[ترجمة]
28 كانون الأوّل/ ديسمبر 2010
إلى مؤتمر هيئات المشاوَرين القارّيّة
الأحبّاء الأعزّاء،
خمسة عشر عامًا انقضت منذ أن قدّمنا لمجموعة المشاوَرين المجتمعين في الأرض الأقدس في مناسبة كهذه الملامح الأولى للمسار الّذي ينبغي للجامعة البهائيّة أن تتّخذه إذا ما أُريد تسريع العمليّة المزدوجة لتوسّعها واستحكامها، مسار هيّأتها خبراتها المتراكمة لسلوكه بكلّ ثقة. ولا حاجة للتّعليق على المسافة الّتي تمّ اجتيازها خلال عقدٍ ونصف من الزّمان، فسجلّ الإنجازات يحكي عن نفسه. ندعوكم اليوم لبدء المداولات في المرحلة التّالية من المشروع العظيم الّذي يباشره العالم البهائيّ، مرحلة تمتدّ من رضوان 2011 حتّى رضوان 2016 وتُشكّل الخطّة الأولى من خطّتين متتاليتين مدّة كلّ منهما خمس سنوات ستبلغ ذروتها في الذّكرى المئويّة لافتتاح عصر التّكوين لأمر الله. نطلبُ منكم خلال الأيّام المُقبلة أن تضعوا تصوّرًا واضحًا للكيفيّة الّتي سيمدّ بها المشاوَرون ومعاونوهم يد المساعدة للجامعة لتبني على إنجازاتها الاستثنائيّة، بسط نمط التّعلّم الّذي أصبح بلا ريب سمةً مميّزةً لمساعيها التّبليغيّة إلى ميادين أخرى من العمل؛ واكتساب القدرة اللّازمة لتوظيف، بدرجةٍ عاليةٍ من الاتّساق، الأدوات والأساليب الّتي جاهدت لتطويرها؛ وزيادة، تتجاوز كلّ الأعداد السّابقة، في صفوف أولئك الّذين، وقد أدركوا رؤيا الأمر الإلهيّ، يجهدون بكلّ همّة سعيًا لتحقيق مهمّتها الإلهيّة.
في رسالتنا لرضوان هذا العام، وصفنا القوى المحرّكة لعمليّة التّعلّم الّتي استجمعت زخمًا مطّردًا خلال أربع خطط عالميّة متعاقبة، معزّزة قدرة الأحبّاء على الانخراط في العمل على مستوى القاعدة. والمشهد الّذي نراه من هذا الموقع لمذهلٌ حقًّا. فبوجود أكثر من 350.000 نفسٍ في جميع أنحاء العالم أنهوا الدّورة الأولى للمعهد، ازدادت القدرة على تشكيل نمط من الحياة يتميّز بسمته التّعبّدية زيادة ملموسة. وفي بيئات وأوضاع مختلفة في كلّ قارات العالم تتّحد مجموعات من المؤمنين مع آخرين في الدّعاء، ويتوجّهون بقلوبهم إلى بارئهم بالمناجاة والابتهال، ويطلبون المدد من تلك القوى الرّوحيّة الّتي تعتمد عليها فعّاليّة جهودهم الفرديّة والجماعيّة. إنّ بلوغ ذخيرة معلّمي صفوف الأطفال البهائيّة في مدّة خمس سنوات إلى ما يقارب الضّعف ليصل مجموعها إلى حوالي 130.000 معلّم، قد مكّن الجامعة من تلبية التّطلّعات الرّوحيّة للصّغار بكلّ إخلاص؛ وتضاعُف القدرة بمعدل ستّ مرّات خلال الفترة نفسها على مساعدة الشّباب النّاشئ لشقّ طريقهم عبر هذه المرحلة الحرجة من حياتهم يُعدّ مؤشّرًا لمستوى الالتزام تجاه هذه الفئة العمريّة. والأكثر من ذلك أنّ عددًا ملحوظًا من الأحبّاء في كلّ مكان يجدون أنفسهم مستعدّين للدّخول في أحاديث مع أناس من شتّى الخلفيّات والاهتمامات والشّروع معًا بتحرّي الحقيقة ممّا يؤدّي إلى فهمٍ مشتركٍ لمتطلّبات هذه المرحلة من تاريخ البشريّة ووسائل تلبيتها. أمّا تغذية المضاعفة المنهجيّة للنّشاطات الأساسيّة في جميع أنحاء العالم، مع ما لا يقلّ عن نصف مليون مشارك معروف في وقت معيّن، فهي نتاج جهود ما يقارب 70.000 من الأحبّاء القادرين على الخدمة كمرشدين للحلقات الدّراسيّة.
وكما أوضحنا في رسالة الرّضوان، فإنّ جامعة الاسم الأعظم تمتلك، في النّظام الّذي استحدثته لتنمية مواردها البشريّة، أداةً ذات إمكانات لامتناهية. ففي ظلّ ظروفٍ متنوّعةٍ وضمن أيّة مجموعةٍ جغرافيّةٍ تقريبًا، يُمكن لنواة تتّسع دائرتها من الأفراد أن تُولّد حركةً نحو هدف تحقيق النّظام العالميّ الجديد. منذ عقدٍ من الزّمان عندما قدّمنا مفهوم المجموعة الجغرافيّة، وهي بُنية جغرافيّة تهدف إلى تسهيل سُبُل التّفكير في نموّ أمر الله، عرضنا مخطّطًا أوّليًّا من أربع مراحل واسعة على مسار تطوّرها. وعندما شرعت الجامعة البهائيّة في تنفيذ بنود الخطّة، ثبُتت نجاعة هذا المخطّط في إعطاء شكلٍ وتعريفٍ لعمليّة مستمرّة أساسًا. إنّ الخبرة الوفيرة الّتي تراكمت منذ ذلك الحين تُمكّن المؤمنين الآن من تصوّر حركة السّكّان، تدفعها قوى روحانيّة متعاظمة، على أنّها سلسلة متّصلة غنيّة وحيويّة. إنّ استعراضًا وجيزًا للعمليّة الّتي تتكشّف تدريجيًّا في مجموعة جغرافيّة، على الرّغم من حسن اطّلاعكم جميعًا عليها، سيخدم في تأكيد طابعها العضويّ أساسًا.
برنامـــجُ النّموّ
من الثّابت أنّ الفرص الّتي تتيحها الظّروف الشّخصيّة للمؤمنين المنخرطين ابتداءً، أو ربّما مهاجر داخليّ واحد، للدّخول في أحاديث هادفة ومتميّزة مع السّكّان المحلّيّين تحدّد الكيفيّة الّتي تبدأ بها عمليّة النّموّ في المجموعة الجغرافيّة. فحلقةٌ دراسيّةٌ تضمّ بضعة أصدقاء أو زملاء، أو صفٌّ يُعقد لمجموعة من أطفال الحيّ، أو مجموعةٌ للشّباب النّاشئ تشكّل بعد ساعات الدّوام المدرسيّ، أو جلسة دعاء تُقام للعائلة والأصدقاء، يمكن لأيٍّ من هذه النّشاطات أن يكون بمثابة حافز للنّموّ. وما يحدث بعد ذلك لا يتّبع مسارًا محدّدًا سلفًا. فقد تبرّر الظّروف إعطاء أولويّةٍ لأحد النّشاطات الأساسيّة ليتضاعف بمعدّل أسرع من النّشاطات الأخرى، ومن الممكن أيضًا أن تتقدّم النّشاطات الأربعة بنفس الوتيرة، وقد يتمّ استدعاء فرق زائرة لإعطاء دفعة لمجموعة النّشاطات الوليدة. ولكن بغض النّظر عن التّفاصيل، يجب أن تكون النّتيجة واحدة. ففي كلّ مجموعة، يجب أن يكون مستوى الاتّساق الّذي تحقّق بين النّشاطات الأساسيّة بمُجملها على شأن يُلاحظ به وجود برنامج واعد للتّوسّع والاستحكام المستدامين لأمر الله. وهذا يعني أنّ جلسات الدّعاء وصفوف الأطفال ومجموعات الشّباب النّاشئ، أيًّا كانت تركيبتها ومهما صغُر عددها، تجري استدامتها من جانب أولئك الّذين يتقدّمون عبر سلسلة دورات المعهد والملتزمين برؤية التّحوّل الفرديّ والجماعيّ الّتي يرعونها. هذا الدّفق الأوّليّ من الموارد البشريّة إلى ميدان العمل المنهجيّ المنظّم يشير إلى المَعْلَم الأوّل من عدّة معالم بارزة في عمليّة النّموّ المستدام.
على جميع المؤسّسات والوكالات الّتي تعزّز هدف سلسلة الخطط العالميّة الحاليّة أن تمارس تلك الدّرجة من المرونة ورشاقة الحركة الّتي يتطلّبها نشوء عمليّة حيويّة كهذه، ولكن لا أحد أكثر من أعضاء هيئة المعاونين. فمساعدة الأحبّاء على تصوّر هذا المَعْلَم الأوّل الهامّ، والطّرق المتعدّدة للوصول إليه لهو أمرٌ أساسيٌّ لعمل كلّ عضو من أعضاء هيئة المعاونين ولعدد متزايد من مساعديه. وفي هذا العمل كما هو في سائر أعمالهم، يجب أن يُظهروا اتّساع الرّؤية ووضوح الفكر والمرونة والحُنكة وينبغي عليهم أن يقفوا جنبًا إلى جنب مع الأحبّاء يؤازرونهم في كفاحهم ويشاركونهم في أفراحهم. بعض هؤلاء الأحبّاء سينتقلون سريعًا إلى طليعة المشاركين في النّشاطات بينما سيتقدّم آخرون بخطى متردّدة، إلّا أنّهم جميعًا بحاجة إلى الدّعم والتّشجيع الّذي لا يُقدَّم بصورة نظريّة، بل على أساس تلك المعرفة الحميمة الّتي لا تُكتسب إلّا عن طريق العمل جنبًا إلى جنب في ميدان الخدمة. إنّ الإيمان بقدرة كلّ فردٍ يُبدي رغبةً في الخدمة سيكون أساسيًّا لجهود أولئك الّذين عليهم أن يستدرّوا من المؤمنين مشاركةً قلبيّةً صادقةً في الخطّة. أمّا المحبّة غير المشروطة والخالية من التّعامل الأبويّ فلا غنى عنها إن كان عليهم المساعدة في تحويل التّردّد إلى شجاعة نابعة من التّوكّل على اللّه واستبدال شغف الإثارة بالالتزام بعملٍ طويل الأمد. كما أنّ العزيمة المقترنة بالهدوء ستكون ضروريّةً بينما يسعون جاهدين ليُظهروا كيف يُمكن تحويل حجر العثرة إلى درجة في سلّم التّقدم. وأخيرًا فالاستعداد للإصغاء، مع إدراك وفهم روحانيّ عالٍ، لهو أمر لا يقدّر بثمن في تحديد العقبات الّتي قد تحول دون تقدير بعض الأحبّاء لضرورة العمل الموحّد.
زيادة التّكثيف
من المهمّ ملاحظة أنّه بينما يظهر برنامج نموٍّ إلى حيّز الوجود تبدأ الرّوح النّاشئة للجامعة بممارسة تأثيرها على مسار الأحداث. وسواء كانت النّشاطات متناثرة في أنحاء المجموعة الجغرافيّة أو مركّزة في قرية واحدة أو حيّ واحد فإنّ حسًّا بالهدف المشترك يَسِمُ مساعي الأحبّاء وجهودهم. ومهما كان مستوى التّنظيم الّذي عمل على توجيه المظاهر المبكّرة لهذه الرّوح، فإنّ المضاعفة المنهجيّة والمنسّقة للنّشاطات الأساسيّة تستلزم بالضّرورة بلوغ مستويات أعلى بشكل سريع. ومن خلال تدابير متنوّعة تمّ إعطاء النّشاط هيكليّة أكبر، والمبادرة الّتي شكّلتها إلى حدّ كبير إرادة الفرد في السّابق، أُعطيت الآن تعبيرًا جماعيًّا. وتتحرّك مجموعة كاملة من المنسّقين الّذين عيّنهم المعهد لتأخذ مكانها، أي منسقي الحلقات الدّراسيّة ومجموعات الشّباب النّاشئ وصفوف الأطفال. وأيّ ترتيب للتّعيين يُمكن أن يكون صحيحًا. ولا شيء بأقلّ من الوعي الدّقيق بالظّروف على أرض الواقع ينبغي أن يقرّر هذا التّرتيب. لأنّ ما هو على المحكّ ليس الامتثال لمجموعة من الإجراءات بل تكشّف عمليّة تعليميّة بدأت تُظهر قدرتها الكامنة على تحقيق التّمكين الرّوحانيّ لأعدادٍ غفيرةٍ.
وإلى جانب تأسيس آلياتٍ لدعم عمليّة المعهد، تتشكّل هياكل إداريّة أخرى تدريجيًّا. فتبرز من الاجتماعات الّتي تُعقد من حين لآخر لعدد قليل من المؤمنين مشاورات منتظمة لمجموعة أساسيّة يتّسع حجمها من الأحبّاء المهتمّين بتوجيه مخزون متزايد من الطّاقة نحو ميدان الخدمة. ومع استمرار عمليّة النّموّ في اكتساب الزّخم فإنّ مثل هذا التّرتيب يُخفق في النّهاية في تلبية متطلّبات التّخطيط وصنع القرار، فتُشكَّل "لجنة تبليغ المنطقة"، ويُضفى الطّابع المؤسّسيّ على اجتماعات المراجعة والتّقييم. وبالتّفاعل المشترك بين اللّجنة والمعهد وأعضاء هيئة المعاونين، يوضع مخطّط كامل لتنسيق النّشاطات قيد العمل، مع كلّ القدرات الكامنة فيه واللّازمة لتسهيل تدفّق الهداية والأموال والمعلومات بشكلٍ فعّال. والآن، ستتوافق عمليّة النّموّ في المجموعة الجغرافيّة مع الإيقاع الّذي أوجدته دورات مُعْلَنة من التّوسّع والاستحكام، يفصل بينها كلّ ثلاثة أشهر اجتماع للمراجعة والتّقييم والتّخطيط، والّتي بدأت تتشكّل دون انقطاع.
ومرّة أخرى هنا، على أعضاء هيئة المعاونين وسائر المؤسّسات والوكالات الأخرى ذات العلاقة كالمجلس الإقليميّ وهيئة المعهد التّأكّد بأنّ الهياكل الإداريّة الّتي تتشكّل في المجموعة الجغرافيّة تمتلك الخصائص المطلوبة. وبالتّحديد، بأنّ سلسلة الدّورات الّتي أوصينا المعاهد باستخدامها في كلّ مكان والّتي تسهّل عمليّة التّحوّل الجارية بكلّ فعاليّة، مُعدَّة لإيجاد بيئة تُفضي إلى المشاركة العموميّة وإلى الدّعم والمساعدة المتبادلة في آن معًا. إنّ طبيعة العلاقات بين الأفراد في هذه البيئة، حيث يعتبر الجميع أنفسهم يسلكون طريقًا مشتركًا للخدمة، قد تمّ شرحها بإيجاز في رسالة الرّضوان. كما أشرنا فيها أيضًا إلى أنّ لمثل هذه البيئة تأثيرٌ على الشّؤون الإداريّة لأمر الله. فبينما يشارك عددٌ متنامٍ من المؤمنين في أعمال التّبليغ والإدارة والّتي يباشرونها بموقف تعلّميّ يتّسم بالتّواضع، فإنّهم سيعتبرون كلّ مهمّة وكلّ تفاعل بمثابة مناسبة للعمل يدًا بيد في السّعي لإحراز التّقدّم ولمرافقة بعضهم بعضًا في جهودهم الرّامية لخدمة أمر الله. وبهذه الطّريقة يتمّ تهدئة دافع المبالغة في إصدار التّعليمات، وبهذه الطّريقة أيضًا يتمّ تفادي الميل لاختصار عمليّة تحوُّل مركّبة إلى خطوات مبسّطة تُوجّه وفق تعليمات دليل إرشاديّ. فيتمّ وضع الأعمال المنفصلة في السّياق، ويكون لكلّ خطوة مهما صغُرت معنىً ومغزى، ويظهر عمل القوى الرّوحانيّة في ميدان الخدمة جليًّا على نحو متزايد، وتتعزّز باستمرار أواصر الصّداقة بالغة الحيويّة للنّمط الصّحيّ السّليم.
ضمن هذا المشهد من العمليّات المتكشّفة والهياكل النّاشئة والزّمالة الباقية، فإنّ تلك اللّحظة الّتي أصبحت معروفة بـِـ "إطلاق" برنامج مكثّف للنّموّ، تمثّل اعترافًا واعيًا بأنّ جميع العناصر الضّروريّة لتسريع توسُّع واستحكام أمر الله ليست في موضعها الصّحيح فحسب، بل تعمل بدرجة مناسبة من الفعّاليّة أيضًا. إنّها إيذانٌ بنضج نظام دائم التّوسّع ومستدام ذاتيًّا للتّربية الرّوحانيّة للسّكان: سيلٌ مستمرٌّ من الأحبّاء يتقدّمون خلال دورات المعهد التّدريبيّ وينخرطون في النّشاطات المتعلّقة بها والّتي تعمل بدورها على زيادة عدد الأعضاء الجدد في أمر الله، الّذين تدخل نسبة كبيرة منهم دون شكّ في عمليّة المعهد، ممّا يضمن توسّع النّظام. وهذا يشكّل مَعْلَمًا بارزًا آخر يجب أن يصل إليه، عاجلًا أم آجلًا، الأحبّاء العاملون في كلّ مجموعة جغرافيّة.
ونحن إذ نؤكّد هنا من جديد على الكثير ممّا ذكرناه في مناسبات سابقة، فإنّنا نأمل أن نكون قد تركنا انطباعًا لديكم عن سهولة ويُسر رعاية حركة السّكّان، الّذين تلهمهم مقاصد أمر الله ومبادئه، عندما لا نجعلها هدفًا لتعقيدات خارجيّة. إنّنا لا نتوهّم بأنّ السّبيل الّذي تتبّعناه بإيجاز أعلاه خالٍ من الصّعوبات، فالتّقدّم يُحرَز من خلال جدليّة الأزمات والانتصارات، وحصول النّكسات أمرٌ لا مفرّ منه. فحصول انخفاض في مستوى المشاركة، واختلال في دورات النّشاط، وتمزّق طفيف لعُرى الوحدة والاتّحاد، هذه ليست سوى غيضٌ من فيض التّحدّيات الّتي قد يتعيّن علينا التّصدّي لها. وليس من النّادر أن تكون الزّيادة في الموارد البشريّة أو القدرة على تعبئتها قاصرة عن سدّ احتياجات التّوسّع السّريع، إلّا أنّ فرض صيغٍ على العمليّة لن يسفر عن نمط نموٍّ يتّسم بالتّوازن المطلوب. فالاختلالات المؤقّتة في تقدّم النّشاطات المختلفة هو أمرٌ ملازمٌ لهذه العمليّة، ويمكن تعديلها بمرور الوقت إذا تمّ التّعامل معها بصبر. إنّ تقليص أحد النّشاطات الآخذة في الازدهار استنادًا إلى مفاهيم نظريّة خاصّة بكيفيّة تحقيق نموّ متوازن، غالبًا ما يؤدّي إلى نتائج عكسيّة. وبينما قد يستفيد الأحبّاء في المجموعة الجغرافيّة من تجربة الّذين سبق لهم وأن أسّسوا نمط العمل اللّازم، إلّا أنّه فقط عن طريق قيامهم بالعمل المتواصل، والمراجعة والتّقييم والمشورة فإنّهم سيتعلّمون قراءة واقعهم، ورؤية الإمكانات المتاحة لهم، والاستفادة من مواردهم، وتلبية متطلّبات التّوسّع والاستحكام واسعي النّطاق القادمة.
هناك اليوم 1.600 مجموعة جغرافيّة في جميع أنحاء العالم نجح فيها الأحبّاء في إيجاد نمط العمل المرتبط ببرنامج مكثّف للنّموّ. ومع أهميّة هذا الإنجاز، إلّا أنّه لا يمكن اعتباره بأيّ حال من الأحوال ذروة العمليّة الّتي استجمعت زخمًا في كلّ مجموعة جغرافيّة. فهناك آفاق جديدة للتّعلّم مفتوحة الآن أمام الأحبّاء، وهم مدعوّون لتكريس طاقاتهم لإيجاد جامعات نابضة بالحياة، تنمو في حجمها، وتعكس بدرجات أكبر فأكبر رؤيا حضرة بهاء الله للبشريّة. وينبغي لهذه المجموعات الجغرافيّة أن تكون أيضًا بمثابة مستودع للمهاجرين المحتَملين الّذين يمكن إرسال أعداد كبيرة منهم للهجرة الدّاخليّة، إلى مجموعة جغرافيّة تلو الأخرى، يرسلون في بعضها الأشعّة الأولى لأنوار الظّهور الإلهيّ، ويعزّزون في غيرها وجود أمر الله، ويمكّنون الجميع من التّقدّم سريعًا إلى أوّل مَعْلَمٍ على مسار التّطوّر، أو إلى ما بعده. آخذين هذا بعين الاعتبار، سندعو جامعة الاسم الأعظم في رضوان 2011 لترفع خلال السّنوات الخمس القادمة الرّقم الإجماليّ للمجموعات الجغرافيّة الّتي يجري فيها برنامج للنّموّ، وفي أيّ مستوى من الكثافة، إلى 5.000 مجموعةٍ، ويمثّل هذا قرابة ثلث عدد المجموعات الجغرافيّة في العالم في الوقت الحاضر.
توسيع آفاق التّعلّم
إنّ ما أوضحناه في الفقرات السّابقة وفي العديد من الرّسائل على مدى السّنوات الخمس عشرة الماضية، يمكن اعتباره الأحدث في سلسلة من المقاربات الخاصّة بنموّ الجامعة البهائيّة، وكلّ مقاربة منها تناسب ظروفًا تاريخيّة معيّنة. لقد تحرّكت عمليّة النّموّ هذه الّتي تسيّرها يد القدرة الإلهيّة بحرارة الشّوق الّذي تولّد في مهد الأمر منذ مائة وستّين عامًا ونيّف عندما لبّى الآلاف نداء "اليوم الجديد"، واستجمعت زخمًا من الجهود الّتي بذلها المؤمنون الأوائل لحمل رسالة حضرة بهاء الله إلى الأقطار المجاورة في الشّرق وبعض الجيوب المتناثرة في الغرب، واكتسبت هيكلًا أعظم من خلال ألواح الخطّة الإلهيّة الّتي كشف عنها حضرة عبد البهاء، واكتسبت قوّة دافعة بانتشار الأحبّاء بأسلوب منهجيّ منظّم في بقاع الأرض بتوجيه حضرة وليّ أمر الله لتأسيس مراكز صغيرة للنّشاط البهائيّ وإقامة أوّل أركان النّظام الإداريّ، واستجمعت قوىً في المناطق الرّيفيّة من العالم حيث اندفعت جموع من البشر لاعتناق أمر الله، إلّا أنّها تباطأت بدرجة ملحوظة بينما سعى الأحبّاء جاهدين لاستكشاف استراتيجيّات استدامة التّوسّع والاستحكام واسعي النّطاق. والآن وطوال خمسة عشر عامًا، تتسارع العمليّة بثبات منذ أن دعونا العالم البهائيّ في نهاية خطّة السّنوات الأربع لمنهجة العمل التّبليغيّ على أساس التّجارب والخبرات الّتي اكتسبها خلال عقود من التّعلّم الشّاق الّذي لا يقدّر بثمن. ما زالت المقاربة الحاليّة للنّموّ، مهما كانت عليه من الفعّاليّة، بحاجة إلى التّطوّر أكثر فأكثر في التّعقيد والتّداخل بعد أن تتجذّر في المجموعة الجغرافيّة وتُظهر بوضوح وبأكثر من أيّ وقت مضى "قوّة بناء المجتمع" المتأصّلة في أمر الله. هذه حقيقةٌ قلّةٌ قليلةٌ تخفق في الاعتراف بها.
مشيرًا إلى تطوّر الجامعة البهائيّة في العالم، كثيرًا ما شجّع حضرة وليّ أمر الله المحبوب الأحبّاء على أن يبقوا ثابتي العزم في مقصدهم ومثابرين في مساعيهم. "مدركين سموّ دعوتهم، واثقين بقوّة بناء المجتمع الّتي يملكها دينهم،" ويشير بارتياح إلى أنّهم "يمضون قُدُمًا، لا يثنيهم عائق ولا يفزعهم أمر، في جهودهم الرّامية لإيجاد وإكمال الأدوات اللّازمة ليتمكّن جنين نظام حضرة بهاء الله العالميّ من النّضوج والتّطوّر فيها." "إنّها عمليّة البناء هذه، بطيئة وغير ظاهرة للعيان،" وذكّرهم بأنّها "تشكّل الأمل الوحيد" لإنسانيّة خاب رجاؤها. وواضح من كتاباته بأنّ هذه العمليّة ستستمرّ في التّقدّم في مداها وتأثيرها، وسيُبرهن النّظام الإداريّ عند حلول الميقات على "جدارته في ألّا يُعتبر نواة النّظم الإلهيّ البديع فحسب، بل نموذجه المثاليّ المقدّر له". "وفي عالم تصدّعت هياكله السّياسيّة والاجتماعيّة، ولفّ الضّباب رؤيته، واحتار وجدانه، وضعفت أنظمته الدّينيّة وفقدت فضائلها،" أكّد بشدّة على أنّ "هذه القوّة الشّافية، هذه القدرة المحفّزة، هذه القوّة الرّابطة النّابضة بالحياة والنّافذة في جميع الأشياء،" "تأخذ شكلًا"، و"تتبلّور في مؤسّسات،" و"تحشد قواها".
ما ينبغي أن يكون جليًّا هو أنّه لو أُريد للنّظام الإداريّ أن يكون نموذجًا لمجتمع المستقبل، عندها ليس على الجامعة الّتي تتطوّر داخله أن تكتسب القدرة على تلبية الاحتياجات المادّية والرّوحانيّة الّتي تزداد تعقيدًا فحسب، بل يجب أن تصبح أكبر وأكبر حجمًا. كيف يمكن أن يكون الأمر خلاف ذلك؟ إنّ جامعة صغيرة يتّحد أعضاؤها بمعتقداتهم المشتركة، ويتّصفون بمُثل سامية، ويتميّزون بالكفاءة في إدارة شؤونهم ورعاية احتياجاتهم، وربّما يشاركون في العديد من المشاريع الإنسانيّة، جامعة مثل هذه، تزدهر لكن على مسافة مريحة من الواقع الّذي تعيشه جموع البشريّة، لا يمكنها أن تأمل بأن تكون نموذجًا لإعادة هيكلة المجتمع بأسره. وحقيقة أنّ الجامعة البهائيّة في جميع أنحاء العالم استطاعت تجنّب مخاطر الشّعور بالارتياح والرّضا لهو مصدر سرور كبير لنا. في الواقع، إنّ الجامعة تمسك بيدها مقاليد توسّعها واستحكامها. ومع ذلك، فإنّ إدارة شؤون أعداد كبيرة ومتزايدة في القرى والمدن في جميع أنحاء العالم، رفع راية نظام حضرة بهاء الله العالميّ عاليًا ليراها الجميع، لا تزال هدفًا بعيد المنال.
إذن هنا يكمن التّحدّي الّذي يجب أن يواجهه أولئك الّذين يخدمون في طليعة عمليّة التّعلّم الّتي ستواصل تقدّمها خلال الخطّة القادمة. فحيثما يتمّ تأسيس برنامج مكثّف للنّموّ، يجب على الأحبّاء أن يبذلوا قصارى جهدهم لرفع مستوى المشاركة، ويعملوا ما في وسعهم ليضمنوا بأنّ النّظام الّذي كدّوا لتشييده لا ينغلق على نفسه بل يتوسّع تدريجيًّا ليحتضن أعدادًا أكبر وأكبر، وألّا يغفلوا عن درجة الاستعداد المتميّزة الّتي وجدوها، بل التّلهّف الكبير الّذي كان في انتظارهم، عندما اكتسبوا الثّقة في قدرتهم على التّفاعل مع أناس من مختلف المنابت والمشارب والتّحدّث معهم عن شخص حضرة بهاء الله ورسالته الإلهيّة. ولتكن لديهم قناعة راسخة بأنّ عرضًا مباشرًا لأمر الله، عندما يكون بمستوى كافٍ من العمق ومعزّزًا بمقاربة استحكام سليمة، يمكن أن يحقّق نتائج باقية. عليهم ألّا ينسوا دروس الماضي الّتي لم تَدَع مجالًا للشّكّ بأنّه لا يمكن لمجموعةٍ صغيرة نسبيًّا من أنصار أمر الله النّشِطين، مهما اشتدّت حُنكتهم، ومهما بلغ إخلاصهم، تلبية احتياجات جامعات تضمّ المئات، ناهيك عن الآلاف، من الرّجال والنّساء والأطفال. إنّ الآثار المترتّبة واضحة بما فيه الكفاية. فإذا كان عدد الّذين يحملون مسؤوليّة التّوسّع والاستحكام في المجموعة الجغرافيّة بالعشرات، معهم بضع مئات يشاركون في نشاطات حياة الجامعة، فيجب أن يرتفع كِلا الرّقمين ارتفاعًا ملحوظًا بحيث يكون هناك بحلول نهاية الخطّة مائة أو مائتان قائمين على تسهيل مشاركة ألفٍ أو ألفين.
وممّا يُثلج الصّدر أن نرى، أنّه في نحو 300 مجموعة جغرافيّة من بين 1.600 مجموعة يجري فيها تطبيق البرنامج المكثّف للنّموّ في أنحاء العالم، أنّ الأحباء قد ولجوا فعلًا ميدان التّعلّم الجديد المتاح أمامهم، وأكثر من قليلٍ منها قائمٌ على توسيع آفاقه. ومن الواضح أنّه في جميع هذه المجموعات الجغرافيّة، تكون تقوية العمليّات التّعليميّة الّتي بدأها المعهد التّدريبيّ، كلٌّ منها طبقًا لمتطلّباتها الخاصّة، صفوفٌ منتظمة لصغار الأطفال في المجتمع، ومجموعات متماسكة للشّباب النّاشئ، وحلقات دراسيّة للشّباب والكبار، ذات أهمّيّة بالغة. لقد تمّت مناقشة جزء كبير ممّا يستتبعه هذا العمل في رسالة الرّضوان. إنّ الأحبّاء في مثل هذه المجموعات، وبدون استثناء، وقد شاهدوا بأنفسهم الآثار المقلّبة للقلوب لعمليّة المعهد، يسعون جاهدين لاكتساب تقدير وفهم أكبر للدّيناميكيّات الّتي تكمن خلفها، روح الزّمالة الّتي توجدها، والمقاربة التّشاركيّة الّتي تتبنّاها، وعمق الفهم الّذي تعزّزه، وأعمال الخدمة الّتي توصي بها، وفوق كلّ ذلك، اعتمادها على الكلمة الإلهيّة. ويتمّ بذل كلِّ جهد ممكن لضمان أن تعكس العمليّة تكامل حالتيّ "الوجود" و"العمل" اللّتين توضّحهما دورات المعهد؛ والمكانة المركزيّة الّتي توليها هذه الدّورات للمعرفة وتطبيقاتها؛ والتّركيز الّذي تضعه على تجنّب الثّنائيّات الزّائفة؛ والتّأكيد الّذي تضعه على حفظ الكلمة الإلهيّة الخلّاقة؛ والعناية الّتي تبذلها لرفع درجة الوعي، دون إيقاظ النّفس الأمّارة.
تعزيز القدرات الإداريّة
على الرّغم من أنّ العناصرَ الرّئيسة لعمليّة النّموّ في المجموعات الجغرافيّة الّتي هي في طليعة عمليّة التّعلّم تبقى دون تغيير، إلا أنّ الأعداد الهائلة تتطلّب مخطّطات تنظيميّة قادرة على التّعامل مع درجة أكبر من التّعقيد. وقد وُضعت ابتكارات مختلفة موضع التّنفيذ حتّى الآن، على أساس الاعتبارات الجغرافيّة والنّموّ العدديّ. فتقسيم المجموعة الجغرافيّة إلى وحدات أصغر، ولامركزيّة جلسات المراجعة والتّقييم، وتعيين مساعدين لمنسّقي المعهد، وإرسال أحبّاء من ذوي الخبرة في فِرَقٍ لدعم الآخرين في الميدان، هي بعض التّرتيبات الّتي تمّ إحداثها حتّى الآن. إنّنا واثقون كلّ الثّقة أنّه بمساعدتكم الكفؤة، ستتابع دار التّبليغ العالميّة هذه التّطوّرات على مدى الخطّة المُقبلة، وتساعد على دمج الدّروس المستقاة وتحويلها إلى أساليب وأدوات مُجرَّبة. وتحقيقًا لهذا الهدف، يلزمكم ومعاونيكم إيجاد ورعاية جوٍّ يشجّع الأحبّاء على أن يكونوا منهجيّين ولكن غير متصلّبين، مبدعين لا رهناء الصّدف، حاسمين ولكن غير متسرّعين، حريصين ولكن غير مسيطرين، مدركين لحقيقة أنّه في التّحليل النّهائيّ ما سيحقق التقدّم ليس الأسلوب، بل وحدة الفكر، والعمل المستمرّ، والتّوق إلى التعلُّم.
وأيًّا كانت طبيعة التّرتيبات المُتّخذة على مستوى المجموعة الجغرافيّة لتنسيق نشاطاتٍ واسعة النّطاق، فإنّ التّقدّم المستمرّ سوف يعتمد على تطوّر المحافل الرّوحانيّة المحلّيّة وعلى المقدرة المتنامية للمجالس الإقليميّة البهائيّة، وعلى المحافل الرّوحانيّة المركزيّة في نهاية المطاف. لقد أعربنا في رسالة الرّضوان عن سرورنا بملاحظة القوّة المتنامية للمحافل المركزيّة، ونحن نتطلّع إلى السّنوات الخمس القادمة بتفاؤل، واثقين بأنّنا سنشهد قفزاتٍ كبيرة إلى الأمام في هذا المجال. علاوة على ذلك، ليس لدينا أدنى شكّ بأنّكم سوف تكونون قادرين، بالتّنسيق مع المحافل المركزيّة، على مساعدة المجالس الإقليميّة في تعزيز قدراتها المؤسّسيّة. هناك حاليًّا 170 هيئةٍ إداريّةٍ كهذه في 45 دولة في أنحاء العالم، ومن المؤكّد أنّ يرتفع عددها خلال الخطّة المُقبلة. وسيكون من الضّروريّ أن تولي جميع المجالس الإقليميّة اهتمامًا كبيرًا بأعمال المعهد التّدريبيّ وأداء لجان تبليغ المنطقة. آخذين هذا بعين الاعتبار، ستجد هذه المجالس أنّه من الضّروريّ إيجاد وتحسين الآليّات الّتي تؤدّي إلى تعزيز نمط النّموّ الآخذ في التّكشّف على مستوى المجموعة الجغرافيّة وعمليّة التّعلّم المرتبطة به، وسيشمل ذلك مكتبٌ إقليميّ يعمل بفعّاليّة ويوفّر الدّعم التّنظيميّ الأساسيّ للسّكرتير، ونظامٌ محاسَبيّ سليم يوفّر قنواتٍ متنوّعة لتدفّق الأموال من وإلى المجموعات الجغرافيّة، ووسيلة اتّصالاتٍ فعّالة تأخذ في الاعتبار واقع الحياة في القرى والأحياء، بالإضافة إلى هياكل إنشائيّة تعمل على تسهيل إقامة نشاط مكثّف ومركّز حيثما استوجب ذلك. ومن المهمّ في هذا الصّدد الإقرار بأنّه فقط عندما تكون المجالس نفسها منخرطة في عمليّة التّعلّم تثبت فعّاليّة هذه الآليّات. وبخلاف ذلك، ففي الوقت الّذي تمّ إيجادها نظريًّا من أجل دعم التّعلّم أثناء العمل من قِبَل عددٍ متزايدٍ من المشاركين في الأحياء والقرى، ستعمل هذه الأنظمة الّتي يجري تطويرها ضدّه تمامًا بطرق خفيّة تكبت، بدون قصد، التّطلّعات المتنامية على مستوى القاعدة.
وبينما سيكون التّعاون مع المحافل الرّوحانيّة المركزيّة والمجالس الإقليميّة أحد اهتماماتكم الرّئيسة، فعلى معاونيكم أن يوجّهوا مقدارًا أكبر وأكبر من طاقاتهم نحو تعزيز القدرة المؤسّسيّة على المستوى المحلّيّ، حيث تفرض متطلَّبات بناء الجامعة نفسها بكلّ وضوح. ولمساعدتكم في تصوّر ما ينتظر أعضاء هيئات المعاونين ومساعديهم من مهامّ في كلّ مكان، لا سيّما في المجموعات الجغرافيّة الّتي تشهد توسّعًا واستحكامًا واسعي النّطاق، نطلب منكم أن تتأمّلوا أوّلًا في تطوّر المحافل الرّوحانيّة المحلّيّة في العديد من المناطق الرّيفيّة في العالم، حيث تقع الغالبيّة العظمى لمثل هذه المجموعات الجغرافيّة اليوم.
وكما تعلمون، عندما يبدأ العمل على تأسيس نمط العمل المرتبط بالبرنامج المكثّف للنّموّ في المجموعات الجغرافيّة الرّيفيّة المكوّنة من قرىً وربّما بلدةٍ أو اثنتين، غالبًا ما تكون جهود الأحبّاء مقتصرة على مناطق قليلة. ولكن عندما يتأسّس هذا النّمط ويعمل، يمكن توسيع نطاقه بسرعة ليمتدّ من قرية إلى أخرى، كما هو موضّح في رسالتنا لرضوان هذا العام. وفي وقت مبكّر في كلّ منطقة، يظهر محفل روحانيّ محليّ إلى حيّز الوجود، ويتّخذ تطورّه المطّرد مسارًا موازيًا لعمليّة النّموّ الوليدة الّتي تشهدها القرية، ويكون مرتبطًا بها ارتباطًا وثيقًا. وبشكلٍ لا يختلف عن تطوّر الجوانب الأخرى من هذه العمليّة، فإنّ تطوّر المحفل المحلّيّ يُمكن فهمها بشكلٍ أفضل باعتبار أنّها عمليّة بناء القدرات.
ما يجب أن يحدث في المقام الأوّل هو شيء مباشر نسبيًّا: فالوعيٌ الفرديّ بعمليّة النّموّ الّتي تستجمع زخمًا في القرية، والنّاتج من مشاركة كلّ عضوٍ شخصيًّا في النّشاطات الأساسيّة، يجب أن يندمجَ في وعيٍ جماعيّ مُدركٍ لطبيعة التّحوّل القائم وواجب المحفل لتعزيزه في آن معًا. وممّا لا شكّ فيه أنّه يجب إيلاء شيءٍ من الاهتمام لبعض الوظائف الإداريّة الأساسيّة، على سبيل المثال، عقدُ الاجتماعات بدرجة من الانتظام، وإقامة الضّيافات التّسع عشريّة والتّرتيب لإحياء ذكرى الأيّام المحرّمة، وتأسيس صندوقٍ تبرّعات محلّيٍّ، وإجراء انتخاباتٍ سنويّة وفق المبادئ البهائيّة. ومع ذلك، ينبغي أن لا يكون من الصّعب على المحفل المحلّيّ أن يبدأ، إلى جانب مثل هذه الجهود وبتشجيعٍ من مساعد عضو هيئة المعاونين، بالتّشاور كهيئةٍ في موضوع محدّد أو موضوعيْن لهما علاقة مباشرة بحياة الجامعة: كيف يتمّ تعزيز السِّمة التّعبّديّة في القرية من خلال جهود الأفراد الّذين أنهوا الدّورة الأولى للمعهد؛ كيف يجري تناول موضوع التّربية الرّوحانيّة للأطفال من جانب المعلّمين الّذين قام المعهد بإعدادهم؛ كيف تتحقّق الإمكانات الكامنة للشّباب النّاشئ من خلال برنامج تمكينهم الرّوحانيّ؛ كيف يتقوّى النّسيج الرّوحانيّ والاجتماعيّ للجامعة مع قيام الأحبّاء بزيارة بعضهم بعضًا في منازلهم. ومع قيام المحفل بالتّشاور في مواضيع ملموسة من هذا القبيل وتعلّمه كيفيّة رعاية عمليّة النّموّ بمحبّة وصبر، فإنّ علاقته مع لجنة تبليغ المنطقة والمعهد التّدريبيّ ستصبح وطيدة تدريجيًّا بما يربطهم من هدف مشترك. ولكن الأهمّ من ذلك، أنّه سيبدأ في وضع الأسس الّتي يمكن أن يرسي عليها تلك العلاقة الفريدة في محبّتها والأصيلة في دعمها، الّتي يصفها حضرة وليّ أمر الله في العديد من رسائله، والّتي ينبغي على المحافل الرّوحانيّة المحلّيّة أن توجدها مع أفراد المؤمنين.
من الواضح أنّ تعلّم كيفيّة التّشاور في موضوع محدّد متعلّق بالخطّة العالميّة، مهما كانت أهميّته، لا يمثّل إلّا بُعدًا واحدًا من عمليّة بناء القدرة الّتي ينبغي على المحفل الرّوحانيّ المحلّيّ أن ينخرط بها. إنّ تطوّره المستمرّ يقتضي الالتزام بأوامر حضرة عبد البهاء بأنّه "ينبغي للنّقاش أن يكون محدودًا ضمن نطاق الشّؤون الرّوحيّة المتعلّقة بتهذيب النّفوس وتربية الأطفال وإعانة الفقراء ومساعدة الضّعفاء من كافّة الطّبقات في العالم، وأن يتناول إظهار العطف نحو جميع الشّعوب ونشر نفحات الله ورفعة كلمته المقدّسة". وإنّ ترقّيه المطّرد يتطلّب التزامًا ثابتًا بترويج المصالح العليا للجامعة ويقظةً تامّة لحماية عمليّة النّموّ من قوى الانحلال الأخلاقيّ الّتي تهدّد بإيقافها. كما أنّ تقدّمه المستمرّ يتطلّب حسًّا بالمسؤوليّة يتجاوز حلقة الأحبّاء والعائلات المنخرطين في النّشاطات الأساسيّة ليشمل جميع سكّان القرية. واستدامة نضجه التّدريجيّ هو الإيمان الرّاسخ بتأكيد حضرة عبد البهاء بأنّه سيشمل كلّ محفل روحانيّ برعايته وحمايته.
ترتبط بهذه الزّيادة في الوعي الجماعيّ قدرةُ المحفل المتنامية على تقييم الموارد أكانت ماليّة أو غيرها واستخدامها بطريقة ملائمة لدعم نشاطات الجامعة وأداء وظائفه الإداريّة، والّتي قد تشمل، في الوقت المناسب، تعيين اللّجان بكلّ حكمة وإجراء صيانة لمنشآتٍ متواضعة تخدم أعمالها. وما لا يقلّ أهميّة عن ذلك هو مقدرتها على رعاية بيئةٍ مواتيةٍ لمشاركة أعداد كبيرة في عملٍ موحّد وضمان أن تُسهم طاقاتهم ومواهبهم في التّقدّم. وفي كافّة هذه الجوانب، تبقى الصّحّة الرّوحانيّة للجامعة تحتلّ مركز الصّدارة في ذهن المحفل. وعندما تبرز مشاكل لا مناص منها، سواء تلك الّتي تتعلّق ببعض النّشاطات أو فيما بين الأفراد، سيتناولها محفل روحانيّ محليّ حاز على الثّقة التّامّة لأعضاء الجامعة بحيث اعتاد الجميع أن يتوجّهوا إليه طلبًا للمساعدة. وهذا يعني أنّ المحفل قد تعلّم من خلال التّجربة كيفيّة مساعدة المؤمنين ليضعوا جانبًا أساليب التّفكير الحزبيّ الباعثة على الفُرقة والاختلاف، وكيفيّة العثور على بذور الوحدة حتّى في أكثر الحالات صعوبةً وتعقيدًا، وكيفيّة رعايتهم بأناةٍ ومحبّة رافعًا لواءَ العدل في جميع الأوقات.
ومع نموّ الجامعة في الحجم والقدرة على الحفاظ على حيويّتها، سيجد الأحبّاء أنفسهم، كما أشرنا سابقًا، منخرطين أكثر فأكثر في حياة المجتمع وسيواجهون التّحدّي المتمثّل في أن يستفيدوا من المقاربات الّتي طوّروها من أجل التّصدّي لمجموعة واسعة من القضايا الّتي تواجه قريتهم. إنّ مسألة الاتّساق، الضّروريّ جدًّا للنّموّ الّذي تمّ تحقيقه حتّى الآن، والأساسيّ إلى حدٍّ بعيد بالنّسبة لإطار عمل الخطّة الآخذ في النّشوء، تأخذ الآن أبعادًا جديدة. وسيقع الكثير على عاتق المحفل المحلّيّ، ليس باعتباره منفّذًا للمشاريع ولكن بصفته صوت السّلطة الأخلاقيّة، للتّأكّد بأنّ الأحبّاء وهم يجهدون من أجل تطبيق تعاليم أمر الله لتحسين الأوضاع من خلال عمليّة من العمل، والمراجعة والتّقييم، والمشورة، تبقى مجهوداتهم نزيهة لا تشوبها شائبة.
لقد أوضحت رسالة الرّضوان بعض خصائص العمل الاجتماعيّ على مستوى القاعدة، والشّروط الّتي يتعيّن عليه تلبيتها. عادةً ما تبدأ الجهود في القرية على نطاقٍ صغير، ربّما مع ظهور مجموعات من الأحبّاء تهتمّ كلّ منها بحاجة اجتماعيّة أو اقتصاديّة معيّنة قامت بتحديدها، وتقوم كلٌّ منها بمتابعة مجموعة بسيطة من الإجراءات الملائمة. إنّ المشورة في الضّيافة التّسع عشريّة تخلق فضاءً يمكن للوعي الاجتماعيّ المتنامي للجامعة أن يجد تعبيرًا بنّاءً فيه. وأيًّا كانت طبيعة النّشاطات القائمة، على المحفل المحلّيّ أن يكون متنبّهًا إلى المزالق المحتملة وأن يساعد الأحبّاء، إذا لزم الأمر، على تجنّبها مثل: إغراءات المشاريع الطّموحة للغاية الّتي من شأنها أن تستنفد الطّاقات وفي النّهاية يثبت تعذّر نجاحها، وإغراءات المِنح الماليّة الّتي ستستلزم بالضّرورة الانحراف عن مبدأ من المبادئ البهائيّة، ووعود التّقنيّات الحديثة المغلّفة بأغلفة خادعة والّتي قد تسلب القرية تراثها الثّقافيّ وتؤدّي إلى التّشرذم والتّنافر. وفي نهاية المطاف، فإنّ قوّة عمليّة المعهد في القرية، والقدرات المُحَسَّنة الّتي عزّزتها لدى الأفراد، قد تمكّن الأحبّاء من الاستفادة من الأساليب والبرامج الّتي ثبُتت فاعليّتها، والّتي تمّ تطويرها من قِبَل أيٍّ من المنظّمات الّتي تعمل بهَدي من التّعاليم البهائيّة والّتي تمّ تقديمها في المجموعة الجغرافيّة باقتراحٍ ودعم من مكتبنا للتّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة. علاوة على ذلك، يجب على المحفل أن يتعلّم التّفاعل مع الهياكل الاجتماعيّة والسّياسيّة في المنطقة، رافعًا بالتّدريج درجة الوعي بوجود أمر الله والتّأثير الّذي يُحدِثه في تقدّم القرية
إنّ ما تمّ إيجازه في الفقرات السّابقة لا يُمثّل سوى بعضًا من الصّفات الّتي سوف تنمّيها المحافل الرّوحانيّة المحلّيّة في العديد من قرى العالم تدريجيًّا لدى قيامها بخدمة احتياجات الجامعات الّتي تحتضن أعدادًا أكبر وأكبر. ومع إظهارها على نحو متزايد لطاقاتها وقدراتها الكامنة، سيتمّ النّظر إلى أعضائها من قِبل سكان كلّ قرية بأنّهم "أُمناءُ الرَّحمنِ لمَنْ في الإِمكانِ." وهكذا ستصبح هذه المحافل "سُرُجٌ نورانيّةٌ وحدائقُ ملكوتيّةٌ ينتشرُ منها نفحاتُ القدسِ على الآفاقِ، ويُشرقُ منها أنوارُ العرفانِ على الإمكانِ، ويَسري منها روحُ الحياةِ على كلِّ الجهاتِ."
إنّ مثل هذه الرّؤيا السّامية تنطبق بالطّبع على جميع المحافل الرّوحانيّة المحلّيّة في أرجاء العالم. حتّى في المناطق الحضريّة الكبيرة، فإنّ طبيعة تطوّر المحفل هي في الأساس نفس تلك الّتي وُصفت أعلاه. وتكمن الفروقات بشكل أساسيّ في حجم وتنوّع السّكّان. يتطلّب الأوّل بالضّرورة تقسيم المنطقة التّابعة إداريًّا للمحفل إلى أحياء وفقًا لمقتضيات النّموّ وإدخال آليّات تخدم إدارة شؤون أمر الله في كلّ منها تدريجيًّا. ويتطلّب الثّاني من المحفل أن يتعرّف على الفضاءات الاجتماعيّة العديدة، خارج النّطاق الجغرافيّ، الّتي تجتمع فيها شرائح السّكّان ويقدّم لهم، على قدر الإمكان، الحكمة المخزونة في التّعاليم. علاوة على ذلك، فإنّ الهياكل المؤسّساتيّة في المنطقة الحضريّة، الاجتماعيّة والسّياسيّة والثّقافيّة، الّتي يجب على المحفل أن يتعلّم الانخراط فيها أوسعُ نطاقًا وأكثر عددًا.
الخدمة في المؤسّسات البهائيّة
ونحن نعرض في هذه الصّفحات التّطوّرات الّتي نتوق لرؤيتها في العمل الإداريّ لأمر الله خلال السّنوات الخمس القادمة، نتذكّر تحذيرات حضرة وليّ أمر الله المستمرّة بهذا الخصوص. "فلننتبه لئلّا نغفل، في خضمّ اهتمامنا الكبير بتطوير الآليّات الإداريّة إلى درجة الكمال، عن الهدف الإلهيّ الّذي تمّ إيجادها من أجله." وأكّد مرارًا وتكرارًا بأنّه يجب النّظر إلى الآليّات الإداريّة البهائيّة على أنّها "وسيلة وليست غاية بحدّ ذاتها." وأوضح أنّها ترمي إلى "خدمة هدف ثنائيّ" فمن جهة "يجب أن تهدف إلى تحقيق توسّع مطّرد وتدريجيّ" لأمر الله "ضمن خطوط عريضة متينة وسليمة وعالميّة في الوقت نفسه." ومن جهة أخرى، "يجب أن تضمن الدّعم والتّعزيز الدّاخليّين للعمل الّذي تمّ إنجازه." واستطرد في الشّرح قائلًا: "يجب أن تقدّم الدّافع الّذي يمكّن القوى الحيويّة الكامنة في أمر الله من أن تتكشّف وتتبلّور وتشكّل حياة وسلوك البشر، وتكون بمثابة وسيلة لتبادل الأفكار وتنسيق النّشاطات بين العناصر المختلفة الّتي تتألّف منها الجامعة البهائيّة."
أملنا الوطيد أن تسعوا، فيما تبذلونه من جهود خلال الخطّة القادمة لتعزيز تطوّر سليم ومتناغم للإدارة البهائيّة على كافّة المستويات، من المستوى المحلّيّ وحتّى المركزيّ، إلى بذل قُصارى جهدكم لمساعدة الأحبّاء على الاضطلاع بمهامّهم في سياق عمليّة النّموّ العضويّة الّتي تكتسب زخمًا في جميع أنحاء العالم. إنّ تحقّق هذا الأمل يعتمد، إلى حدٍّ كبير، على الدّرجة الّتي يعي بها أولئك الّذين دُعوا لتقديم مثل هذه الخدمة، سواء كانوا مُنتخَبين لعضويّة المحفل الرّوحانيّ أو عُيّنوا للخدمة في إحدى وكالاته، سواء سُمّوا كمنسّق للمعهد أو عُيّنوا كأحد معاونيكم، ذلك الشّرف العظيم الّذي حازوا عليه ويُدركوا الحدود الّتي يضعها لهم هذا الشّرف.
إنّ الخدمة في مؤسّسات أمر الله ووكالاته هي في الواقع شرفٌ عظيم، ولكنّه شرف لا يسعى إليه الفرد؛ بل واجبٌ ومسؤوليّة قد يُدعى للقيام بهما في أيّ وقت. ومن المفهوم، بالطّبع، أنّ جميع أولئك المنخرطين في الإدارة البهائيّة يشعرون بحقّ بأنّهم مُنحوا شرفًا فريدًا بتشكيل جزءٍ، بأيّة طريقةٍ كانت، من هيكلٍ صُمّم ليكون قناةً تجري من خلالها روح أمر الله. ومع ذلك ينبغي ألّا يتصوّروا بأنّ مثل هذه الخدمة تخوّلهم للعمل على هامش عمليّة التّعلّم الّتي تكتسب قوّة في كلّ مكان، وبأنّهم مُعفَوْنَ من المتطلّبات الملازمة لها. كما يجب أن لا يفترضوا بأنّ العضويّة في الهيّئات الإداريّة تتيح الفرصة للمرء لترويج فهمه الشّخصيّ لما هو منصوص في الآثار المباركة ولكيفيّة تطبيق التّعاليم، وتوجيه الجامعة إلى أيّة جهة تمليها عليه أفضليّاته الشّخصيّة. لقد كتب حضرة وليّ أمر الله مشيرًا إلى أعضاء المحافل الرّوحانيّة بأنّهم: "يجب أن يغضّوا النّظر تمامًا عن ما يرغبون وما لا يرغبون، وعن مصالحهم وميولهم الشّخصيّة، وأن يركّزوا اهتمامهم على تلك التّدابير الّتي من شأنها أن تُفضي إلى رفاه وسعادة الجامعة البهائيّة وتعزّز الرّخاء العامّ". فالمؤسّسات البهائيّة تمارس السُّلطة لتوجيه الأحبّاء، ولإحداث تأثير أخلاقيّ وروحانيّ وفكريّ على حياة الأفراد والجامعات. ومع ذلك، يجب تنفيذ هذه المهام في ظلّ الوعي بأنّ روح الخدمة الحُبّيّة تسري في هويّة المؤسّسات البهائيّة. إنّ تخويل السّلطة والنّفوذ بهذا الشّكل يقتضي التّضحية من جانب هؤلاء المؤتمنين على إدارة شؤون أمر الله. ألَم يخبرنا حضرة عبد البهاء أنّه "عندما تُلقى قطعة من الحديد في أتون النّار، تختفي خصائصها المعدنيّة من سواد وبرودة وصلابة، وهي الّتي تمثّل صفات عالم الإنسان، في الوقت الّذي تتجلّى فيه بوضوح الصّفات المميزة للنّار من احمرار وحرارة وسيولة، والّتي ترمز إلى فضائل الملكوت." وأكّد حضرته قائلًا: "عليكم في هذا الشّأن، وهو خدمة البشريّة، أن تُضحّوا بأرواحكم، وبينما تهبون أنفسكم، أن افرحوا واستبشروا."
أحبّاءنا الأعزّاء، لا بدّ وأنّكم تعلمون جيّدًا كم نحن سعداء بمشاهدة كيف أنّكم ومعاونيكم، بينما تخدمون في طليعة ميدان التّبليغ، تقومون بواجباتكم بكلّ اقتدار، في رعاية شعلة محبّة الله في قلب ونفس كلّ شخص، وترويج التّعلّم، ومساعدة الجميع في مساعيهم لتنمية الصّفات الحسنة والأخلاق المرضيّة. وعندما شرعت الجامعة البهائيّة في أمريكا الشماليّة في خطّة السّنوات السّبع الأولى بمتابعة المسؤوليّات الّتي كُلّفت بها في ألواح الخطّة الإلهيّة، وجّه حضرة وليّ أمر الله للأحبّاء في تلك البلاد رسالة مطوّلة نسبيًّا وقويّة جدًّا، مؤرّخة 25 كانون الأوّل/ديسمبر 1938، نُشرت في وقت لاحق في كتاب بعنوان ظهور العدل الإلهيّ. وفي تفصيلها لطبيعة المهامّ المطروحة، أشارت هذه الرّسالة إلى ما وصفه حضرة وليّ أمر الله بالمتطلّبات الرّوحانيّة للنّجاح في جميع المشاريع البهائيّة، وإلى ثلاثة منها أشار حضرته بأنّها ’تظهر بشكلٍ بارزٍ وحيويّ‘ وهي: استقامة السّلوك، والحياة العفيفة المقدّسة، والتّحرّر من التّعصّبات. آخذين بعين الاعتبار أحوال العالم اليوم، ستحسنون صنعًا في التّأمّل في مضامين ملاحظاته بالنّسبة لجهود الجامعة البهائيّة في أرجاء العالم لبثّ روح ظهور حضرة بهاء اللّه في مجموعة جغرافيّة تلو أخرى.
وفي إشارته إلى استقامة السّلوك، تحدّث حضرة شوقي أفندي عن "العدل والإنصاف والصّدق والأمانة والنّزاهة والمصداقيّة والجدارة بالثقة" الّتي يجب أن "تميّز كلّ مرحلة من حياة الجامعة البهائيّة." وعلى الرّغم من أنّ هذا المطلب ينطبق على جميع أفراد الجامعة، إلّا أنّه كان موجّهًا بشكلٍ أساسيّ، كما أكّد حضرته، إلى "الممثّلين المُنتخَبين، سواء على المستوى المحلّيّ أو الإقليميّ أو المركزيّ"، الّذين يجب أن يبرز حسّهم باستقامة الأخلاق في تناقضٍ واضح مع "التّأثيرات المفسدة للأخلاق الّتي تتجلّى بشكلٍ لافت للنّظر في الحياة السّياسيّة المليئة بالفساد." ودعا حضرة وليّ أمر الله إلى "حسّ دائم بالعدل القويم" في "عالمٍ تلفّه الفوضى والاضطراب بشكلٍ غير معقول" واقتبس بشكل مكثّف من آثار حضرة بهاء اللّه وحضرة عبد البهاء الكتابيّة موجّهًا أنظار الأحبّاء إلى أسمى معايير الأمانة والجدارة بالثّقة. وناشد حضرته المؤمنين بأن يُظهروا استقامةً في السّلوك في كلّ جانب من جوانب حياتهم،في تعاملاتهم التّجاريّة، وفي حياتهم المنزليّة، وفي جميع الأمور الوظيفيّة، وفي كلّ الخدمات الّتي يقدّمونها لأمر الله ولأهل بلدهم، وأن يراعوا متطلّباتها بتمسّكهم الثّابت بأحكام أمر الله ومبادئه. من الواضح أنّ الحياة السّياسيّة قد واصلت انحطاطها في كلّ مكان في السّنوات الأخيرة الماضية بسرعة تُنذر بالخطر، فمفهوم السّياسة نفسه استُنزف معناه، والسّياسات الموضوعة غدت تخدم مصالح اقتصاديّة لقلّة قليلة باسم التّقدّم، وأُتيح المجال للنّفاق بتقويض عمل الهياكل الاجتماعيّة والاقتصاديّة. فإذا كان المطلوب فعلًا من الأحبّاء بذل جهد كبير لدعم المعايير السّامية لأمر الله آنذاك، فكم يجب أن يكون أكبر مقدارُ الجهد في عالم يكافئ الخيانة، ويشجّع الفساد، ويعامل الحقيقة على أنّها سلعة قابلة للتفاوض. كم هو عميقٌ ذلك الاضطراب الّذي يهدّد أساسات المجتمع، وكم يجب أن يكون ثابتًا راسخًا تصميم جميع المنخرطين في النّشاطات البهائيّة، خشية أن تعكّر حُسنَ تقديرهم أدنى شائبة من المصلحة الذّاتيّة. فليقدّر منسّقو كلّ معهد تدريبيّ، وأعضاءُ كلّ لجنة تبليغ لمنطقة، وكلّ عضو هيئة معاونين وكلّ واحدٍ من مساعديه، وجميع أعضاء الهيئات المحلّيّة والإقليميّة والمركزيّة، أكانوا منتخَبين أو مُعَّينين، أهميّة مناشدة حضرة وليّ أمر الله بأن يتفكّروا في قلوبهم بمضامين الاستقامة الخُلُقيّة الّتي وصفها حضرته بكلّ هذا الوضوح. عسى أن تُذكِّر أعمالُهم بشريّةً محاصرة مُنهكة بقدَرها السّامي ونُبلها الأصيل.
ليست هناك من كلمات وثيقة الصّلة بنجاح المشروع البهائيّ اليوم أكثر من تعليقات حضرة وليّ أمر الله الصّريحة على أهمّيّة الحياة العفيفة المقدّسة، "مع ما تقتضيه من الحياء والتّنزيه والاحتشام وضبط النّفس ونقاء السّريرة." فقد كان بيِّنًا في لغته، داعيًا الأحبّاء لأن يعيشوا حياةً طاهرةً لا تشوبها "الفواحش والرّذائل والمعايير الزّائفة الّتي تُجيزها وتخلّدها وتعزّزها معايير أخلاقيّة متدنّية بطبيعتها". لسنا بحاجة لأن نقدّم لكم هنا شواهد على التّأثير الّذي تمارسه الآن مثل هذه المعايير الأخلاقيّة المتدنّية على البشريّة ككلّ؛ فحتّى أقصى بقاع الأرض لم تنجُ من براثن إغراءاتها. ومع ذلك، نرى أنّه لزامٌ علينا أن نذكُر بعض النّقاط المتعلّقة بموضوع التّنزيه على وجه التّحدّيد. إنّ القوى الّتي تؤثّر الآن في عقول وأفئدة الشّباب، الّذين وجّه حضرة وليّ أمر الله نداءه إليهم بكلّ حرارة، هي حقًّا خبيثة. فحثُّهم على البقاء منزّهين عفيفين لن ينجح في مساعدتهم على مقاومة هذه القوى إلّا بدرجة محدودة. ويلزم أن ندرك في هذا الصّدد مدى ما تتأثّر به عقول الشّباب بالخيارات الّتي يتّخذها الوالدان لحياتهما الشّخصيّة، عندما تنساق مثل هذه الخَيارات، مهما كانت غير مقصودة ومهما كانت بريئة، مع أهواء العالم، إعجابه بالسّلطة، وافتتانه بالمكانة والمركز، وحبّه للرّفاهية، وتعلّقه بالمساعي التّافهة، وتمجيده للعنف، وهوسه بإرضاء الذّات. يجب إدراك أنّ العزلة واليأس اللّذين يعاني منهما الكثيرون هما نتاج بيئة تحكمها المادّيّة المستشرية. وفي هذا المقام على الأحبّاء أن يدركوا تبعات بيان حضرة بهاء الله بأن "سيُطوى بساط العالم ويُبسط بساطٌ غيره." وفي جميع أرجاء العالم اليوم، فإنّ الشّباب هم من بين أشدّ الدّاعمين المتحمّسين للخطّة وأكثر الأبطال الغيّورين لأمر الله؛ ونحن على يقين بأنّ عددهم سيزداد عامًا بعد عام. عسى أن يدرك كلّ واحدٍ منهم نِعَم حياةٍ مكلّلة بالتّنزيه ويتعلّم كيف يعتمد على القوى الّتي تتدفّق عبر قنوات نقيّة.
بعد ذلك تناول حضرة وليّ أمر الله موضوع التّعصّبات، مشيرًا بوضوح إلى أنّ "أيّ انشقاق أو انقسام" في صفوف أمر الله "هو دخيل على مقصده الأصليّ ومبادئه ومُثُله العليا." وأوضح بأنّ على الأحبّاء أن يُظهروا "تحرّرًا كاملًا من التّعصّب في تعاملاتهم مع الشّعوب من أيّ عرق أو طبقة أو عقيدة أو لون كانوا." ثمّ تابع ليتطرّق بإسهاب إلى مسألة التّعصّب العرقيّ تحديدًا، فأشار بأنّ، "صدأه قد مزّق نسيج المجتمع الأمريكيّ وهاجم هيكله الاجتماعيّ بكامله"، وأكّد في حينه بأنّه "ينبغي اعتباره أنّه يشكّل أكثر القضايا ل تحدّيًا وأهميّة تواجه الجامعة البهائيّة في المرحلة الحاليّة من تطوّرها تحدّيًا وإلحاحًا." وبمعزل عن مواطن قوّة وضعف التّدابير الّتي اتّخذتها الأمّة الأمريكيّة، والجامعة البهائيّة الّتي تنمو وتتطوّر داخلها، في التّصدّي لهذا التّحدّي على وجه الخصوص، تبقى الحقيقة الماثلة أمامنا أنّ التّعصّبات بكافّة أنواعها، العرقيّة والطّبقيّة والإثنيّة والجنسيّة والمعتقدات الدّينيّة، تواصل إحكام قبضتها على البشريّة. ولئن كان صحيحًا أنّه اتُّخذت على مستوى الحوار العام خطواتٌ كبيرة في دحض الافتراءات الّتي تثير التّعصّب بأنواعه، إلّا أنّه لا يزال ينخر في هياكل المجتمع ويؤثّر بشكل منهجيّ على وعي الفرد. وينبغي أن يكون واضحًا للجميع بأنّ العمليّة الّتي تدور رحاها الآن بفعل سلسلة الخطط العالميّة الحاليّة تسعى، في المقاربات الّتي تنتهجها والأساليب الّتي توظّفها، إلى بناء القدرة في كلّ مجموعة بشريّة، بغضّ النّظر عن الطّبقة أو الخلفيّة الدّينيّة، ودون اهتمام بالعقيدة أو العرق، وبصرف النّظر عن الجنس أو الوضع الاجتماعيّ، لتنهض وتُسهم في تقدّم المدنيّة. وبينما تتكشّف باطّراد، فإننا ندعو الله من أجل أن تتحقّق إمكاناتها لتعطيل جميع الأدوات الّتي ابتكرتها البشريّة خلال عهد طفولتها الطّويل الّتي تُمكّن جماعة من قمع جماعة أخرى.
إنّ العمليّة التّعليميّة المرتبطة بالمعهد التّدريبيّ تساعد بالطّبع في تعزيز الحالات الرّوحانيّة الّتي أشار إليها حضرة وليّ أمر الله في "ظهور العدل الإلهيّ"، إلى جانب العديد ممّا ورد في الكتابات البهائيّة، والّتي يجب أن تميّز حياة الجامعة البهائيّة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، روح الوحدة الّتي يجب أن تحرّك الأحبّاء، وأواصر المحبّة الّتي يجب أن تربطهم، والثّبات على العهد والميثاق الّذي يجب أن يؤازرهم، وتوكّلهم واعتمادهم على قوّة التّأييدات الغيبيّة. إنّ تطوُّر صفات أساسيّة كهذه في سياق بناء القدرة من أجل الخدمة، في بيئة تنمّي العمل المنهجيّ، لهو أمر جدير بالملاحظة بشكلٍ خاصّ. وفي تعزيز هذه البيئة، على أعضاء هيئة المعاونين ومساعديهم إدراك أهميّة مبدأين أساسيّين متداخلين: فمن ناحية، إنّ المعيار العالي للسّلوك الّذي تغرسه رسالة حضرة بهاء اللّه في الأذهان لا يسمح بأيّ تنازل، ولا يمكن خفض هذا المعيار بأيّة طريقة كانت، وعلى الجميع أن يشخَصُوا بأبصارهم إلى سموّه ورفعته. ومن ناحية أخرى، لا بدّ من الاعتراف بأنّنا كبشر، أبعد ما نكون عن الكمال. وما يُتَوَقّعُ من الجميع هو بذل الجهد اليوميّ المخلص. فالزّهو بالأخلاق يجب أن نحذره ونتحاشاه.
وبصرف النّظر عن المتطلّبات الرّوحانيّة لحياة بهائيّة مقدّسة، هناك عادات من التّفكير تؤثّر على تكشّف الخطّة العالميّة، ولا بدّ من تشجيع تنميتها على مستوى الثّقافة. كما أنّ هناك نزعات ينبغي التّغلّب عليها تدريجيًّا. فالعديد من هذه النّزعات تتعزّز بالمقاربات السّائدة في المجتمع ككلّ، وتدخل إلى النّشاطات البهائيّة، وهذا أمر ليس بمُحال تمامًا. إنّ عِظَم التّحدّيات الّتي تواجه الأحبّاء في هذا الصّدد ليس بخافٍ علينا. فهم مدعوّون للانخراط بشكلٍ متزايد في حياة المجتمع، بحيث يستفيدون من برامجه التّعليميّة، ويتفوّقون في حِرفه ومِهَنه، ويتعلّمون أن يُحسنوا استخدام أدواته، ويكرّسوا أنفسهم للنّهوض بعلومه وفنونه. وفي الوقت ذاته، عليهم ألّا يغفلوا أبدًا عن هدف أمر الله المتمثّل بإحداث تحوّل في المجتمع، يعيد تشكيل مؤسّساته وعمليّاته، على نطاق لم يُشهد مثله من قبل. وتحقيقًا لهذه الغاية، يجب أن يبقوا مدركين بشدّة لأوجه القصور في أنماط التّفكير والعمل الحاليّة، هذا، دون الشّعور بأدنى درجة من الفوقيّة، ودون إضفاء جوّ من السّرّيّة أو الانطواء، ودون تبنّي موقفٍ انتقاديِّ تجاه المجتمع دون داعٍ. وهناك بضع نقاط محدّدة نودّ أن نذكرها في هذا الصّدد.
ممّا يثلج الصّدر أن نلاحظ بأنّ الأحبّاء يقومون بدراسة رسائل بيت العدل الأعظم المتعلّقة بالخطّة بكلّ جدّ واجتهاد. إنّ مستوى النّقاش المتولّد بينهم وهم يجهدون في تطبيق التّوجيهات الّتي تلقّوها، ويتعلّمون من التّجربة، مثيرٌ للإعجاب. ومع ذلك، لا يسعنا إلّا أن نلاحظ بأنّ الإنجازات تميل لأن تكون أكثر دوامًا في تلك المناطق الّتي يسعى فيها الأحبّاء لفهم مجمل الرّؤية الّتي تتضمّنها الرّسائل، بينما تظهر صعوبات في كثير من الأحيان عندما تُؤخذ العبارات والجمل خارج سياقها ويُنظر إليها كشذراتٍ منعزلة. على مؤسّسات ووكالات أمر الله أن تساعد الأحبّاء على التّحليل لا الاختزال، وعلى التّفكير في المعنى لا التّمعّن في الكلمات، وعلى تحديد مجالاتٍ من العمل مختلفة لا مجزّأة. ونحن ندرك بأنّ هذه ليست بالمُهمّة اليسيرة، فالمجتمع يتحدّث أكثر فأكثر بشِعارات. يحدونا الأمل بأنّ العادات الّتي تتشكّل لدى الأحبّاء في الحلقة الدّراسيّة للعمل بأفكار مكتملة مركّبة والتوصّل إلى الفهم والإدراك، سيتّسع نطاقها ليشمل مختلف ميادين النّشاط.
إنّ عادة اختزال موضوع بأكمله إلى واحدة أو اثنتين من العبارات الجذّابة ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالميل لرؤية الثّنائيّات، والّتي لا وجود لها في الواقع. من الضّروريّ أن لا تتعارض الأفكار الّتي تُشكّل جزءًا من كُلٍّ متماسك مع بعضها البعض. لقد حذّر حضرة شوقي أفندي في رسالة كُتبت بالنّيابة عنه بأنّه "يجب أن نأخذ التّعاليم ككلٍّ كبير متوازن، لا أن نبحث عن بيانَيْن قويّيْن لهما معنييْن مختلفيْن ونجعلهما يبدوان متضاديْن؛ ففي مكان ما بين الاثنين هناك روابط توحّدهما." وكم شَجَّعنا أن نلاحظ أنّ كثيرًا من سوء الفهم الّذي وقع في الماضي قد زال مع نموّ الإدراك لبنود الخطّة. التّوسّع والاستحكام، والعمل الفرديّ والحملات الجماعيّة، وتهذيب الصّفات الرّوحانيّة، وتكريس النّفس للخدمة المتفانية، لقد تمّ الإقرار الآن وبكلّ سهولة ويُسر بالعلاقة المتناغمة بين هذه الجوانب من الحياة البهائيّة. وما يجلب لنا السّرور بالمثل أن نعلم أنّ الأحبّاء متنبّهون لئلا يُسمح لثنائيّات زائفة جديدة بأن تغزو تفكيرهم، وهم واعون تمامًا بأنّ العناصرَ المتنوّعة لبرنامج النّموّ متكاملةٌ. إنّ الجامعة تتجنّب الميل لمشاهدة النّشاطات، والوكالات الّتي تدعمها، في تنافس مع بعضها البعض، وهو ميلٌ شائع للغاية في المجتمع بشكل عام.
وأخيرًا، فقد اتّسم التّقدّم الملموس في الثّقافة، وهو أمر تابعناه باهتمامٍ خاص، بزيادة القدرة على التّفكير على أساس مفهوم "العمليّة". إنّ الطّلب من المؤمنين منذ البداية أن يكونوا واعين دومًا بالعمليّات الواسعة الّتي تحدّد عملهم واضحٌ لدى القيام بقراءة متأنّية حتّى الأولى رسائل حضرة وليّ أمر الله المتعلّقة بالخطط المركزيّة الأولى لأمر الله. إلّا أنّه، في عالمٍ يركّز بشكل متزايد على ترويج الأحداث، وفي أحسن الأحوال ترويج المشاريع، بنمطٍ من التّفكير يستمدّ الرّضى من مشاعر التّرقّب والإثارة اللّذين تولّدهما، فإنّ الحفاظ على المستوى اللّازم من التّفاني للقيام بعمل طويل المدى يتطلّب جهدًا كبيرًا. فتوسّع الجامعة البهائيّة واستحكامها ينطويان على عدد من العمليّات المتفاعلة الّتي تسهم كلٌّ منها بنصيبها في حركة البشريّة نحو رؤيا حضرة بهاء الله لنظام عالميّ جديد. وخطوط العمل المرتبطة بأيّة عملية بعينها تتيح المجال لتنظيم أحداث عَرَضيّة، وبين الحين والآخر تأخذ بعض النّشاطات شكل مشروع له بداية واضحة ونهاية محدّدة. إلّا أنّه إذا تمّ فرض بعض الفعاليّات على التّكشّف الطّبيعيّ لعمليّة ما، فإنّها ستعرقل تطوّرها السّليم. وإذا لم تخضع المشاريع الّتي تنفَّذ في المجموعة الجغرافيّة لخدمة الاحتياجات الواضحة للعمليّات الّتي تتكشّف هناك، فإنّها ستُؤتي ثمارًا قليلة.
إنّ إدراك طبيعة العمليّات المتفاعلة الّتي تولّد بمجملها توسّعَ واستحكامَ أمر الله لهو أمرٌ حيويّ لنجاح تنفيذ الخطّة. وفي جهودكم الرّاميّة لزيادة هذا الإدراك، نشجّعكم أنتم ومعاونيكم أن تأخذوا بعين الاعتبار مفهومًا يقع في أساس المشروع العالميّ الرّاهن، بل في صميم كلّ مرحلة من مراحل الخطّة الإلهيّة، ألا وهو أنّ التّقدّم يتحقّق من خلال تطوّر مشاركين ثلاثة، الفرد والمؤسّسات والجامعة. فطوال التّاريخ البشريّ، كان التّفاعل بين هؤلاء الثّلاثة محفوفًا بالمصاعب عند كلّ منعطف، فالفرد يصرخ مطالبًا بالحريّة، والمؤسّسة تطالب بالطّاعة، والجامعة تدّعي الأولويّة. لقد حدّد كلّ مجتمع، بطريقة أو بأخرى، العلاقات الّتي تربط بين الثّلاثة ممّا أدّى إلى فترات من الاستقرار ممزوجة بالاضطراب. اليوم، وفي عصر الانتقال هذا، والبشريّة تناضل لبلوغ نضجها الجماعيّ، فإنّ علاقات من هذا القبيل، لا بل إنّ نفس مفهوم الفرد والمؤسّسات الاجتماعيّة والجامعة، ما زالت عُرضةً لهجوم أزماتٍ أكثر من أن تحُصى. والأزمة العالميّة المتعلّقة بالسّلطة تقدّم دليلًا كافيًا على ذلك. فلقد أُسيء استخدامها على نحو خطير، وهي الآن تثير شكًّا واستياءً عميقين، بحيث أصبح العالم الآن غير قابل للحُكم أكثر فأكثر، وضع أوقع الجميع في خطرٍ عظيم بسبب ضعف الرّوابط المجتمعيّة.
كلّ مؤمن من أتباع حضرة بهاء الله يدرك جيّدًا بأنّ الهدف من رسالته هو إيجاد خلقٍ جديد. فعن طريق "أوّل نداء ارتفع منه ... انقلبت الأشياء كلّها والسّماء وما فيها والأرض ومن عليها." فبدأ الفرد والمؤسّسات والجامعة، أنصار الخطّة الثّلاثة، في التّشكّل تحت التّأثير المباشر لرسالته. وبدأ ينشأ لكلّ منها إدراك جديد، مناسب لإنسانيّةٍ وصلت إلى مرحلة البلوغ. وكذلك فإنّ العلاقات الّتي تربطهم معًا تشهد هي الأخرى تحوّلًا عميقًا، جالبةً إلى عالم الوجود قوى بناء المدنيّة الّتي لا يمكن إطلاقها إلّا بالامتثال لأحكامه. وفي الأساس، تتّسم هذه العلاقات بالتّعاون والمنفعة المتبادلة، وهي مظاهر التّرابط الّذي يحكم الكوْن. وهكذا فإنّ الفرد، دون الالتفات "إلى المنافع الذّاتيّة والفوائد الشّخصيّة"، يعتبر نفسه "عبدًا من عباد الله الغنيّ المُطلق"، ولا يبغي سوى تطبيق أحكامه. وهكذا على الأحبّاء أن يدركوا بأنّ "غنى المشاعر، ووفرة النّوايا الحسنة والجهد" هي ذات نفع قليل عندما لا يكون سريانها موجّه في القنوات الصّحيحة، وأنّ "حرّية الفرد المُطلقة يجب تطويعها بالمشورة المتبادلة والتّضحية،" وأنّ "روح المبادرة والعمل يجب تعزيزها عن طريق إدراك أعمق للضّرورة القصوى للعمل المتناغم وتكريس أكبر للخير والصّالح العام." وبذلك يميّز الجميع بكلّ سهولة تلك المجالات من النّشاط الّتي يُمكن للفرد ممارسة مبادرته فيها على أفضل وجه عن تلك الّتي تقع على عاتق المؤسّسات وحدها. "بالفؤاد والرّوح"، يتّبع الأحبّاء توجيهات مؤسّساتهم حتّى، كما بيّن حضرة عبد البهاء، "تنتظم الأمور وتترتّب ترتيبًا صحيحًا". وهذا بطبيعة الحال ليس طاعة عمياء؛ بل طاعة تشير إلى انبثاق جنس بشريّ ناضج يفهم مضامين نظامٍ بعيد المدى كنظم حضرة بهاء الله العالميّ الجديد.
وأولئك المدعوّون من بين صفوف النّفوس المشتعلة ليخدموا في مؤسّسات ذلك النّظم العظيم يدركون تمامًا كلمات حضرة وليّ أمر الله بأنّ "وظيفتهم ليست في إملاء إرادتهم، بل التّشاور، والتّشاور ليس فيما بينهم فقط بل بقدر الإمكان مع الأحبّاء الّذين يمثّلونهم". عليهم "ألّا ينساقوا أبدًا للافتراض بأنّهم طراز هيكل الأمر، أو بأنّهم في جوهرهم أعظم قدرة أو أهليّة، أو بأنّهم المروّجون الوحيدون لتعاليم الأمر ومبادئه." ويباشرون مهامّهم "بمنتهى التّواضع" و"يسعون بتحلّيهم بالهمّة والفكر المتفتّح، وبشعورهم الرّفيع بمبادئ العدالة والواجب، وبصراحتهم واعتدالهم وإخلاصهم الكامل لما فيه خير وصالح الأحبّاء وأمر الله والإنسانيّة، ليفوزوا ليس فقط بالثّقة والمساندة الحقيقيّة والاحترام من قبل أولئك الّذين يقومون على خدمتهم فحسب، بل على تقديرهم ومحبّتهم الحقيقيّة أيضًا." ففي بيئة أُنشئت على هذا النّحو، ترى المؤسّسات الّتي مُنحت السّلطة نفسَها بمثابة أدوات لرعاية القدرات الإنسانيّة، تضمن تكشّفها عبر سُبُل مثمرة جديرة بالثّناء.
إنّ جامعة الاسم الأعظم، المؤلّفَة من أفراد ومؤسّسات على هذا النّحو، تصبح ذلك الميدان المشحون بالرّوحانيّة والّذي تتضاعف فيه القوى في عمل موحّد. هذه هي الجامعة الّتي كتب عنها حضرة عبدالبهاء: "عندما تصبح أيّ من النّفوس مؤمنة حقيقيّة يحصل بينها ارتباط روحانيّ وتغدو مظهر المحبّة الرّحمانيّة وتنتشي من قدح محبّة اللّه. ولا شكّ بأنّ ذلك الاتّحاد والارتباط أبديّ أيضًا. أيّ أنّ النّفوس الّتي نست نفسها وتجرّدت عن نقائص عالم البشر وتحرّرت من قيود النّاسوت فلا بدّ وأن تسطع منهم أنوار الوحدة الإلهيّة ويبلغون الوحدة الحقيقيّة في العالم الأبديّ."
مع انضمام المزيد والمزيد من النّفوس المستعدّة إلى أمر الله والمساهمة بنصيبهم مع أولئك الّذين يشاركون فعليًّا في المشروع العالميّ الجاري الآن، فإنّ تطوّر ونشاط الفرد والمؤسّسات والجامعة ستحظى بالتّأكيد بدفعة قويّة إلى الأمام. عسى أن ترى الإنسانيّة الحائرة في العلاقات الآخذة في التّشكّل بين هؤلاء الأبطال الثّلاثة بواسطة أتباع حضرة بهاء الله نمطًا من الحياة الجماعيّة يدفعها نحو قدَرها السّامي. هذا هو دعاؤنا الحارّ في المقامات المقدّسة.
[التّوقيع: بيت العدل الأعظم]