقوف على قدميه." وتستطرد الرّسالة، "فالآخرون لا يُمكنهم المساهمة في عملنا أو القيام به نيابة عنّا، لذا فإنّ واجبنا الأوّل هو في حقيقة الأمر دعم عملنا التّبليغيّ، لأنّ هذا سيؤدّي إلى شفاء الأمم." وبينما وجد الأفراد سُبُلًا شخصيّة يمكنهم من خلالها المساهمة في التّنمية المادّيّة والاجتماعيّة، فقد ركّز البهائيّون مواردهم على النّموّ وعلى بناء جامعاتهم. وفي السّنوات الأولى الّتي تلت انتخاب بيت العدل الأعظم، استمرّت الهداية على هذا المنوال لفترة من الزّمن. وعليه، فمع أنّ مفهوم التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة مكنوز في تعاليم حضرة بهاء الله، إلّا أنّه نظرًا لظروف الأمر المبارك إبّان ولاية حضرة شوقي أفندي والسّنوات الّتي تلتها، لم يكن الأمر متاحًا من النّاحية العمليّة بالنّسبة لمعظم العالم البهائيّ للقيام بنشاطات تنمويّة.
في عام 1983، وفي أعقاب عقود من الجهود الدّؤوبة في ميدان نشر نفحات الله، ونتيجة للنّموّ الملحوظ في العديد من البلدان في أرجاء العالم، وصلت جامعة الاسم الأعظم إلى المرحلة الّتي يُمكن فيها، بل في الواقع يجب فيها، أن يُدمج عمل التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة في مساعيها المنتظمة. وتمّ حثّ الأحبّاء كي يسعوا جاهدين، من خلال تطبيقهم للمبادئ الرّوحانيّة، واستقامة السّلوك، وممارسة فنّ المشورة، من أجل العمل على ترقّيهم الذّاتيّ وبالتّالي تولّي مسؤوليّة تطوّرهم الشّخصيّ بأنفسهم. تمّ تأسيس مكتب التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة في المركز العالميّ لمساعدة بيت العدل الأعظم على تعزيز وتنسيق نشاطات الأحبّاء في هذا المجال في شتّى أرجاء العالم، ومع الوقت تطوّر هذا المكتب ليقوم بتيسير عمليّة تعلّم عالميّة حول التّنمية. ونهض أفراد الأحبّاء للبدء بنشاطات متنوّعة لا تشمل البهائيّين فحسب بل والمجتمع الأوسع أيضًا.
خلال عقدٍ من الزّمان، تمّ الشّروع بمئات من الأنشطة التّنمويّة حول العالم والّتي تعالج طيفًا من الشّواغل من قبيل تقدّم المرأة والتّربية والتّعليم والصّحّة والاتّصال الجماهيريّ والزّراعة والنّشاط الاقتصاديّ والبيئة. وتراوحت النّشاطات عبر طيفٍ من التّعقيد. فقد نُظّمت نشاطات بسيطة بعض الشّيء وقصيرة الأجل في القرى والبلدات استجابةً لمشكلاتٍ وتحدّيات محدّدة واجهتها تلك الجامعات المحلّيّة. بينما تأسّست مشاريع مستدامة، من قبيل المدارس والعيادات، لتلبية احتياجات محلّيّة لفترة طويلة، وغالبًا ما كان يصحبها هياكل تنظيميّة لضمان استمرارها وفعّاليّتها. وأخيرًا، في عام 1996 تأسّست على يد أفرادٍ بضعُ منظّمات تعمل بهدي من التّعاليم البهائيّة ولها هياكل برامجيّة معقّدة نسبيًّا، للتّعلّم عن كيفيّة اتّباع مقاربة منهجيّة متّسقة للتّنمية ضمن مجموعة من السّكّان تفضي إلى إحداث تأثير كبير في منطقةٍ ما. وفي جميع هذه الجهود سعى الأحبّاء لتطبيق مبادئ روحانيّة على مشكلات واقعيّة.
مع بدء ظهور وكالات تعمل بهدي من التّعاليم البهائيّة بالإضافة إلى وكالات تخضع مباشرة لإشراف المؤسّسات البهائيّة في قُطر تلو الآخر، أصبح تأثير جهودها ضمن الجامعة والمجتمع الأوسع واضحًا بشكل متزايد، مُظهرًا اتّساقًا ديناميكيًّا بين البُعديْن المادّيّ والرّوحانيّ للحياة. ولم يظهر التّقدّم في العمل فقط بل في مستوى الفكر أيضًا. وبدأ الأحبّاء يدركون مجموعة من المفاهيم الأساسيّة: العالم ليس مقسّمًا إلى فئتيْن، متقدّمة ونامية – فكلّها تحتاج إلى التّحوّل والتّغيير وإلى بيئة توفّر الظّروف الرّوحانيّة والاجتماعيّة والمادّيّة اللّازمة لأمنها وازدهارها. والتّنمية ليست عمليّة تقوم بها مجموعة من النّاس لأفرادٍ آخرين، بل إنّ النّاس أنفسهم، أينما کانوا، هم أنصار تطوير ذواتهم. فالوصول إلى المعرفة والمشاركة في توليدها وتطبيقها ونشرها هو في صلب هذا المسعى. والجهود تبدأ صغيرة ثمّ تزداد تعقيدًا مع تراكم الخبرة. والبرامج الّتي ثبتت فعّاليّتها في إحدى المناطق يمكن إدخالها بشكل منهجيّ لمناطق أخرى. ومع تطبيق هذه المبادىء والمفاهيم ضمن بيئة معيّنة، يصبح الأحبّاء ماهرين بشكلٍ متزايد في تحليل أوضاعهم الاجتماعيّة، واستقاء البصائر من الكتابات المقدّسة ومن مختلف مجالات المعرفة ذات الصّلة، وبدء نشاطات تتكامل تمامًا مع عمل بناء الجامعة.
بحلول عام 2018، دفع الانتشار الواسع والتّعقيد المتزايد لجهود التّنمية البهائيّة في أنحاء العالم إلى إيجاد مؤسّسة جديدة في الأرض الأقدس – المنظّمة البهائيّة العالميّة للتّنمية. تولّت هذه المؤسّسة العالميّة الوظائف والمهامّ الّتي تولّاها سابقًا مكتب التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة ووسّعت من نطاقها أيضًا، معزِّزة بذلك جهود الأفراد والجامعات والمؤسّسات والوكالات في مجال العمل الاجتماعيّ في كلّ مكان. وغايتها الأساسيّة، كالمكتب الّذي سبقها، هي تيسير العمليّة العالميّة للتّعلّم عن التّنمية الّتي تتكشّف في العالم البهائيّ، عن طريق تعزيز ودعم العمل والمراجعة والتّقييم، وجمع الخبرات ومنهجتها، وتشكيل المفاهيم، والتّدريب – وكلّ ذلك يتمّ في ضوء تعاليم الأمر المبارك. وفي النّهاية تسعى هذه المنظّمة لتعزيز مقاربة بهائيّة متميّزة للتّنمية.
في موازاة التّكشّف المنهجيّ لعمليّتيْ التّوسّع والاستحكام والتّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة، برز مجال رئيسيّ آخر للعمل: مشاركة أكبر في الحوارات السّائدة في المجتمع. ففي عددٍ متزايدٍ من الفضاءات الاجتماعيّة الّتي تجري فيها حوارات حول مشاكل البشريّة، يسعى البهائيّون لمشاركة بصائر بهذا الخصوص مستقاة من بحرِ آثار حضرة بهاء الله. فحضرة بهاء الله نفسه هو الّذي أعلن في البداية عن علاجه الشّافي مباشرة لقادة العالم وناشد البشريّة قاطبةً أن تتبنّاه. وعلى الرّغم من عدم استجابة الملوك والحكّام إيجابيًّا للطّبيعة الإلهيّة لندائه، دعاهم إلى تطبيق مبادئه لتأسيس السّلام العالميّ: "لمّا نبذتم الصُّلح الأكبر عن ورائكم تمسّكوا بهذا الصّلح الأصغر لعلّ به تصلح أموركم والّذين في ظلّكم على قدر يا معشر الآمرين." كما قام حضرة عبد البهاء في مكاتيبه من قبيل لوحيْ لاهاي، ولا سيّما في الخطب الّتي ألقاها خلال أسفاره في الغرب، بإعلان تعاليم والده باستمرار لأصحاب النّفوذ والجماهير الّتي تتصارع مع مشاكل لا حصر لها تواجه البشريّة.
في باكورة ولايته، ومُدركًا الأهمّيّة الجوهريّة لتعريف شعوب وقادة العالم بالبصائر والحِكَم المكنوزة في التّعاليم البهائيّة، رعى حضرة شوقي أفندي وعزّز مبادرات من أجلِ تحقيق هذه الغاية. وقد تضمّنت هذه المبادرات، من بين أخرى غيرها، افتتاح مكتب الإعلام البهائيّ في جنيف عام 1925، ونشر مجلّدات العالم البهائيّ، ودعوة بهائيّين من ذوي الاطّلاع الواسع لربط التّعاليم الإلهيّة مع الفكر المعاصر فيما يتعلّق بالمشاكل العالميّة الملحّة المتعدّدة. وبعد تأسيس الأمم المتّحدة، تمّ تأسيس الجامعة البهائيّة العالميّة عام 1948 كمنظّمة غير حكوميّة تمثّل الجامعات البهائيّة في أنحاء العالم، وشاركت بشكلٍ متزايد في بعض جوانب عمل تلك الهيئة الدّوليّة. وهذا فتح فصلًا جديدًا في علاقة الأمر المبارك المستمرّة مع الحكومات والمؤسّسات العالميّة ووكالات المجتمع المدنيّ على الصّعيد الدّوليّ. وفي الوقت الّذي لم يسمح حضرة وليّ أمر الله مطلقًا لهذا المجال من المساعي أن يطغى على الأهمّيّة الجوهريّة للعمل التّبليغيّ، فقد شجّع الأحبّاء على تعريف المجتمع الأوسع بمضامين تعاليم حضرة بهاء الله؛ فكتب لإحدى الجامعات المركزيّة "إلى جانب هذه العمليّة الرّامية إلى تقوية نسيج النّظم الإداريّ وتوسيع قاعدته، يجب القيام بمحاولة وطيدة العزم" لتأسيس علاقات أوثق مع الآخرين، بما في ذلك "قادة الفكر العامّ". وأكّد على التّعاون والتّواصل بدلًا من العضويّة، وحذّر المؤمنين من المشاركة في الشّؤون السّياسيّة، وشجّعهم على العمل مع المنظّمات المماثلة لهم في الفكر والمهتمّة بالقضايا الاجتماعيّة، وتعريفهم بأهداف وغايات أمر الله وطبيعة تعاليمه في مسائل من قبيل السّلام العالميّ.
بعد تأسيس بيت العدل الأعظم، ازداد نطاق عمليّة المشاركة هذه في حوارات المجتمع اتّساعًا. وفي الوقت المناسب، اتّخذ بيت العدل الأعظم التّرتيبات اللّازمة لنشر مبادئ الأمر المبارك على نطاقٍ واسع، كما في رسالته الموجّهة إلى شعوب العالم، "السّلام العالميّ وعدٌ حقّ". وتمكّنت الجامعة البهائيّة العالميّة من تعزيز مكانتها في الأمم المتّحدة ممّا أدّى إلى إقامة علاقات أكثر رسميّة مع مختلف وكالات الأمم المتّحدة في سبعينيّات القرن الماضي. كما نشرت وثائق تتعلّق بالشّؤون العالميّة وأوجدت فضاءً فريدًا من نوعه من أجل العمل مع الحكومات والمنظّمات غير الحكوميّة. ولكونها معروفة لدى سائر المنظّمات العاملة في الأمم المتحدّة بأنّها لا تسعى لخدمة مصالحها الخاصّة، بل تعمل من أجل خير ورفاه كافّة الشّعوب، فقد قامت بدور إيجابيّ في مختلف النّدوات الدّوليّة بما فيها مؤتمر الأمم المتّحدة المعنيّ بالبيئة والتّنمية في ريو دي جانيرو، والمؤتمر العالميّ المعنيّ بالمرأة في بيجين، ومؤتمر القمّة العالميّ للتّنمية الاجتماعيّة في كوبنهاجن، ومنتدى الألفيّة في نيويورك. وفي أعقاب الثّورة الإيرانيّة وتَجدُّد اضطهاد البهائيّين في إيران، اضطرّت عدّة جامعات مركزيّة للدّخول في حوار أوثق مع مختلف المؤسّسات والوكالات الوطنيّة والدّوليّة. ونتيجةً لذلك أنشأت مكاتب مركزيّة للشّؤون الخارجيّة لتعزيز الجهود الرّامية إلى الدّفاع عن الأمر المبارك في المستوى الدّوليّ.
مع ابتداء القرن الحادي والعشرين، أدّى التّقدّم العضويّ للأمر المبارك إلى خلق ظروف مناسبة لمشاركة أكثر منهجيّة في حوارات المجتمع. فقد وسّعت المواقع البهائيّة العالميّة والمركزيّة على شبكة الإنترنت نطاق تقديم التّعاليم الإلهيّة ليغطّي مجموعة من المواضيع. وتأسّس معهد دراسات الرّخاء العالميّ لإجراء أبحاث في تأثير تعاليم حضرة بهاء الله على القضايا الاجتماعيّة الملحّة، وبمرور الوقت بدأ بعقد سلسلة من النّدوات لتعزيز الفهم وتنمية القدرة بين طلّاب الجامعة البهائيّين. وامتدّ نطاق عمل الجامعة البهائيّة العالميّة الّذي كان متمركزًا في البداية في نيويورك وجنيف إلى مراكز إقليميّة في كلٍّ من أديس أبابا وبروكسل وجاكرتا. وفي المستوى المركزيّ تعلّمت مكاتب الشّؤون الخارجيّة بصورةٍ متزايدة كيفيّة المشاركة في حوارات وطنيّة معيّنة بطريقة منهجيّة بالنّيابة عن جامعاتها. ومن بين المواضيع الّتي تمّ تناولها بشكلٍ مكثّف في دول مختلفة كان تقدّم المرأة، ودور الدّين في المجتمع، والتّمكين الرّوحانيّ والأخلاقيّ للشّباب، وترويج العدالة، وتعزيز التّماسك الاجتماعيّ. واليوم يقوم مكتب الحوارات العامّة في المركز البهائيّ العالميّ بتيسير عمليّة التّعلّم العالميّة النّاجمة عن التّجارب المُتأتّية عن المساهمة في هذه الحوارات الوطنيّة. وفي مستوى القاعدة في الأحياء والقرى وفي أوساط مهنهم وفي الفضاءات الاجتماعية الأخرى الّتي يشاركون فيها بصفتهم الفرديّة، يتعلّم الأحبّاء تقديم مفاهيم من الكتابات البهائيّة المقدّسة مساهمةً منهم في تطوّر وارتقاء الفكر والعمل بين أبناء وطنهم، وهو أمر ضروريّ لتحقيق تغيير بنّاء.
تصبح المشاركة في جميع مستويات المجتمع هذه أشدّ إلحاحًا مع اشتداد عمليّة هدم النّظام العالميّ القديم، وتزايد الحوار خشونةً واستقطابًا، مؤدّيًا إلى تجدّد الصّراع بين الأحزاب والعقائد الفكريّة المتنافسة الّتي تفرّق البشريّة. ووفقًا لفهمهم بأنّ التّحوّل الّذي صوّره حضرة بهاء الله يستدعي مشاركة الجميع، ينشد البهائيّون العمل مع العديد من المتعاطفين من الأفراد والمنظّمات الّذين يسعون لتحقيق أهداف مشتركة. وفي مثل هذه الجهود التّعاونيّة يشارك الأحبّاء ببصائر مستقاة من تعاليم حضرة بهاء الله علاوةً على الدّروس العمليّة المكتسبة من جهودهم في بناء الجامعة، بينما يتعلّمون في الوقت نفسه من تجربة شركائهم المتعاونين معهم. وفي العمل مع الأفراد والجامعات والمنظّمات المدنيّة والحكوميّة على السّواء، يبقى الأحبّاء واعين بأنّ الحوار حول العديد من المسائل الاجتماعيّة قد يُصبح مثيرًا للنّزاع والجدال أو متشابكًا مع مطامع سياسيّة. وفي جميع الوضعيّات الّتي يُصبح فيها البهائيّون أكثر مشاركة مع المجتمع الأوسع، فإنّهم يسعون لتعزيز توافق الآراء ووحدة الفكر، وترويج التّعاون، والبحث المشترك عن حلول للمشاكل الإنسانيّة الملحّة. بالنّسبة لهم، فإنّ الوسيلة المستخدمة لتحقيق الغاية لا تقلّ أهمّيّة عن الغاية نفسها.
إنّ تجذّر عمليّة الانخراط بشكل متزايد في حياة المجتمع الأوسع في الجامعات البهائيّة في أنحاء العالم تكشّفت في البداية جنبًا إلى جنب مع عمل نشر النّفحات وتطوير النّظم الإداريّ. بيد أنّ الجهود المبذولة في مجال العمل الاجتماعيّ والمشاركة في حوارات المجتمع قد حقّقت في العقود الأخيرة اتّساقًا ملحوظًا مع تلك الجهود المتعلّقة بالتّوسّع والاستحكام وذلك مع تزايد استخدام الأحبّاء لعناصر الإطار المفاهيميّ في تنفيذ الخطط العالميّة. وبينما يعمل الأحبّاء في مجموعاتهم الجغرافيّة، فإنّهم سينخرطون لا محالة في حياة المجتمع من حولهم، وتمتدّ عمليّة التّعلّم الّتي تدفع الجهود من أجلِ النّموّ وبناء الجامعة لتشمل نطاقًا واسعًا من النّشاطات. وتتميّز حياة الجامعة بشكلٍ متزايد بمساهمتها في التّقدّم المادّيّ والاجتماعيّ والرّوحانيّ مع رعاية وتعزيز الأحبّاء لقدرتهم على فهمِ أوضاع المجتمع من حولهم، وخلق فضاءات يستكشفون فيها مفاهيم من آثار حضرة بهاء الله ومن مجالات المعرفة الإنسانيّة ذات الصّلة، وتقديم البصائر لحلّ المشاكل الفعليّة، وبناء قدرة المؤمنين وغيرهم من أفراد المجتمع الأوسع. ونتيجة لهذا الاتّساق المتنامي بين مختلف مجالات المساعي، زادت نشاطات التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة البسيطة الّتي تجري في مستوى القاعدة من بضع مئات في عام 1990 إلى عدّة آلاف في عام 2000، وإلى عشرات الآلاف في عام 2021. وقد لاقت المشاركة البهائيّة في حوارات المجتمع ردود فعل إيجابيّة مدوّية في أماكن لا تُحصى، بدءًا من الأحياء ووصولًا إلى المستوى الوطنيّ، بشريّةً حائرةً ومنقسمةً بسبب المشاكل المتعدّدة النّاجمة عن عمل قوى الهدم، تبحث بكلّ توق ولهفة عن بصائر ورُؤىً جديدة. وفي جميع مستويات المجتمع، فإنّ قادة الفكر يربطون بشكل متزايد الجامعة البهائيّة بمفاهيم ومقاربات جديدة تشتدّ الحاجة إليها في عالم اختلّت وظائفه وازداد تشرذمًا وانقسامًا أكثر من أيّ وقت مضى. إنّ قوّة بناء المجتمع الكامنة في أمر الله، والّتي غالبًا ما كانت مستترة في بداية القرن الأوّل من عصر التّكوين، قد أصبحت الآن واضحة بشكل متزايد في قُطر تلو الآخر. وإطلاق قوّة بناء المجتمع هذه النّاجمة عن وعي جديد وقدرة جديدة على التّعلّم بين الأفراد والجامعات والمؤسّسات في شتّى أنحاء العالم من المقدّر لها أن تكون السّمة المميّزة للمرحلة الحاليّة والمراحل العديدة القادمة من تكشّف الخطّة الإلهيّة.
تطوّر المركز البهائيّ العالميّ
بالتّوازي مع نموّ أمر الله وتكشّف النّظم الإداريّ، حدثت تطوّرات لا تقلّ أهمّيّة في المركز البهائيّ العالميّ خلال القرن الأوّل من عصر التّكوين، بدأت بالتّحرّك بباعث من دستور آخر، وهو لوح الكرمل المنزل من يراعة حضرة بهاء الله. لقد سبق أن نوّهنا إلى التّفاعل بين العمليّات المرتبطة بالدّساتير الثّلاثة، بما في ذلك ظهور مؤسّسات ووكالات المركز الإداريّ البهائيّ العالميّ. ويمكن الآن إضافة بعض التّأمّلات إلى هذا السّرد حول تطوير مركزه الرّوحانيّ.
عندما وطئت قدما حضرة بهاء الله شاطئ عكّاء، بدأ الفصل الّذي يُمثّل ذروة ولايته. إنّ ربّ الجنود قد ظهر في الأرض الأقدس. وقد ورد التّبشير بقدومه على لسان الأنبياء قبل آلاف السّنين، إلّا أنّ تحقّق تلك النّبوءة لم يكن باختياره بل كان أمرًا إجباريًّا تأتّى عن اضطهاده على أيدي ألدّ أعدائه، بالغًا ذروته في نفيه. ذكر حضرة بهاء الله في أحد الألواح: "إلى أن وردنا في وادي النّبيل [عكّاء]... ووجدنا قومًا استقبلونا بوجوه عزّ درّيًّا... وكان بأيديهم أعلام النّصر... إذًا نادى المنادِ فسوف يبعث الله من يُدخِل النّاس في ظُلل هذه الأعلام." لقد تعزّزت القوّة الرّوحانيّة لتلك الأرض بلا حدود بوجوده المبارك ودفن رفاته المقدّسة فيها، وبعد فترة وجيزة رفات مبشّره الّذي هو نفسه مظهر إلهيّ. إنّها الآن المَقبِل الّذي ينجذب إليه قلب كلّ بهائيّ، وهي قِبلة أذكارهم وصلواتهم، والغاية الّتي يصبو إليها كلّ حاجّ مشتاق. إنّ الأماكن المقدّسة البهائيّة ترحّب بأهالي الأرض الأقدس، بل وبشعوب الأرض قاطبةً. فهي وديعة نفيسة نحتفظ بها للبشريّة جمعاء.
مع ذلك، كان تحكّم البهائيّين بالمركز الرّوحانيّ لدينهم ضعيفًا عند اختتام العصر الرّسوليّ ولعدّة سنوات بعد ذلك. كم كان يصعب على حضرة عبد البهاء في بعض الأحيان أن یتلو الدّعاء في المقام الأطهر لوالده. كم كان وضعه أليمًا عندما اتُّهم زورًا بالتّحريض على الفتنة لأنه شيّد البناء الّذي أخلد فيه إلى الرّاحة، بأمر من حضرة بهاء الله، رفات حضرة الباب بعد الرّحلة الطّويلة من مكان استشهاده. واستمرّ وضع المركز العالميّ المحفوف بالمخاطر وغير الآمن حتّى ولاية حضرة وليّ أمر الله، وبدا ذلك جليًّا عندما استولى النّاقضون على مفاتيح مقام حضرة بهاء الله بعد وقت قصير من اضطلاعه بمسؤوليّاته. لذا، كان من بين المهامّ الأولى وأكثرها أهمّيّة لحضرة شوقي أفندي، الّتي تابعها طوال فترة ولايته، حماية المقاميْن المقدّسيْن والأماكن المتبرّكة الأخرى والحفاظ عليها وتوسعتها وتجميلها. ولتحقيق هذه الغاية، كان عليه أن يجتاز فترة من التّغيير المضطرب في الأرض الأقدس، بما في ذلك الرّكود الاقتصاديّ العالميّ، والحرب الطّاحنة، والانتقال المتكرّر للسّلطة السّياسيّة، وعدم الاستقرار الاجتماعيّ، مع تمسّكه، متأسّيًا بحضرة عبد البهاء من قبله، بالمبادئ البهائيّة الثّابتة في المعاشرة مع جميع الأهالي بالرّوح والرّيحان واحترام السّلطة الحكوميّة القائمة. حتّى إنّه في وقت من الأوقات، فكّر في نقل رفات حضرة بهاء الله إلى مكان مناسب على جبل الكرمل لضمان حمايته. كما أنّه ظلّ مقيمًا في حيفا في أوقات الاقتتال والاضطراب، رغم أنّه أصدر تعليماته للمجموعة الصّغيرة من المؤمنين المحلّيّين ليتفرّقوا في أجزاء أخرى من العالم. استمرّ حضرته بمتابعة هذا الواجب المرهق بلا كلل أو ملل حتّى مغرب حياته، عندما اعترفت السّلطات المدنيّة في نهاية الأمر بمقام حضرة بهاء الله كمكان مقدّس للبهائيّين، وتمتّع العالم البهائيّ بعد طول انتظار بحرّيّته في الاحتفاظ بأقدس مواقعه وتجميلها.
في سياق جهوده لامتلاك الأماكن المقدّسة وترميمها والمحافظة عليها، قام حضرة وليّ أمر الله بتوسعة الأملاك المحيطة بالرّوضة المباركة وقصر البهجة بشكلٍ كبير، وبدأ بإنشاء ما سيصبح في النّهاية حدائق منظّمة مزدانة شاسعة. وعلى جبل الرّبّ، أكمل، بعد توقّفٍ طويل، بناء المقام الأعلى الّذي كان قد بدأه حضرة عبد البهاء، مضيفًا إليه ثلاث غرف أخرى، وبنى رواقه المُقنطر، ورفع قبّته الذّهبيّة، وأحاطه بالحدائق الخضراء. لقد رسم "القوس الدّائريّ الرّحيب" الّذي ستُشيّد "حوله صروح النّظم الإداريّ البهائيّ العالميّ"؛ وشيّد هيكلها الأوّل عند أحد طرفيْ هذا القوس، وهو مبنى دار الآثار العالميّة، وعيّن موقع المراقد المقدّسة للورقة المباركة العُليا وشقيقها ووالدتهما في مركز هذا القوس. إنّ جهود حضرة وليّ أمر الله الرّامية إلى تطوير المركز العالميّ قد استمرّت تحت إشراف بيت العدل الأعظم. تمّ شراء المزيد من الأراضي والأماكن المقدّسة وجرى تجميلها، وشيّدت مباني القوس، وامتدّت الشّرفات من سفح جبل الكرمل إلى قمّته، كما تصوّرها حضرة عبد البهاء في الأصل وبدأ بتنفيذها حضرة وليّ أمر الله. وقبل نهاية القرن الأوّل من عصر التّكوين، ازدادت مساحة الأراضي المجاورة للمقام الأعلى إلى أكثر من 000 170 متر مربّع، في حين أدّت سلسلة من عمليّات شراءٍ وتبادلٍ للأراضي إلى توسعة المنطقة المحيطة بمقام حضرة بهاء الله مباشرةً من حوالي 000 4 إلى ما ينوف عن 000 450 متر مربع. وفي عام 2019، بدأ العمل في بناء مقام لائق ليكون المثوى الأخير لرفات حضرة عبد البهاء في عكّاء، بالقرب من حديقة الرّضوان.
وعلى مدار قرن من الزّمان، تسارعت وتيرة تطوّر المركز الإداريّ البهائيّ أيضًا. فمنذ مُستهلّ ولايته، ولعدّة سنوات، كان حضرة وليّ أمر الله يرغب بالاستعانة بمساعدين أكفّاء، بيد أنّ العالم البهائيّ آنذاك كان أصغر من أن يوفّر لحضرته مثل هذا الدّعم اللّازم. ولكن مع نموّ الجامعة، أصبح بيت العدل قادرًا بشكل متزايد على الاستفادة من سيل مستمرّ من المتطوّعين لتأسيس الدّوائر والوكالات ذات الأهمّيّة الحيويّة للأمر المبارك الّذي ينمو بسرعة، من أجل تلبية احتياجات المركز العالميّ وكذلك احتياجات الجامعات الّتي تتضاعف في جميع أنحاء العالم. والآن، يتدفّق سيلٌ من الأسئلة والنّصائح، والبصائر والهدايات، والزّائرين والحجّاج بلا توقّف بين كافّة بقاع الكوكب وقلب العالم البهائيّ. وفي عام 1987، بعد عقود من التّغيير وعدم اليقين، تُوّجت الجهود الّتي بدأها في وقت سابق حضرة شوقي أفندي وبكلّ صبر وأناة من أجل تأسيس علاقات جيّدة مع السّلطات المدنيّة في الأرض الأقدس بالاعتراف الرّسميّ بالمركز البهائيّ العالميّ باعتباره مركزًا روحانيًّا وإداريًّا للجامعة البهائيّة العالميّة، يعمل تحت رعاية بيت العدل الأعظم.
مثلما تطوّرت العلاقات بين الأفراد والجامعات والمؤسّسات بمرور الوقت، نتيجة للإنجازات السّابقة والقيام لمواجهة تحدّيات جديدة، تطوّرت كذلك علاقة المركز البهائيّ العالميّ مع البهائيّين في جميع أنحاء العالم. إنّ الارتباط الوثيق بين المركز الرّوحانيّ والإداريّ وتطوّر العالم البهائيّ قد تمّ توضيحه في الرّسالة المؤرّخةفي 24 أيّار/مايو 2001 الّتي وجّهناها إلى المؤمنين المجتمعين للاحتفال بانتهاء مشاريع جبل الكرمل: "إنّ الصّروح المهيبة الّتي ترتفع الآن على القوس الّذي رسمه حضرة شوقي أفندي على سفح جبل الرّبّ، إلى جانب سلسلة من الشّرفات المتدرّجة من الحدائق الّتي تحتضن المقام الأعلى، لهي تعبيرٌ ظاهريّ للقوّة الجبّارة الّتي تبعث الحياة في الأمر الإلهيّ الّذي نقوم على خدمته. إنّها شاهد خالد على حقيقة أنّ أتباع حضرة بهاء الله قد نجحوا في إرساء دعائم جامعة عالميّة تسمو فوق كلّ الاختلافات الّتي تمزّق الجنس البشريّ، وشكّلوا المؤسّسات الرّئيسيّة لنظم إداريّ فريد ومنيع يُشكّل حياة هذه الجامعة. وفي التّغيير الّذي طرأ على جبل الكرمل يبرز الدّين البهائيّ كحقيقة مشهودة لا يمكن إنكارها على السّاحة العالميّة بصفته مركزًا لقوى ستُعيد بناء المجتمع الإنسانيّ في تمام الوقت بمشيئته تعالى، ومصدرًا خفيًّا للبعث الرّوحانيّ لكلّ من يتوجّه إليه."
الآفاق المستقبليّة
قبل أسابيع قليلة من صعوده، كان حضرة عبد البهاء في بيته مع أحد الأحبّاء، حيث تفضّل: "تعال معي لنستمتع معًا بجمال الحديقة." ثم قال: "انظر ما الّذي يمكن أن يحقّقه روح التّفاني! هذا المكان المزدهر كان قبل بضع سنوات مجرد كومة من الحجارة، والآن أصبح مخضرًّا بالأشجار والأزهار. مُنية قلبي أن ينهض جميع الأحبّاء بعد رحيلي لخدمة أمر الله، وإن شاء الله سيكون الأمر كذلك." ووعد قائلًا: "وعمّا قريب" سيظهر أولئك "الّذين سيحيون العالم."
أحبّتنا الأعزاء! في نهاية القرن الأوّل من عصر التّكوين، يجد العالم البهائيّ نفسه وقد وُهب قدراتٍ ومواردَ لم يكن بالإمكان تخيّلها إلّا بشكل باهت في وقت صعود حضرة عبد البهاء. فبالجهود الّتي بذلتها أجيالٌ متعاقبة، تمّ اليوم تنشئة جموع غفيرة من النّاس تنتشر في جميع أنحاء المعمورة – نفوسٍ مكرّسةٍ تعمل جماعيًّا على تشييد النّظم الإداريّ لأمر الله، وتوسيع نطاق الدّخول إلى رحاب حياة جامعتها، وتعميق انخراطها في المجتمع، وتطوير مركزها الرّوحانيّ والإداريّ.
إنّ هذا الاستعراض الموجز للمائة عام الماضية قد أوضح كيف أنّ الجامعة البهائيّة، في سعيها جاهدة لتنفيذ الدّساتير الإلهيّة الثّلاثة بشكل منهجيّ، قد أصبحت خَلقًا جديدًا، كما تنبّأ حضرة عبد البهاء. فتمامًا كما يمرّ الإنسان بمراحل جسمانيّة وفكريّة مختلفة من النّموّ والتّطوّر حتّى يصل إلى مرحلة البلوغ، كذلك أيضًا تتطوّر الجامعة البهائيّة عضويًّا، في الحجم والبِنية، وفي الفهم والرّؤية، واستعدادها لتقبُّل مسؤوليّاتها وتوطيد العلاقات بين الأفراد والجامعات والمؤسّسات. وعلى مدار هذا القرن، فإنّ سلسلة أوجه التّقدّم الّتي شهدتها الجامعة البهائيّة في البيئات المحلّيّة ومثلها في المستوى العالميّ، قد مكّنتها من الاستمرار في عمل هادف عبر مجموعة من المساعي تتّسع باستمرار.
عندما شارف العصر الرّسوليّ على الانتهاء، واجهت الجامعة أسئلة جوهريّة تتعلّق بكيفيّة تنظيم شؤونها الإداريّة من أجل الاستجابة لمتطلّبات الخطّة الإلهيّة. لقد أرشد حضرة وليّ أمر الله الأحبّاء في تعلّم كيفيّة مواجهة هذه الأسئلة الأوّليّة، وهي عمليّة بلغت ذروتها في التّرتيبات العالميّة الوليدة الّتي كانت قائمة وقت رحيله. إنّ القُدرة الّتي بُنيت خلال تلك الفترة أتاحت للعالم البهائيّ مواجهة مجموعة من الأسئلة الجديدة تتعلّق بكيفيّة المضيّ قُدُمًا بعمل الأمر المُبارك على نطاق أوسع وأكثر تعقيدًا تحت إشراف بيت العدل الأعظم. ولكن، مرّة أخرى، وبعد إحراز تقدّم ملحوظ على مدى عدّة عقود، برز المزيد من الأسئلة حول الفرص الأكبر المُتاحة فيما يتعلّق بالاتّجاه المستقبليّ لأمر الله قبل بداية خطّة السّنوات الأربع، الّتي وضعت تحدّيًا جديدًا لفترة أخرى من التّطوّر تمحورت حول تحقيق تقدّم كبير في عمليّة الدّخول في دين الله أفواجًا في كافّة أنحاء العالم. فهذه القدرة المتنامية على حلّ الأسئلة المعقّدة ومن ثمّ مواجهة أسئلة أكثر تعقيدًا هي سمة هامّة تميّز عمليّة التّعلّم الّتي تدفع تقدّم الأمر المبارك. وهكذا، بات من الواضح أنّه مع كلّ خطوة يتقدّم فيها العالم البهائيّ نحو تكشّفه العضويّ، فإنّه يطوّر قوى جديدة وقدرات جديدة تمكّنه من مواجهة تحدّيات أكبر وهو يسعى جاهدًا لتحقيق غاية حضرة بهاء الله للبشريّة. وسيستمر الأمر على هذا المنوال رغم حوادث العالم وما يظهر فيه، ومن خلال الأزمات والانتصارات، ومع العديد من المنعطفات غير المتوقّعة، وعبر مراحل لا حصر لها من عصر التّكوين والعصر الذّهبيّ وحتّى نهاية دورة حضرة بهاء الله.
بحلول السّنوات الأخيرة من القرن الأوّل من عصر التّكوين، ظهر إطار عملٍ مشترك أصبح محوريًّا في عمل الجامعة وأنار الفكر وأعطى شكلًا لأنشطة تزداد تعقيدًا وفعّاليّة. هذا الإطار يتطوّر باستمرار من خلال تراكم الخبرات وتوجيهات بيت العدل الأعظم. والعناصر المحوريّة لهذا الإطار هي الحقائق الرّوحانيّة والمبادئ الأساسيّة لأمر الله. هناك عناصر أخرى تساهم أيضًا في الفكر والعمل تنطوي على القِيَم والمواقف والمفاهيم والأساليب. هناك بعض العناصر الأخرى أيضًا تشتمل على فهم العالم المادّيّ والاجتماعيّ من خلال البصائر المُستقاة من مختلف فروع المعرفة. وضمن هذا الإطار الّذي يتطوّر باستمرار، يتعلّم البهائيّون كيفيّة تحويل تعاليم حضرة بهاء الله إلى أفعال بنحو منهجيّ كي تتحقّق أهداف حضرته السّامية الرّامية إلى إصلاح العالم. لا يمكن المبالغة في تقدير أهمّيّة هذه القدرة المتزايدة على التّعلّم وتأثيراتها المترتّبة على تقدّم البشريّة في المرحلة الحاليّة من تطوّرها الاجتماعيّ.
كم من انجازات حقّقها العالم البهائيّ! وكم لا يزال عليه تحقيقه! فخطّة السّنوات التّسع قد حدّدت المهامّ الّتي تنتظرنا مباشرة. ومن بين مجالات التّركيز، مضاعفة وتكثيف عدد برامج النّموّ في مجموعات جغرافيّة في أنحاء العالم واتّساق متزايد في عمل بناء الجامعة، والعمل الاجتماعيّ، والمشاركة في الحوارات السّائدة من خلال الجهود المتضافرة الّتي يبذلها أنصار الخطّة الثّلاثة. كما سيحظى المعهد التّدريبيّ بمزيد من الدّعم والتّعزيز وسيستمرّ في التّطوّر كمنظّمة تعليميّة تنمّي القدرات اللّازمة للخدمة. والبذور الّتي يزرعها في قلوب الأفواج المتعاقبة من الشّباب ستتمّ رعايتها من خلال فرص تعليميّة أخرى لتمكين كلّ نفس من المساهمة في تحقيق الرّفاه والتّقدّم الاجتماعيّ. كما ستُكمَّل حركة الشّباب في جميع أنحاء العالم من خلال التّقدّم غير المسبوق للمرأة كشريك كامل في شؤون الجامعة. وسيتمّ تعزيز قدرة المؤسّسات البهائيّة في جميع المستويات، مع إيلاء اهتمام خاصّ لتأسيس وتطوير المحافل المحلّيّة وتعزيز انخراطها في المجتمع الأوسع ومع قادته. كما ستتمّ رعاية الحياة الفكريّة للجامعة لتوفير الدّقّة ووضوح الفكر اللّازمين لتبديد شكوك الإنسانيّة حول إمكانيّة تطبيق العلاج الشّافي لتعاليم حضرة بهاء الله. ستستمرّ كافّة هذه الجهود من خلال سلسلة من الخطط الّتي تنطوي على تحدٍّ يمتدّ لأكثر من جيل، من شأنها أن تنقل العالم البهائيّ عبر عتبة قرنه الثّالث.
إنّ الجهود الحثيثة للحصول على فهم أكمل لتعاليم حضرة بهاء الله والعيش وفقًا لها تتمّ ضمن السّياق الأوسع لعمليّتيْ الهدم والبناء اللّتين وصفهما حضرة شوقي أفندي. وتحقيق هدف السّلسلة الحاليّة من الخطط، ألا وهو إطلاق قوّة بناء المجتمع الكامنة في الأمر المبارك بدرجات متعاظمة، يستدعي قدرةً على قراءة واقع المجتمع بينما يستجيب ويتشكّل بفعل هاتين العمليّتين التّوأم.
إنّ كمًّا هائلًا من القوى والأحداث المدمّرة، بما فيها التّدهور البيئيّ، والتّغيّر المناخيّ، والأوبئة، وأفول شمس الدّين والأخلاق، وفقدان الهدف والهويّة، وضعف مفاهيم الحقيقة والمنطق، والتّكنولوجيا الجامحة، واستفحال التّعصّبات والخلافات الإيديولوجيّة، وتفشّي الفساد، والاضطرابات السّياسيّة والاقتصاديّة، والحرب والإبادة الجماعيّة، كلّها قد لطّخت بالدّم والألم صفحات التّاريخ وحياة آلاف الملايين. وفي الوقت نفسه، يمكن أيضًا تمييز الاتّجاهات البنّاءة المُفعمة بالأمل، والّتي تُساهم في حدوث ذلك "الهياج العام" الّذي ذكر حضرة شوقي أفندي بأنّه يعمد إلى "تطهير البشريّة وإعادة تشكيلها تمهيدًا لليوم الّذي يتمّ فيه الاعتراف بالجنس البشريّ ككيانٍ واحد وتتأسّس وحدته". إنّ إشاعة روح التّضامن العالميّ، وتنامي وعي التّكافل العالميّ، وتبنّي العمل التّعاونيّ بين الأفراد والمؤسّسات، وتزايد التّوق إلى العدالة والسّلام لهي أمور تعمل على إحداث تحوّل جذريّ في العلاقات الإنسانيّة. وهكذا، يواصل العالم تقدّمه نحو رؤيا حضرة بهاء الله بخطى متردّدة تفوق الحصر، وبقفزات هائلة أحيانًا، وبمسافات متقطّعة أحيانًا أخرى يتوقّف فيها التّقدّم أو حتّى يتراجع، بينما تقوم الإنسانيّة بصياغة العلاقات الّتي تشكّل أُسس عالم تسوده الوحدة والسّلام.
إنّ الجامعة البهائيّة ليست بمنأى عن تأثير القوى الهدّامة الّتي تعصف بالعالم، إذ إنّ كلّ جامعة بهائيّة مركزيّة في واقع الأمر تحمل بصمة منها. ونتيجة لذلك، ففي أماكن مختلفة وفي أوقات متباينة، تأخّر تقدّم جامعة معيّنة بسبب نزعات اجتماعيّة خبيثة أو تمّ تقييده بشكل مؤقّت أو حتّى إخماده بسبب المعارضة. وأدّت الأزمات الاقتصاديّة الّتي تحدث بين الحين والآخر إلى تقليص الموارد الماليّة المحدودة أصلًا للأمر المبارك، وإلى عرقلة مشاريع النّموّ والتّنمية. وآثار الحرب العالميّة قد شلّت لبعض الوقت قدرة معظم الجامعات على تنفيذ خطط منهجيّة. والاضطرابات الّتي أعادت تشكيل الخريطة السّياسيّة للعالم أوجدت عقبات أمام مشاركة بعض السّكّان بشكل كامل في عمل أمر الله. كما أنّ التّعصّبات الدّينيّة والثّقافيّة الّتي كان يُعتقد أنّها بدأت بالتّراجع، عادت مرّة أخرى بقوّة متجدّدة. لقد سعى البهائيّون جاهدين لمواجهة هذه التّحدّيات بعزيمة وتصميم. ومع ذلك، وعلى مدى القرن الماضي، لم يشهد العالم ردّة فعل إزاء مواجهة القوى المعادية الّتي أُطلق لها العنان لمعارضة تقدم أمر الله أنبل من تلك الّتي صدرت عن البهائيّين في إيران.
منذ السّنوات الأولى من ولاية حضرة وليّ أمر الله، استمرّ الاضطهاد الّذي تحمّله البهائيّون في إيران طوال العصر الرّسوليّ على شكل موجات من القمع العنيف اجتاحت هذه الجامعة، وتصاعدت حدّتها في الحملات المُستبدّة المُمنهجة الّتي شُنّت في أعقاب الثّورة الإيرانيّة ولا تزال مستمرّة بلا هوادة إلى يومنا هذا. ورغم كلّ ما عانوه، فقد وقف أحبّاء إيران في وجهها بشجاعة لا تنثني واستقامة بنّاءة. فقد فازوا بشرف خالد بما حقّقوه من إنجازات من قبيل تأسيس المعهد البهائيّ للدّراسات العُليا لضمان تعليم الأجيال القادمة، وكذلك جهودهم الرّامية إلى إحداث تغيير في آراء المنصفين من أبناء وطنهم، سواء داخل البلاد أو خارجها، وفوق ذلك كلّه، تحمّلهم لعدد لا يحصى من المظالم والإذلال والحرمان من أجل حماية إخوانهم المؤمنين، والحفاظ على سلامة دين حضرة بهاء الله في موطنه الحبيب، وحماية وجوده في تلك الأرض من أجل صالح سكّانها. وفي كلّ ما أظهروه من ثبات لا يتزعزع، وإخلاص متفان، ودعم متبادل تكمن دروس وعِبَر جوهريّة في الكيفيّة الّتي ينبغي أن تكون عليها استجابة العالم البهائيّ لتسارع القوى المدمّرة المتوقّع حدوثها في الأعوام المقبلة.
في صُلب هذا التّحدّي الّذي يوجده التّفاعل بين عمليّتي الهدم والبناء يكمن تحدٍّ يتمثّل في التّشبّث بقوّة بتعاليم حضرة بهاء الله ووصفه للواقع، مع مقاومة الانجرار نحو المناقشات المثيرة للجدل والاستقطاب والوصفات المخادعة الّتي تعكس محاولات عقيمة لتحديد الهويّة الإنسانيّة والواقع الاجتماعيّ من خلال مفاهيم إنسانيّة محدودة، وفلسفات مادّيّة، ومشاعر مُتضاربة. يتفضّل حضرة بهاء الله "إنّ نبض العالم بيد الطّبيب الحاذق، فهو الّذي يشخّص المرض ويصف العلاج بحكمته البالغة". و "يمكن أن نشاهد بوضوح كيف أحاطت بالعالم من كلّ الجهات البلايا العظيمة والرّزايا غير المحدودة" ومع ذلك، يضيف حضرته قائلًا "ووقف أولئك الّذين أسكرهم غرور النّفس والهوى حائلًا بين هذا المريض وذلك الطّبيب الحاذق. فانظروا كيف أوقع هؤلاء النّاس جميعًا، بما فيهم أنفسهم، في حبائل مكائدهم." فإذا وقع البهائيّون في شرك الأفكار المضلّلة للشّعوب المتنازعة، وإن هم تأسّوا بالقيم والمواقف والمُمارسات الّتي يتميّز بها عصر منهمك في شؤونه الذّاتيّة ويخدم مصالحه فقط، فإنّ ذلك سيُؤخّر ويعيق إطلاق تلك القوى اللّازمة لتخليص البشريّة من محنتها. بدلًا من ذلك، كما يوضّح حضرة وليّ أمر الله، "بينما تتهاوى البشريّة إلى أعماق أكثر من اليأس والانحلال والخصومة والبلاء، فإنّ على البُناة الأشاوس لنظم حضرة بهاء الله العالميّ الصّاعد، الارتقاء إلى ذُرى أسمى وأنبل من الشّجاعة والبطولة، فليتقدّموا بقوّة وسرعة نحو المستقبل وهم على يقين مبين أنّ أقصى مجهوداتهم وأعظم فرصة لتحقيق إنجازاتهم، ستتزامن مع الاضطرابات المروّعة الّتي تسم أدنى درَكات الانحطاط السّريع في مقدّرات البشريّة."
ليس بمقدور أحد أن يتوقّع على وجه التّحديد أيّ مسار قُدّر لقوى الهدم أن تتّخذه، وما هي التّشنّجات العنيفة الّتي ستهاجم البشريّة في هذا العصر الّذي يُكابد آلام المخاض، أو ما هي العقبات والفرص الّتي قد تسنح، حتّى تصل العمليّة إلى ذروتها في ظهور ذلك الصّلح الأكبر الّذي سيشير إلى وصول المرحلة الّتي يتمّ فيها الاعتراف بوحدة الجنس البشريّ كوحدة واحدة، وستتوجّه الأمم "من السّلاح إلى الإصلاح". بيد أنّ هناك شيئًا واحدًا مؤكّدًا: إنّ عمليّة البناء سوف تتسارع أيضًا، رابطة معًا جهود أولئك الّذين يتعلّمون تحويل تعاليم حضرة بهاء الله إلى واقع مع جهود أولئك الّذين ينشدون العدالة والسّلام في المجتمع الأوسع. في كتابه "ظهور العدل الإلهيّ"، أوضح حضرة شوقي أفندي للبهائيّين في أمريكا أنّه، نظرًا لصغر حجم جامعتهم والتّأثير المحدود الّذي كانت تمارسه، فعليهم التّركيز، في ذلك الوقت، على نموّها وتطوّرها وهي تتعلّم تطبيق تعاليم أمر الله. ومع ذلك، فقد وعد بأنّه سيأتي الوقت الّذي سيُدعوْن فيه لإشراك إخوانهم المواطنين في عمليّة ترمي إلى العمل من أجل شفاء وإصلاح أمّتهم. هذا الوقت قد أزف الآن. ولم يأزف للبهائيّين في أمريكا فحسب، بل للبهائيّين في العالم أجمع، مع إطلاق قوّة بناء المجتمع الكامنة في الأمر المبارك بدرجات متعاظمة.
إنّ إطلاق مثل هذه القوّة له آثار على مدار العقود القادمة. فلكلّ شعب ولكلّ أمّة دور تقوم به في المرحلة القادمة من إعادة البناء الأساسيّة للمجتمع الإنسانيّ. الكلّ لديهم بصائر وتجارب فريدة يقدّمونها لبناء عالم موحّد. إنّ مساعدة السّكّان في إطلاق طاقاتهم الكامنة من أجل تحقيق أسمى تطلّعاتهم هي مسؤوليّة الأحبّاء باعتبارهم حاملي رسالة حضرة بهاء الله المحيية للعالم. ففي هذا الجهد، يُشارك الأحبّاء هذه الرّسالة النّفيسة مع الآخرين، ويسعَوْن جاهدين لإظهار فعّاليّة الدّرياق الإلهيّ في حياة الأفراد والجامعات، ويعملون مع جميع الّذين يقدّرون ويحملون القيَم والتّطلعات ذاتها. وبقيامهم بذلك، فإنّ رؤيا حضرة بهاء الله لعالم موحّد ستقدّم اتّجاهًا واضحًا ومفعمًا بالأمل لشعوب ضلّت طريقها جرّاء الارتباك السّائد في العالم، وكذلك مسارًا بنّاءً للتّعاون في البحث عن حلول لأمراض اجتماعية مزمنة. وبينما يزداد تغلغل روح الأمر المبارك في القلوب لإضرام نار المحبّة وتعزيز الهويّة المشتركة للإنسانيّة كشعبٍ واحد، فإنّها تغرس حسًّا بالمسؤوليّة تجاه المجتمع نابعًا من ضمير حيّ ومخلص، وبدل السّعي وراء سلطة دنيويّة، فإنّها تعيد توجيه الطّاقات نحو خدمة متفانية للصّالح العامّ. كما يتبنّى السّكّان بشكل متزايد أسلوب التّشاور والعمل والمراجعة والتّقييم ليحلّ محل المنافسة والنّزاع الّذي لا ينتهي. ويعمل الأفراد والجامعات والمؤسّسات في مجتمعات مختلفة على تنسيق جهودهم بشكلٍ متزايد لتحقيق هدف مشترك يتمثّل في التّغلّب على الخصومات الطّائفيّة، وأن تتجذّر في شخصيّة الإنسان وفي الممارسات الاجتماعيّة صفات روحانيّة وأخلاقيّة أساسيّة لتقدّم الإنسانيّة ورفاهها.
إنّ العالم، في الحقيقة، يتحرّك قُدُمًا نحو قَدَره المحتوم. وبينما يتقدّم أمر حضرة بهاء الله إلى القرن الثّاني من عصر التّكوين، فليستمدّ الجميع الإلهام من كلمات حضرة وليّ أمر الله المحبوب، الّذي شكّلت يده الهادية القرن الماضي بكلّ مَنَعةٍ وثبات. ففي عام 1938 كتب حضرته حول تنفيذ المرحلة الأولى من الخطّة الإلهيّة، قائلًا: "إنّ الإمكانات الّتي أودعتها يد العناية الإلهيّة في هذه الخطّة، ستُمكّن مروّجيها دون شكّ من تحقيق غايتهم. ومع ذلك، فإنّ الكثير سوف يعتمد على الرّوح والكيفيّة الّتي يؤدّون بها هذه المهمّة. فبفضل وضوح وثبات رؤيتهم، وبفضل حيويّة ورسوخ إيمانهم، وبفضل نزاهة أخلاقهم، وبفضل صلابة عزيمتهم، وتفرّد سموّ أهدافهم وغايتهم، وما حقّقوه من إنجازات لا نظير لها، فإنّ الّذين يعملون في سبيل مجد الاسم الأعظم … هم الأقدر على أن يُظهروا لمجتمع ينتمون إليه، والّذي يفتقر إلى الرّؤية والإيمان والاطمئنان، قدرتهم على توفير ملاذ آمن لأعضائه في ساعة هلاكهم المحقّق. عندئذٍ، وعندئذٍ فقط، ستتمكّن هذه الشّجيرة الغضّة، المغروسة في التّربة الخصبة لنظم إداريّ إلهيّ، وتستمدّ طاقتها من العمليّات الدّيناميكيّة لمؤسّساتها، من أن تعطي أوفر ثمارها المقدّرة."
[التّوقيع: بيت العدل الأعظم]